الشعبوية بوصفها حركة سياسية لها قاعدة شعبية واسعة من الطبقة المتوسطة، تحت قيادة بورجوازية صغيرة وقيادة كاريزمية للزعيم تدّعي أنها صوت الشعب في مواجهة النخب الفاسدة، فإن هذه الحركة بمجرد أن تصل إلى السلطة، تتبع سياسة بونابرتية يفترض أنها فوق الطبقات، ولكنها في التحليل النهائي ستكون في خدمة...
بقلم: أحمد نظيف
يبدو أن تدهور مستوى معيشة السكان الآخذ في الانحدار في تونس، هو العامل الوحيد الذي يمكن أن يقوّض النهج الشعبوي الذي يسلكه الرئيس قيس سعيد منذ أكثر من عام. وهو الذي أثبت خلال هذا العام أنه لا يملك أي بديل اقتصادي حقيقي يغير به منوال التنمية المشوّه ويجسر عبره قليلاً من الهوة الطبقية، ويوقف تدهور أوضاع الطبقة الوسطى التي دعمته في صعوده إلى الرئاسة (2019) وفي التمكن من السلطة منفرداً (2021).
بديل الرئيس الوحيد حتى اليوم هو إعادة إنتاج نهج المديونية الخارجية التي سلكتها الائتلافات الحزبية التي حكمت خلال العشرية الماضية، والتي أنتجت كل الظروف المواتية لصعود سعيد ومنظومته الشعبوية، مع استثناءات قدمها الرئيس نفسه لم تخرج عن السردية الشعبوية كمشروع قانون "الشركات الأهلية" وقانون "الصلح مع رجال الأعمال الفاسدين". ولم تقدم هذه القوانين ثماراً حتى الآن، وذلك نابع من رؤية الرئيس القانونية الضيقة التي تعتبر مجرد تغيير القوانين حلاً للمشكلات في الواقع الموضوعي.
واستناداً إلى تحليل مايكل لوي المادي للشعبوية بوصفها حركة سياسية لها قاعدة شعبية واسعة من الطبقة المتوسطة، تحت قيادة بورجوازية صغيرة وقيادة كاريزمية للزعيم تدّعي أنها صوت الشعب في مواجهة النخب الفاسدة، فإن هذه الحركة بمجرد أن تصل إلى السلطة، تتبع سياسة بونابرتية يفترض أنها فوق الطبقات، ولكنها في التحليل النهائي ستكون في خدمة مصالح الطبقة المهينة، كونها توصد الباب أمام أي تغيير وتحافظ على الوضع الراهن لاختلال التوازن الاجتماعي "الستاتيكو" من خلال تأميم الصراع الاجتماعي والمبادرة السياسية.
في المقابل، تبدو حقائق الواقع أشد ألماً وخطورة لعموم الطبقات الاجتماعية، لا سيما الشعبية والمتوسطة، حيث ارتفاع نسب التضخم وشلل قوى الإنتاج المحلي وارتفاع أسعار الغذاء. وهي صورة مكررة في دول عالمثالثية كثيرة تعاني المشكلات الهيكلية نفسها التي يعانيها الاقتصاد التونسي. وقد أضاف الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ذلك، لكنه بعيد كل البعد من كونه العامل الوحيد المفسر للوضع. في نيسان (أبريل) الماضي، دق صندوق النقد الدولي ناقوس الخطر بإعلانه عن "كوكتيل متفجر" يخلط بين النمو الضعيف والتضخم، وهو ما يعيد إحياء مصطلح "التضخم المصحوب بالركود" الذي استخدم في وصف أوضاع السبعينات من القرن الماضي.
ثم خفض صندوق النقد الارتفاع في الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 3.6% هذا العام (مقارنة بـ4.4% في توقعاته في بداية العام و4.9% في الخريف الماضي). ولكن منذ ذلك الحين، تدهور الوضع: في منتصف تموز (يوليو) أعلن الصندوق أنه سيعدل هذه التوقعات، نحو نمو أقل وتضخم أعلى. وينطبق الأمر نفسه على الاتحاد الأوروبي، حيث تتوقع المفوضية الأوروبية في بروكسل نمواً بنسبة 2.7% فقط في عام 2022 ونمواً بنسبة 1.5% فقط مقابل 2.3% كان متوقعاً في أيار (مايو)، وبعد ذلك تم تعديلها نزولاً.
وقد تعمق الأزمة الاقتصادية الأوروبية الحادة مشكلات تونس بوصفها الشريك الاقتصادي والتجاري الأول توريداً وتصديراً، وذلك في ظل الانخفاض الحالي لليورو مقابل الدولار، ما يزيد من سعر المنتجات المستوردة (وبالتالي يغذي التضخم) ويفضل الصادرات في منطقة اليورو (ينخفض سعرها بالدولار). ولعل ارتباط الاقتصاد التونسي بالاقتصاديات الأوروبية سيشكل ثقلاً آخر على إدارة قيس سعيد.
هذا الاضطراب الرأسمالي السائد يخاطر، بالإضافة إلى الحرب، بدفع العالم إلى أزمة اقتصادية جديدة والتي، كالعادة، سوف يتحمل آثارها ووزرها "من هم تحت" قبل كل شيء. في غضون ثلاثة أشهر فقط، تم دفع نحو 71 مليون شخص إضافي حول العالم إلى براثن الفقر، وفقاً لتقرير صدر أخيراً عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. أدت الاضطرابات الاقتصادية التي عززتها الحرب في أوكرانيا إلى زيادة أخرى في أسعار الطاقة والغذاء التي ارتفعت بالفعل بعد العام الأول من الوباء.
خلال الاثني عشر شهراً الماضية، ارتفع سعر القمح بنسبة 64%. وأدت أزمة كوفيد إلى زيادة الديون العامة للبلدان الناشئة من 52% في المتوسط بين عامي 2015 و2019 إلى 67% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021. وفي مذكرة قُدمت إلى مجموعة العشرين، حذر صندوق النقد الدولي من أن هذا التضخم يمكن أن يؤدي إلى "إشعال التوترات الاجتماعية" داخل البلدان المتضررة. وقد تكون سريلانكا -حيث تمت إطاحة الرئيس من قبل حركة شعبية- والإكوادور ـ حيث شهدت عشرة أيام من أعمال الشغب، وسط مطالب السكان بخفض سعر الوقود ـ علامات تحذير.
يبدو أن تونس ستنجح أخيراً في كسب رضا صندوق النقد الدولي من خلال الحصول على قرض جديد لترقيع عجز الموازنة العامة، تحت ضغوط تخشاها القوى الغربية من انهيار للوضع في البلاد، وما يمكن أن يخلفه من مشكلات تتعلق بالهجرة والأمن. وهذه خطوة يمكن أن يكسب بها النظام وقتاً ثميناً في تهدئة غضب الطبقات الشعبية، لكنه لن ينجح على المدى الطويل في إدامة هذا الهدوء، في ظل عدم كفاءة الحكومة ولا الطبقة الحاكمة في إدارة شؤون البلاد.
اضف تعليق