في لعبة الهيمنة، توضع النساء على مقياس يهدف إلى تقييم مدى توافقهن مع الأنوثة الجيدة، في مواجهة الأنوثة "السيئة" (أي المرأة السيئة، المرأة الخطرة) التي يتم استبعادها، وتصويرها بشكل كاريكاتوري، واحتقارها ووصمها. وتشير الأنوثة المهيمنة إلى التمثيلات الأنثوية، والمعايير المتوقعة للأنوثة، والسلوكيات المرتبطة بها والتي تحظى بالتقدير الاجتماعي...
بقلم: أحمد نظيف
لا حديث في فرنسا هذه الأيام في وسائل الإعلام في الشارع، سوى عن قرار الحكومة الفرنسية منع ارتداء العباءة في المدارس. تحاليل صحافية وحلقات نقاش تلفزيونية وبيانات دعم وتنديد، لكن لا أحد تطوع ليشرح لنا ما معنى هذه العباءة، وما شكلها. اللافت أن مجلس الدولة، وهو أعلى هيئة قضائية في فرنسا تنظر في الشكاوى ضد الحكومية، أعلن عن رفضه طلباً قدمته إحدى الجمعيات ضد الحظر الذي فرضته الحكومة، مؤكداً أنه لا يشكل تمييزاً ضد المسلمين، مستنداً إلى قانون حظر الرموز الدينية لعام 2004، أي أن المجلس وضع هذه العباءة في خانة الرموز الدينية دون أن يحدد أحد شكلها وطبيعتها.
في مستوى أول، لا أحد ينكر أن جزءاً أساسياً من لباس قطاع من النساء المسلمات، هو الملابس الطويلة الفضفاضة، والتي يطغى عليها اللون الأسود في بعض البلدان، فيما تختلف ألوانها وأشكال تصميمها من مجتمع إلى آخر. لكن الحديث عن العباءة، أو العباية كما نسميها في العالم العربي، هو في حد ذاته مشكلة بالفعل، خاصة من الناحية القانونية. في الواقع لا قطعة ملابس محددة يمكن تسميتها بذلك، بل مجموعة واسعة ومفتوحة من أنواع الملابس، لذلك فإن تحديدها من الناحية القانونية، لكي ينجح منفذ القانون في منعها سيكون صعباً ومفتوحاً على اجتهاد واسع سيمارسه مديرو المؤسسات التربوية، القائمون على تنفيذ على هذا المنع مباشرةً.
في المستوى الثاني من تحليل الأزمة، يظهر الإشكال الجوهري المتمثل في عقيدة العلمانية الجديدة، التي تأسست منذ عام 2004، من خلال قوانين نيكولا ساركوزي التمييزية والتي جاءت في سياقات سياسية دعائية للرجل وقربه من المحافظين الجدد في أعقاب هجمات أيلول (سبتمبر) 2001، ومنافسته على جزء من قاعدة اليمين المتطرف كي يصعد إلى السلطة بعد سنوات قليلة. هذه "العلمانية الجديدة"، لا علاقة لها بالعلمانية الفرنسية التي تأسست في 1905 للفصل بين الكنيسة والدولة، من خلال الحياد واحترام حرية العقيدة، وكذلك ضمان حرية الضمير والتعبير والنقد حتى ضد الأديان، جميع الأديان. لم يكن ساركوزي وحيداً، بل جمع من حوله فئات تفكر مثله وتنظر للعالم من نوافذ الهيمنة، بوصفها عقيدة الرجل والمرأة البيضاء اللذين يريدان تنوير العالم الملون المتخلف وتبيضه من خلال جعله يتوافق قسراً مع ثقافتهم.
في لعبة الهيمنة، توضع النساء على مقياس يهدف إلى تقييم مدى توافقهن مع الأنوثة الجيدة، في مواجهة الأنوثة "السيئة" (أي المرأة السيئة، المرأة الخطرة) التي يتم استبعادها، وتصويرها بشكل كاريكاتوري، واحتقارها ووصمها. وتشير الأنوثة المهيمنة إلى التمثيلات الأنثوية، والمعايير المتوقعة للأنوثة، والسلوكيات المرتبطة بها والتي تحظى بالتقدير الاجتماعي في ثقافة معينة. والمؤسف أن قطاعاً من النسوية الفرنسية البرجوازية البيضاء قد شاركت في هذا الاستبعاد والوصم، وما زالت تفعل ذلك، تحت شعارات حماية العلمانية حتى لو كلف ذلك التضحية بقيمة المساواة.
وهو ما يظهر بوضوح في قضية العباءة: في هذا النقاش، المعنى الضمني هو تبييض السكان التابعين، وممارساتهم، وقيمهم، وتحويل ذواتهم بحيث تتوافق مع المعايير السائدة. أما الجانب الثاني من عملية نزع الشرعية والوصم فهو ربط ملابس النساء المسلمات، والتي ينتمي بعضهن إلى ثقافات عرقية وليس بالضرورة دينية، بالإسلاموية، وبذلك يجرد من يرتدينها من إنسانيتهن ويضفي الشرعية على جميع عمليات القمع التي تتم في إطار حرب هادئة، ما يجعل هذا العنف الرمزي وأحياناً المادي، مقبولاً سياسياً. النساء اللاتي يرتدين مثل هذه الملابس لسن ضحايا، بل يُفترض أنهن مذنبات. وبالتالي يتم استبعادهن من نضالات المرأة.
إن هذا النهج السلطوي في التعامل مع أجساد النساء وملابسهن، يغذي حالةً مديدةً من المظلومية والشعور بالمهانة لدى قطاع واسع من مواطني الجمهورية، وتالياً يقود إلى نتائج عكسية تتعلق أساساً بعداء هؤلاء الواضح والمتنامي لقوانين الجمهورية وقيمها العلمانية. فهذه العلمانية التي شكلت لعقود المدافع الكبير عن حرية العقيدة، والتي هرب إليها قطاع كبير من المعارضين المسلمين، وحتى الإسلاميون من الأنظمة التي كان بعضها يحكم باسم الإسلام، أصبحت اليوم الوجه المقلوب للنظم الثيوقراطية التي تفرض على النساء لبس الحجاب أو الملابس الفضفاضة، كما في إيران أو أفغانستان أو السودان سابقاً. وقد عبر عن ذلك بشجاعة النائب اليساري، لويس بويارد، بالقول: "حيثما يسعى الرجال إلى أن يفرضوا على النساء ما يجب أن يرتدينه أو لا يرتدينه، ما يجب عليهن فعله أو عدم فعله، سيجدون ثورات من أجل الحرية".
سياسياً، تبدو كل هذه الأزمة مفتعلة ومصنعة من طرف الحكومة، التي استبقت العودة السياسية في شهر أيلول (سبتمبر)، بإعلان حظر العباءة نهاية شهر آب (أغسطس)، كي تحول وجهة النقاش العام من القضايا الاجتماعية والاقتصادية نحو الجدل الثقافي المثير للهستيريا والإثارة الإعلامية. حيث يظل معدل التضخم السنوي لأسعار المواد الغذائية عند 11.1% على مدار عام واحد، وكذلك اللوازم المدرسية، فيما وصل سعر ليتر الوقود إلى متوسط 2 يورو. وفي جميع أنحاء البلاد، أصبحت الهشاشة والفقر تجربة ملموسة لقطاعات كبيرة بشكل متزايد من السكان.
فيما كشفت نتائج المقياس السابع عشر للفقر وعدم الاستقرار الذي أصدرته شركة إيبسوس ونشرته يوم 5 أيلول، أن واحداً من كل ثلاثة فرنسيين (32%) لا يتناول ثلاث وجبات يومياً. وبالنسبة لـ53% من المشاركين، أصبح توفير المال أكثر تعقيداً. فيما اعترف 18% بالسحب على المكشوف كل شهر. ويقول 43% من الفرنسيين إنهم لا يستطيعون تناول الفواكه والخضروات يومياً، فيما 36% من المشاركين يحرمون أنفسهم من الطعام لإطعام أطفالهم.
اضف تعليق