أمام سطوة السلطة والقوة، قلّة هم الناجون منها، رغم أن تأثيرها يحدث بدرجات مختلفة تبعاً للدولة وشكل النظام السياسي فيها؛ فمن الطبيعي أن تكون الأنظمة الاستبدادية أكثر قدرة على إعادة إنتاج نموذج الحاكم نفسه في كل مرة، لأنها تفتقد عموماً إلى أدوات التجديد، فضلاً عن رسوخ بناها التقليدية...
بقلم: حسن إسميك
يقوم هذا المقال على افتراضِ أنَّ الإنسان يتغير حين يصير صاحب سلطة، افتراض تثبته أمثلة تاريخية أكثر من أن تُحصى، وينطبق على معظم من تربعوا على سدة الحكم، في مختلف الأماكن والأزمان، بغضِّ النظر عن اتجاه هذا التغيير وشدته ومسبباته... ما سبب هذا التغيير؟
أهي السلطة بطبيعتها وتعقيداتها ومغرياتها ومسؤولياتها؟ أم أن الجدل الأساسي يكمن حول لفظة التغيير بحد ذاتها، أي أنَّ ما نخاله تغييراً ليس سوى انكشاف المرء أمام من وضعوا ثقتهم به أو نشدوا فيه أملاً ما، أو ربما في أحيان كثيرة انكشافه أمام نفسه حين أظهرت مرآة السلطة وجهه الآخر "الحقيقي" وعرّت نواياه ومبادئه واهدافه؟ طبقاً لما قالته زوجة الرئيس الأميركي الأسبق ميشيل أوباما في أحد تصريحاتها: "أن تكون رئيساً لا يغير منك، إنه يكشف ما أنت عليه بالفعل".
أمام سطوة السلطة والقوة، قلّة هم الناجون منها، رغم أن تأثيرها يحدث بدرجات مختلفة تبعاً للدولة وشكل النظام السياسي فيها؛ فمن الطبيعي أن تكون الأنظمة الاستبدادية أكثر قدرة على إعادة إنتاج نموذج الحاكم نفسه في كل مرة، لأنها تفتقد عموماً إلى أدوات التجديد، فضلاً عن رسوخ بناها التقليدية والتي لا تترك هامشاً كبيراً للتغيير. وغالباً بدل أن يستغل "صاحب السلطة" الجديد فترة حكمه لتحقيق وعوده، يحول تلك الوعود سلَّماً لتحقيق مصالحه الشخصية، وإذا تمكنّ منه إغراء السلطة أكثر، فإنه سيسعى إلى فعل كل ما يضمن له بقاءها في يده، حتى لو عنى ذلك الانقلاب على مبادئه أو جماعته، وتبديل جلده "الناعم" الذي ظهر به من قبل بآخر سميك وخشن لم يعتده مناصروه.
نعرف كلنا أنه، وقبل وصول أي فرد إلى السلطة، بالانتخاب أو بالانقلاب، لا بد من المرور بمرحلة تملؤها الشعارات والوعود، تستهدف مشاعر الشعب، وآماله ومطالبه، وتُدغدغ عواطفه ومشاعره، وتعد بتحقيق ما فشلت السلطة السابقة في تحقيقه، فيبشِّرُ الساعي إلى السلطة الناسَ بحلِّ مشكلاتهم وتحسين أوضاعهم، وبعهد جديد لا يشبه سابقه.. لكن وبعد أمدٍ –قصير أو طويل– يبدأ الحاكم الجديد بالتحول شيئاً فشيئاً، متحللاً من معظم الوعود التي أطلقها، وفي أحيان كثيرة قد ينقلب كلياً على جملة ما نادى به، فيبدو وكأنه قد تسلّق هموم الناس لتحقيق مصلحة شخصية، أو كأن السلطة قالب جاهز لم يستطع سوى الانصهار فيه لينتج نموذجاً مشابهاً لمن سبقه، وربما أسوأ!
الأنانية وفطرة الإنسان!
لماذا يتغير الإنسان حين يمتلك السلطة أو القوة؟ هل العلّة في الطبيعة الإنسانية أم في السلطة ذاتها؟ أعتقد أن الإجابة هي مزيج من الاثنين معاً. يرى سيغموند فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي أن الأنانية تشغل حيزاً واسعاً في البنية النفسية الإنسانية، ويذكر العالم البريطاني ريتشارد دوكينز في كتابه "الجين الأناني" أن الإنسان أناني بطبعه ولولا ذلك لما استطاع البقاء، وعلى أساس هذه الأنانية ظهرت المنافسة والصراع على الموارد، الأمر الذي سمح بتطوير سمات مثل العنصرية والغطرسة ومن ثم اندلاع الحروب.. ما يهمنا هنا هو أن امتلاك القوة والسلطة قد يسمح لصفة الأنانية –الملازمة للإنسان– أن تتطور وتطغى وتصبح الموجه للسلوك، أي أن اقتران هذه الصفة الفطرية بالسلطة يجعل الإنسان يحيد عمّا تعهّد به سابقاً حين يجد أن عهوده لن تخدم مصلحته الخاصة في النهاية.
لم يفت الإغريق، على اعتبار أنهم أول الشعوب التي اهتمت بالتنظيم السياسي للمجتمع، البحث في مسألة ما يطرأ على الأشخاص حين يتولون زمام السلطة، فقد وجدوا أن صفاتٍ مثل التهور -والجنون في بعض الأحيان- متلازمة تصيب أهل السلطة، وعدّوا تلك الصفات عقاباً تفرضه الآلهة على الحكّام إذا لم يلتزموا بأوامرهم. ينقل عن جلوكون وهو أخ الفيلسوف اليوناني أفلاطون وأحد تلامذة سقراط قوله: "إذا كانت الأفعال البشرية غير مرئية للآخرين، فحتى أكثر الأشخاص عدلاً سيتصرفون من أجل أنفسهم تماماً".
واليوم وبعد مضي مئات الأعوام يبحث العلم الحديث في متلازمة نفسية بعوارض واضحة تصيب كثيراً من أصحاب السلطة والمناصب، وتحدث تحت تأثير عوامل مختلفة تربوية واجتماعية وسياسية، هي متلازمة الغطرسة Hubris syndrome أو اضطراب حيازة السلطة.
صاحب هذه المتلازمة يتعامل بازدراء واضح مع الآخرين، ويبدي أفعالاً مضطربة ومتهورة، ويفقد الاتصال بالواقع إلى جانب افتقاده للكفاءة، وهي –حسب ما تشير مقالة منشورة عن هذا الموضوع عام 2009: تظهر وتتطور بعد الاحتفاظ بالسلطة مدة من الزمن، خصوصاً لدى الحكام كبار السن الذين باتوا يعدُّون أنفسهم هم الأمة أو الدولة، فلا يعودون قادرين على الفصل بين المنصب وبين ذواتهم! والملفت أنّ هذا الاعتقاد يصيب محكوميهم أيضاً، ويجعلهم يدافعون عن الحاكم، ويرفضون تغييره أو تجريده من سلطته.
ما يجعلنا نتوقف لحظة لنفكر بطبيعة الشعوب نفسها، خاصة تلك التي تخضع لنظم استبدادية، يعمد هؤلاء عموماً إلى "تأليه" حكامهم، ويختارونهم في الغالب بناء على انتماءات إثنية أو دينية لا تأخذ بالحسبان مؤهلاتهم وكفاءتهم، الأمر الذي يغري هؤلاء بمزيد من الاستبداد.. ويؤدي في النهاية إلى تعاظم سلطاتهم وإحكام قبضتهم أكثر فأكثر على الناس.
بالعودة إلى الدراسات النفسية، وضمن تجربة علمية جرت عام 1971 في إطار أبحاث "سيكولوجيا السلطة"، قام بعض العلماء في جامعة ستانفورد بجعل مجموعة من الأشخاص يرتدون زيّاً عسكرياً وعينوهم كحرّاس لسجن وهمي، فيما أدت مجموعة أخرى من المشاركين دور السجناء، وكان من المقرر أن تستمر التجربة أسبوعين، لكن وبعد 6 أيام فقط لوحظ أن الحراس "المفترضين" أصبحوا عدوانيين، بينما أصبح السجناء سلبيين وعاجزين ومضطربين عاطفياً. وفي تجربة مماثلة حديثة جرت عام 2017، لوحظ أن المجموعة التي ارتدت الزي الذي يرمز إلى القوة، أظهرت عدوانية تجاه مجموعة ترتدي لباساً يدلّ على انتماء صاحبها لطبقة اجتماعية متدنية، مقابل سلوك أكثر احتراماً مع من يرتدون بدلة رسمية أو يظهرون بمظهر أصحاب السلطة.
إذن، وبشكل علمي أكثر تحديداً، يتغير عمل الدماغ نتيجة الشعور بالقوة، حيث يجري تشبيه "مذاق السلطة" على الدماغ بتأثير المخدرات، والذي يؤدي إلى "إدمان" السلطة، قد تفسرّ هذه النتيجة سلوك الكثيرين ممن يتولون منصباً ما، عالياً كان أم متواضع.
دور الآخرين
بعيداً عن الجانب النفسي، يربط البعض تغيّر سلوك أصحاب المناصب بالظروف الجديدة التي يجدون أنفسهم رهناً لها، فقد تكون الصورة من بعيد مختلفة كلياً عن حقيقتها، لا سيما في حكم الدول، التي تجعل سلوك الحكام في النهاية خاضعاً لمجموعة مؤثرات ومحددات داخلية وخارجية لا يستطيعون تجاوزها أو توظيفها بالشكل المأمول، ما يجعل شعارات "الحاكم" السابقة موضع شك، خاصة حين يُنتظر منه الكثير ولا يكون قادراً على فعله، أو ببساطة يكون غير مؤهل لذلك... المعضلة هنا أن كثيراً من هؤلاء -سيما في الأنظمة الاستبدادية- يتمسكون بمناصبهم رغم فشلهم، ولا يتركون مجالاً لآخرين أكثر كفاءة لتولي زمام الأمور، فتُغيب مؤسسات الدولة، ويستبعد أصحاب الكفاءة، وتسود سياسة فرض الرأي الواحد.
كذلك فإن معظم هذه الأنظمة التي يسودها القمع والاستبداد والبطرياركية الصارمة، والتي تمنع الإنسان من التعبير عن رأيه أو الانخراط الفعلي في شؤون بلده، لا تنجح في صناعة مواطن متوازن أو مؤهل بشكل حقيقي لتولي السلطة، فكما يقول المثل المشهور: "فاقد الشيء لا يعطيه"، وليس أدلّ على ذلك من فشل معظم المعارضات في الدول الاستبدادية، حتى إذا وصلت إلى الحكم واستلمت السلطة، ولنا نحن العرب في ذلك باع طويل، فالمعارضات عندنا ليست إلا انعكاساً للأنظمة، التقليدية المترهلة وبلا أدوات للحكم، وإذا شقت لنفسها طريقاً للسلطة ستعيد في الغالب انتاج النظام نفسه عاجلاً أم آجلاً، وستستخدم أدواته نفسها، حتى لو أدانتها في السابق، ولن تقدّم أي جديد أو تُحدث أي تغيير حقيقي مما كانت قد وعدت به..
في المقابل، تنتفي هذه الحالة تقريباً في الأنظمة الليبرالية التي يسودها مناخ من الحرية وتحكم فيها دولة المؤسسات، ويُتاح فيها للناس الاعتراض على عدم كفاءة الحكام، والمطالبة بتنحيهم حين يلزم الأمر. كما أن إدراك أي حاكم بأنه خاضع للمساءلة سيجعله بالطبع أكثر جدية في التعامل مع شؤون الناس، وأكثر استعداداً للعمل والإنجاز إرضاء للشعب وتحقيقاً لتطلعاته.
لا يعني كل ما سبق أن الرؤساء في الأنظمة الأكثر ديموقراطية لا يعرفون نوعاً من الغطرسة منشؤها إحساسهم بالقوة والتفوق على الآخرين، بل عل العكس أظهر كثير منهم سمات الغطرسة وإن بنسب متفاوتة، ففي دراسة شملت 18 رئيساً للويلات المتحدة الأميركية، أبدى معظمهم نوعاً من الاضطراب النفسي يشمل متلازمة الغطرسة –السابق ذكرها– بشكل واضح أثناء فترة حكمه، لا سيما في لحظات الفشل. كذلك عانى كلٌّ من موسوليني وماو من الغطرسة، وتم تشخيص خروتشوف على أنه مصاب بهوس خفيف، وهناك بعض الأدلة على أن صدام حسين كان مصاباً بـ "الاضطراب ثنائي القطب".
كان لدى كليمنتن، زوجة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، الشجاعة لتكتب له في إحدى الخطابات: "حبيبي ونستون، يجب أن أعترف أنني لاحظت تدهوراً في أسلوبك؛ وأنت لست لطيفاً كما اعتدت أن تكون"، وذلك بعد أن أسرّ لها أحدهم أن تشرشل كان يتصرف "بازدراء شديد" تجاه مرؤوسيه في الاجتماعات.. قد تأتي هذه التصرفات أحياناً نتيجة ثقة مطلقة بالنفس تجعل صاحب السلطة يعتقد أنه وحده على صواب والآخرين جميعهم مخطئون، وهنا تكون بداية التغيير السلبي.
ويقول الإمام علي بن أبي طالب: "الولايات مضامير الرجال"، وفيها تظهر حقيقتهم وقدراتهم وصلاحيتهم أو العكس، كما أن القوة والسلطة كفيلة بوضع الإنسان أمام اختبار فعلي لمبادئه وأفكاره ووعوده تجاه من يتولى مسؤوليتهم، فإذا كنا كدول وشعوب عربية ننشد حكاماً لا يضعون أقنعة ولا يقعون في شرك السلطة المغري، علينا أن ندرك أن ذلك يرتبط بنا في جزء كبير منه. وحين نكون أكثر قدرة على الاختيار وأكثر التزاماً بالقوانين وابتعاداً عن الانتماءات التي تقيد خياراتنا، نكون قادرين أيضاً على المحاسبة والمساءلة حين يقرر صاحب السلطة أن يدير لنا ظهره ويُبدِّل جلده.
اضف تعليق