برزت استعارة الحرب في الاعلام بسرعة ضاهت انتشار فيروس كوفيد19، وعلى الرغم من استخدامات مفردة "الحرب" لها تاريخ طويل في الخطابات الإعلامية، الا انها في اطار التعامل مع هذا الفيروس كان لافتا من حيث السرعة والكثافة ومحتوى السيناريوهات الحربية المتكاملة، فالمجازات التي طرحت حولته الى عدو مجهول وخطير....
ليست زخارف ولا محسنات لغوية، لها تأثير كبير على أنماط التفكير وتغيير السلوكيات، طغت على مجمل الخطابات الاعلامية بشقيها الدلالي والتداولي، من خلال نماذج انتقائية مستخدمة في النشرات والبرامج الإخبارية، وتعد أداة مهمة في إعادة صياغة المعرفة المتخصصة في التعميمات المتنقلة، لها روابط ايدولوجية مختلفة بهيكلة تفسير المفاهيم التي يحاول البعض تعزيز وجوده بذلك.
الاستعارة، المفهوم الذي عرف على انه تمثيل لغوي ينتج عن استخدام الكلمة او العبارة من المجال والسياق المتوقع فيه الى سياق او مجال اخر، هل ندرك اثارها الفكرية والسلوكية الناتجة عن أنماطها المستخدمة في المجال الإعلامي سواء على مستوى الخطاب او الواقع؟ وهل هناك بدائل مجازية ممكنة لتلك الاستعارات؟، وبصورة اقرب، هل سيكون هناك بديل عن استعارات الحرب في الجانب الصحي؟
حربا طويلة، جيشا ابيض
برزت استعارة الحرب في الاعلام بسرعة ضاهت انتشار فيروس كوفيد19، وعلى الرغم من استخدامات مفردة "الحرب" لها تاريخ طويل في الخطابات الإعلامية، الا انها في اطار التعامل مع هذا الفيروس كان لافتا من حيث السرعة والكثافة ومحتوى السيناريوهات الحربية المتكاملة، فالمجازات التي طرحت حولته الى عدو مجهول وخطير.
الباحث المتخصص في مجال الاعلام والاتصال في جامعة الأناضول الدكتور حسام الدين عبد القادر بين ان " مع الاستخدام اليومي والمتكرر للاستعارات العنيفة للتعبير عن جائحة كورونا، باعتبار الفيروس عدو مجهول والتعامل معه حربا طويلة، الأطباء والعاملين القريبين من المرضى هم جنود الخطوط الامامية في الجيش الأبيض، والكمامات أسلحة، والتعافي انتصار للمريض وهزيمة للمرض.
وتعمل الدولة القوية على اخلاء المواطنين واجلائهم من مناطق هجومه، بهذه الاسلوبية تحول خطاب الوباء المفاجئ الى حديث حياة يومية، تكمن خطورته في الانتقال من نطاق محاربة الجائحة الى افق أوسع في تعزيز مفاهيم العنف والكراهية".
ويؤكد عبد القادر "ان قدرتها التأثيرية لا تقتصر على النقل والنشر فحسب، بل تتعداه لتغيير وتوجيه الادراك الاجتماعي عن طريق سياسة الأطر الإخبارية من خلال النمط والكثافة والشدة التي يتعرض بها الجمهور لتلك الخطابات".
فيما فسر الدكتور احمد مهدي الدجيلي أستاذ الاعلام في جامعة اعل البيت عليهم السلام والمتخصص في مجال الوعي الصحي ان "زيادة حالات العنف خلال الجائحة نتيجة التعرض المباشر لوسائل الاعلام والتأثر يكون حسب درجة الاعتمادية على تلك الوسائل، وبما ان الصدمة والغموض والمجهول الذي يحيط بالموقف الوبائي، عامل محفز ومساعد على تعزيز الميول لتلك الوسائل؛ شهدنا تهافت كبير من الجمهور على التعرض للمحطات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي بغياب عامل الانتقائية والبحث عن المصداقية".
النبوءة ذاتية وخطورة التماهي
تبدو الاستعارة المجازية لا مفر منها للتعبير عن عدم كفاية المعنى المباشر حتى لو كانت الحرب ضد عدو غير مرئي، يقول باحثون في اللغة ان استخدام مفردة بقوة الحرب يشبه النبوءة الذاتية التحقيق أي ان شيعوها قد يجلب أعباء الحرب الى الواقع، كما ان استخدام ايحاءات القتال عند التفكير في المرض يمكن ان يقفز على الدروس المستفادة منه والمشاكل الهيكلية العميقة التي كشفتها الجائحة.
مع ذلك نجد ان قيادات البلدان التي لها دور مهم في تغيير الواقع لم تتردد في استخدام تلك اللغة المشحونة بالطاقة الحارقة، أمثال الرئيس الصيني شي جين بينغ حين وصف الجائحة "حرب شعبية"، والرئيس الفرنسي فيما بعد اعلن ان بلاده في حالة حرب مع عدو غير مرئي بعيد المنال.
الدجيلي وفي رده عن الانتقائية في التصريحات الإعلامية والخطابات وحتى الصياغات التحريرية للاخبار وتأثيرها في تعزيز الوعي الصحي اكد ان "غياب الدور الفعال للاعلام المتخصص، والعشوائية والتخبط أسباب واضحة لتردي واقع الوعي الصحي يضاف الى ذلك غياب قيادات ﺍﻟﺘوعية ﺍﻟﺼﺤية وهذه الفئة من المتخصصين ليست متوفرة بالشكل المطلوب في اغلب الدول والعراق تحديدا، الأمر الذي يتطلب جهداً مكثفاً من قبل مراكز التعليم المختلفة لإعداد القيادات الصحية، فمن دون ذلك لن يتحقق الهدف الأساس بصورة عامة، وهذا يعني أن ذلك يجب ألا يفهم بصورة ضيقة تتعلق بوجود المرض أو غيابه بل يجب أن تكون أوسع من هذا المفهوم لارتباطها بحياة الإنسان اليومية وتدرس كنمط أساس في المنهاج الدراسي، وتحاول التأثير عليها بما يحقق للمجتمع الصحة والسلامة بمعناها الشامل".
مستدركا بالقول " خطورة التماهي والاستخدام المفرط لمصطلحات تحمل من أفكار العنف بالتأكيد تؤثر على طريقة تفكيرنا، وتجعل من الوفيات اضرار جانبية للحرب المفردة التي توحي بالعدوان ولا تمت بصلة لاساسيات الرعاية الصحية التي ينبغي ان تشاع بزمن الجائحة".
الحرب مقابل الجذب
شهدنا في السنوات الأخيرة أهمية الحصول على اعلى تريندات في مواقع التواصل الاجتماعي، الامر تحول الى هوس لدى البعض متسللا الى المجالات التخصصية، ليحاول الحصول على المرتبة الأولى حتى لو كان الثمن باهظا مجتمعيا وفكريا، وعليه نجد ان تعدد أبواب استعارات الحرب بشكل مكثف في وسائل الاعلام اذا ما غضضنا البصر عن الاجندات التي تدعمها ومدى استفادتها من الازمة، فان البعض يجدها محورا هاما للجذب والاثارة.
الدكتور عبد القادر مشيرا الى بعض من اثار تلك الاثارة قائلا: "استعارات الحرب مؤثرة ومقنعة، فهي تحقق الربط التصوري والذهني الازم بين مجال الحرب كمصدر خبرة وبين الهدف الذي تمثله القضية الحالية التي تحاول القنوات الإعلامية تأطيرها، علما ان تلك الطرائق من الخطابات والسياسات الاخبارية تؤثر على المستقبل كنتيجة للتصور الذهني الذي حصل أعلاه، لأنه وبكل سهولة ينقل إحساس المخاطرة والتحفيز والخوف والتضحية، والانخراط في هذه " الحرب" الممارسة الاجتماعية".
فيما اضافت بعض الاستعارات صفات ذات طابع مؤثر وسريع وملموس، مثلا " الفيروس قاتل ذكي"، صفة الذكاء التي جعلت المتلقي في حالة قلق نفسي شديد لمواجهة هذه المواجهة.
ويكشف عبد القادر ان "اطار الخطوط الامامية في وصف المستشفيات والأماكن العامة كساحتين تدور بهما المعركة المباشرة ضد الفيروس، لا ينقل خبرات ساحات المعارك فحسب، انما تنتقل معها احتمالية ارتفاع نسبة الإصابة او الوفاة للمتواجدين في تلك الأماكن، وهو اثر ادراكي يشير الى تضحيات العاملين بالمجالات داخل ما وصفت بساحات الحرب".
البلاغة المجازية والجائحة الواقعية
يؤثر البناء المفاهيمي لاستعارات كوفيد 19 الحربية على مستويات الخطاب وينتقل من مستوى اللغة الى مستوى التواصل المجرد.
غسان شاب عشريني وطالب جامعي؛ احد عناصر الفرق التطوعية التي دخلت مخاض الحرب مع الوباء؛ يروي لنا تجربته بالقول: " نحن كفريق شبابي تطوعي انطلقنا مع اول صافرة انذار بدخول الفيروس العراق، كنا نتابع عن كثب مجريات الاحداث في العالم وخصوصا تلك التي كانت متطورة بالجانب الصحي، وفعلا وجدنا انها معركة؛ معركة مع عدو مجهول؛ عملنا بالممكن مقارنة مع البلدان التي تمتلك إمكانيات هائلة.
ومع ذلك في بداية الامر كان هناك تخوف بعض الشيء وبدخول الأشهر المتقدمة اصبح ذلك عاديا، وباتت كل الجهود ضائعة بالتوجيه والتوعية الصحية وحتى لو كان تقبل بسيط تجده من النخبة، والمعركة ربما تحولت من مواجهة فيروس قاتل الى ازمة اقتصادية قاتلة للطبقات المتوسطة وذوي الدخل اليومي بالتزامن مع الإجراءات التي اتخذتها الحكومة للحد من انتشار الفيروس".
غسان وهو يتحدث لم يكن يدرك انه متأثر ولحد كبير بالخطاب الإعلامي تجاه الازمة؛ واذا ما عدنا للحوار سنجد انه افتتح كلامه بـ" مخاض الحرب، صافرة الإنذار، معركة، معركة مع عدو مجهول، معركة مرة أخرى، .....".
كل تلك المفردات يصفها الدكتور احمد الدجيلي بـ" التغيير في شكل الممارسة اللغوية الاجتماعية، وهذا يتجسد على مستوى البلاغة بين المجازية لاستخدام مفردات الحرب والحقائق الواقعية للجائحة، ومن الجانب الاجتماعي في الاثار الايدولوجية التي تستلزمها الاستعارات الحربية في مجال التوعية الصحية، فعسكرة المجال الطبي وتغيير اشكال الممارسة المهنية توسع دائرة العداء بين افراد المجتمع، وتفتح أبواب لتنشيط أفكار العنف التي لازلنا نعمل جاهدين للازالة تلك التراكمات التي ولدتها أزمات في مدد زمنية سابقة".
مصادر بديلة
ان سهولة وفعالية استخدام تلك الاستعارات لم تخلو من الإيجابية، اذ يذكر الدكتور عبد القادر انها " ساعدت في زيادة الحيطة والحذر وشجعت الناس على التوحد في اتخاذ الإجراءات الازمة الجماعية، وأيضا علت من قيم التضحية البطولية لدى الافراد".
الا انه يؤكد على " أهمية السيطرة على البيئة الخطابية لخطورتها الانية والمستقبلية على المستويين القريب والبعيد على القيم الادراكية للمجتمع، والابتعاد عن الاستخدام المفرط لتلك الاستعارات ربما هو الحل الأمثل لذلك.
ولا ننسى ان هناك مصادر بديلة كثيرة تعطي أهمية للموضوع ونتائج اكثر إيجابية بشقيها النفسي والعملي، واكثر موائمة للقيم الإنسانية، وبدل المفاتيح المفاهيمية ذات الطابع الحربي والمتضمن العنف والصراع، يمكن استثمار عنصر التحدي للصالح العام، متداخلا مع مفردات التضامن، التعاون، المساعدة، الرحمة، المشاركة، العدالة والمساواة، بهذه الطريقة يمكن الاستفادة من الاستعارات في مجال الرحلات مثلا؛ كالطريق والخطوات والمحطات والمرور والتوقف والوصول والكثير من الصور الذهنية المرتبطة بالسفر".
ربما اجدها اكثر متعة حتى وانا استمع الان وللوهلة الأولى، اذن!، كيف لو استخدمت بالمجال الطبي في الوقت الذي يحتاج المريض الى هذه الجرعة من الامل قبل العلاج الكيمائي؛ بالعودة للدكتور عبد القادر؛ وبما ان الأوبئة تأخذ فترات طويلة جدا حتى يتم السيطرة عليها، يشير الى ان " الأهداف هنا تبنى بشكل تقليدي جدا؛ لان الايماءات تشير الى التقدم، كالمحطات اذا لابد من حركة للوصول، فالمريض هو المسافر، والطبيب دليل سياحي، والطرق والاتجاهات المختلفة يمكن للفرد اختيارها باراته، وتستكمل الرحلة كما يأتي:
" الطوارئ الصحية تمثل تحديا عالميا، الكمامات والإجراءات الاحترازية وسائل عبور نحو بر الأمان، الفحص مرحلة مهمة، والمعترضون على اتخاذ الوقاية يسيرون بالاتجاه المعاكس، والتعافي هو نهاية الرحلة".
وخلاصة القول ان الاستعارات القريبة للواقع الإنساني وذات الطابع المرن والقريب من رغبات الانسان الفكرية والثقافية والاجتماعية والمتلازمة مع قيمه البيئية، تجنبه الكثير من المنزلقات للاثار السلبية الناتجة عن الاستخدام بالأسلوب الحربي، ويمكن لبلاغة " الحرب" ان تعبر وبشكل واضح عن اهداف الخطاب الإعلامي، وتأطيرها بأسلوب معزز للسلامة الصحية في أوقات الطوارئ بشرط الإحاطة والوعي باثارها الإيجابية والسلبية وبالجوانب الحياتية كافة.
اضف تعليق