أما بنو إسرائيل في البريّة، فقد تابوا وأنابوا لما بدر منهم في مخالفة أمر الله سبحانه الذي أمرهم بدخول الأرض المقدسة. لكن انطبق عليهم المثل المعروف: (ندم زيد ولمّا ينفعه الندم) فقد سبق أمر الله سبحانه، لعقوبتهم على المخالفة، بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة...
تذكّر بنو إسرائيل وهم في التّيه أتعابهم السابقة يوم كانوا في مصر تحت تعذيب فرعون، لأنّهم مؤمنون، وفرعون لا يرضى بالإيمان.
وتذكّروا انتـــظارهم لمقدم مـــوسى ـ حسب مـــا كانوا يحفظون من أخبار الأنبياء السابقين أنّ خلاصهم على يد نبيّ اسمه موسى ـ .
وتذكّروا ما لاقوه من ظلم فرعون، حين جاء موسى وأظهر المعجزات، فلم تزد فرعون إلا ضلالاً واستبداداً.
وتذكّروا ضحايا العقيدة، الذين اضطهدهم فرعون لأنّهم آمنوا برب العالمين. تذكّروا قصة السحرة بعد إيمانهم برب العالمين، رب موسى وهارون، حين قال لهم فرعون: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل) فقالوا: لا ضير (إنا إلى ربنا منقلبون)..
وتذكّروا قصّة ماشطة آل فرعون وأولادها كيف عذبهم فرعون الطاغي، بما لا يدل إلا عــلى الحقد الأسود، والاستبداد الجارف.
فقد كانت في بيت فرعون امرأة صالحة، تمشّط زوجة فرعون وبناته وسائر نساء الوزراء والأقارب، وبعد ما علمت بقصة موسى آمنت خفيةً من فرعون وذويه إلى أن انفلت زمام الإخفاء من يدها ذات مرّة.
فقد كانت تمشّط بنت فرعون في يوم من الأيّام، إذ سقط المشط من يدها فقالت مبادرة: باسم الله. فالتفتت بنت فرعون إلى كلامها، فقالت: ومن تعنين بـ(الله)؟ أبي أو غيره؟ قالت الماشطة: بل ربي وربك ورب أبيك، فقالت البنت: لأخبرن بذلك أبي.. ثمّ ذهبت فأخبرت فرعون.
فدعا فرعون بالماشطة وبأولادها، فقال لها: من ربك؟ فقالت: إن ربي وربّك الله.
فأمر فرعون القاسي، بتنور من نحاس، فأحمي، فدعا بها وبأولادها، ثم طلب منها أن تتبرّأ من دينها! لكنّها أبت إلا الصّمود، وكلّما هدّدها أصرّت على قولها، وعند ذلك أمر فرعون بأن يلقى أولادها في التنّور واحداً واحداً، أمام عينها، فما كان من المرأة المؤمنة الصامدة إلا الصبر والتسليم، وتفويض أمرها إلى الله سبحانه.
وصلت النوبة إلى ولدها الصغير، وهو رضيع في حجرها، فجذبوه منها ليلقى في التنور المسجور، ومن الطبيعي أن تضطرب الأم أشد الاضطراب في مثل هذه الحالة، وأن تذرف الدموع الساخنة.. لكن رحمة الله كانت قريبة منها، فما كان من الرضيع إلا أن نطق ـ بأمر الله تعالى ـ مسلّيا أمّه قائلا: اصبري يا أمّاه إنك على الحق. فألهم هذا الكلام قلب الأم الحنون صبراً وصموداً أكثر، كما أحدث في فرعون وآله رجّة شديدةً، كيف يتكلّم الرضيع؟ أليس هذا دليلاً على صدق كلامها وصحّة إيمانها؟ لكنّ الطغاة اعتادوا أن لا يصيخوا للحق، ولو جاءتهم كل آية.
وما هي إلا دقائق، حتى احترق الرضيع، كأُخوته من ذي قبل! ثم ألحقت الأم بأولادها، فألقيت في التنور، فاحترقت.
وانقضى كل شيء.. فلم يكن للماشطة المؤمنة وأولادها الأطهار خبرٌ أو أثر، وبقي الطاغي يتعطش إلى الدماء أكثر فأكثر.
* * *
تذكّر بنو إسرائيل وهم في التيه كل ذلك ـ فإنّه من الطبيعي أن يتذكر الإنسان مآسيه السابقة، حين يقع في مشكلة جديدة ـ .
كما تذكّروا قصة المرأة الصالحة (آسية بنت مزاحم) زوجة فرعون، التي حفظت موسى يوم كان صغيراً، والتي آمنت به سرّاً يوم جاء موسى رسولاً من عند الله تعالى.
فقد كانت من بني إسرائيل، وكانت تعبد الله سرّاً، حتّى رأت ما صنع بالمرأة الصالحة وكشف الله عن بصرها، فإذا بها ترى روح المرأة يصعد بها الملائكة إلى السماء، فزادت إيماناً وإخلاصاً وتصديقاً.
وبينما هي في لوعة وأسى، على المرأة الصالحة دخل عليها فرعون السفّاك فأخذ يخبرها بما صنع بالمرأة، في نشوة النّصر والانتقام.
فلم يكن من (آسية) إلا أن ازوَرَّت عنه قائلةً: الويل لك يا فرعون! ما أجرأك على الله جلّ وعلا؟ فعرف فرعون إنّها هي الثانية أيضاً مؤمنة. فقال لها: لعلّ الجنون الذي اعترى صاحبتك قد اعتراك.
أجابت آسية: كلاّ، لكن آمنت بالله تعالى ربّي وربّك، وربّ العالمين.
غضب فرعون، وأقسم أن يجبرها على الكفر بموسى وإلهه، وإلا أذاقها النكال والعقاب.. لكن المرأة الصالحة تمسّكت بدينها، وأصرّت على عقيدتها.
فما كان من فرعون الأثيم، إلا أن نسي العلاقات الطيّبة بينه وبين المرأة الشريفة (آسية) ونسي خدماتها طيلة عمرها في دار فرعون.. فأمر أن تمدّد (آسية) في الشمس، وتدقّ على يديها ورجليها المسامير الحديديّة، ثم بعد كل ذلك يوضع على صدرها صخرةٌ عظيمةٌ إمعاناً في تعذيبها ونكايةً بها.
ومرّ موسى على مكان التعذيب، فآلمه ما رآه من عذابها، فدعا الله لها، فرفع الله عنها الألم ورأت مكانها في الجنة، فأخذت تضحك من السرور. ولمّا رأى فرعون ضحكها قال: لقد مسّها طائف من الجنون.. لكن الأمر كان بخلاف ذلك.
* * *
طبيعي أن يتذكر بنو إسرائيل فــي التيه قضاياهم السالفة، وان يتذكّروا قصّة مؤمن آل فرعون، فد كان ابن عمّ فرعون ويسمّى (حزقيل) مؤمناً، وكان يكتم إيمانه، وقد جعله فرعون وليّ عهده، لكنّه آمن بموسى لمّا رأى صدقه ومعجزاته.
وذات مرّة وشي به إلى فرعون أنّه قد آمن بالله، فأرسل فرعون رجلين في طلبه، فرأياه في الجبال يصلّي، فجاءا واختلفا هل يخبران فرعون بخبره أم لا؟ أما أحدهما فقال: لن أخبر فرعون وأمّا الآخر فقد أخبره بما رآه، فغضب فرعون أشد الغضب، وقال: لئن كان هذا صادقاً لأعذّبنّ حزقيل عذاباً شديداً.
وعرف (حزقيل) بالأمر، واستعاذ بالله من شر (فرعون) ثم جاء إلى القصر، وهو وجل خائف.. فلمّا استقرّ به المجلس، قال له فرعون: أتنكر ربوبيّتي، وتصلّي لإله غيري؟ قال حزقيل: ومن قال لك ذلك؟ قال فرعون هذا الرجل. قال حزقيل ـ وقد وجد مفرّا من المأزق الحرج:
أيها الملك اسأل هذين الرجلين اللذين وشي أحدهما بي: من ربّهما، وخالقهما، ورازقهما، فسألهما فرعون عن ذلك؟ قالا: ربنا وخالقنا ورازقنا هو أنت أيها الملك.
قال حزقيل: فاشهد أيها الملك، واشهدوا أيها الحاضرون: أن ربهم هو ربي وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، وليس لي غيره خالقاً ورازقاً وربّاً.. وقد قصد بذلك الواقع، فإن خالق الرجلين وخالق حزقيل هو (الله).
لكن فرعون زعم أن حزقيل يقصد (فرعون) فكفّ عنه وأكرمه، وجعله في محل اطمئنانه واستشارته. أما الرجلان، فأحدهما وهو الذي وشى بـحزقيل فقد لاقى جزاءه من فرعون بالصلب، لأن فرعون ظنّ انه كاذباً في وشايته ضد حزقيل وأما الذي كتم صلاة حزقيل فإنه نجا ولم يمس بسوء، ثم آمن هو كما آمن حزقيل وحَسُن إيمانه.
* * *
أما بنو إسرائيل في البريّة، فقد تابوا وأنابوا لما بدر منهم في مخالفة أمر الله سبحانه الذي أمرهم بدخول الأرض المقدسة. لكن انطبق عليهم المثل المعروف: (ندم زيد ولمّا ينفعه الندم) فقد سبق أمر الله سبحانه، لعقوبتهم على المخالفة، بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، وقد كان تيههم في فراسخ معدودة، فإذا أمسوا أخذوا يتحرّكون، ثم إذا أصبحوا رأوا أنّهم في مكانهم الأوّل، وهكذا إذا ساروا صباحاً، وجدوا أنفسهم في الليل في نفس المكان.
وعزم جماعة منهم على الرحيل والرجوع إلى مصر، لكن أنى لهم ذلك، وقد كان المقدّر أن يتيهوا في نفس تلك الأرض. واشتكوا إلى موسى ما يلاقونه في تلك البرية من حر الشمس نهاراً، وبرد الليل والجوع والعطش، فدعا الله موسى (عليه السلام)، فأرسل الله سبحانه قطعة من السحاب كانت تظللهم كل يوم وتقيهم من حر الشمس. كما أن (المنّ) وهو شيء يشبه (الترنجبين) و(السلوى) وهو طير (السّماني) كانا يأتيانهم لأكلهم.
وكان مع موسى حجرٌ يضعه وسط العسكر، فيضربه بعصاه، فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً، لكل سبطٍ من الأسباط نهرٌ خاص به، ليشرب منه الماء ويقضي به حوائجه.
وكانت عصى موسى بالليالي المظلمة تشع لهم، كالمصباح القوي، فيرون الأشياء في نورها.
(وظلّلنا) يا بني إسرائيل (عليكم الغمام) السحاب ليقيكم من حر الشمس، و(أنزلنا عليكم المن والسلوى) لأكلكم ولقنا لكم: (كلوا من طيبات ما رزقناكم)، (وإذا استسقى) طلب الماء (موسى لقومه) (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) فضرب موسى (عليه السلام) الحجر (فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس) من الأسباط الاثني عشر (مشربهم) وقلنا لهم: (كلوا واشربوا من رزق الله).
* * *
بقي بنو إســرائيل في التيه، أكلهم واحد: (المنّ والسلوى) ولهم ظلّ واحدٌ (الغمام) ولهم ماء واحد هو ما يتفجّر من (الصخرة).
أمّا ماذا كان لباسهم؟ وهل كانت لهم خيامٌ؟ وكيف كان يربّون أولادهم؟ وهل كانوا يقضون الأيام والليالي بالبطالة أو العمل؟ وغير ذلك من الأسئلة، فلا نعلم عنها شيئاً ملموساً لكن من الطبيعي أن يتضجّروا ويملّوا هذه الحياة البدائية الرّتيبة، التي لم تدم يوماً ولا شهراً ولا سنةً وإنما استمرّت أربعين عاماً.
ولعلّ إبقاءهم في التّيه لم يكن صرف عقوبةٍ على عدم إطاعتهم في دخول الأرض المقدسة، بل كان وراء ذلك إرادة تأديبهم ونضجهم، ليصلحوا أن يكونوا حملة رسالة موسى إلى الأمم الآتية، فإن حملة الرسالة لابد لهم من عقل ونضج، لا يتوفران للشخص بسرعة، وإنّما بطول المحنة والتجارب والشدائد.
فقد شاءت إرادة الله تعالى أن تكون شريعة موسى (عليه السلام) عالميّة في الفترة ما بين موسى وعيسى، حتى إذا جاء المسيح انتقلت الشريعة إليه، في فترة ما بينه وبين رسول الإسلام، حتى إذا جاء محمد (ص) نسخت شريعته الأديان كلّها، ولم يقبل من أحد غير الإسلام إلى يوم القيامة.
وكيفما كان الأمر.. فقد ملّ بنو إسرائيل في التيه الطّعام الواحد، فقالوا: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع) واطلب (لنا) من (ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها) الخيار (وفومها) الثوم (وعدسها وبصلها) ولعل هذه المذكورات من باب المثال، بأن طلبوا زرع الأرض على عادتهم حين كانوا في مصر.
(قال) موسى في جوابهم: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)؟ أي أتريدون أن ينقطع عنكم الطير والحلوى الميسوران بلا صعوبة، وتقعون في صعوبة الزرع وما يتبعه؟ لكنهم أصرّوا على وجهة نظرهم.. فقال لهم: (اهبطوا مصراً) من هذه الأمصار التي هي قبل الأرض المقدسة، فإن في أطراف التيه كانت قرى، وكان يتوفر فيها الغذاء وما طلبوه، (فإن لكم ما سألتم) من البقل والقثّاء وغيرهما.
فجعل بنو إسرائيل يرتادون القرى، ويحصلون منها على ما يشتهون من الأطعمة.
* * *
هنالك نفوس شريرة بطبعها، ونفوس طيبة في طينتها، وقد كان بنو إسرائيل من القسم الأول، فقد فضّلهم الله على العالمين، إذ بعث فيهم أنبياء، وجعل منهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين.
ثم.. نجّاهم من فرعون الطّاغي، وأهلك عدوّهم، وأراهم الآيات البيّنات، لكنهم أبوا إلا تمرّداً وعُتواً، حتى ابتلاهم بالتيه، ولكنّهم (ضربت عليهم الذلّة والمسكنة) فإنّ الإنسان الحريص لابد وان يكون ذليلاً، كما أن الشخص العاتي يلازم المسكنة.. ومن عجيب أمرهم أنهم من ذلك اليوم إلى هذا اليوم أذلّة مطاردون، لم تستقم لهم دولة، وإذا اغتصبوا مكاناً ـ كفلسطين ـ فإن الاغتصاب إنما يتسنّى لهم بألف تملّق من دول قويّة، وألف بذل لأعراضهم للأعداء، فإن كل واحد يعلم أنهم حصلوا على وعد (بلفور) بإرسال فتياتهم الجميلات إلى الضبّاط والقادة وأهل النفوذ، وهكذا إلى اليوم يجعلون أنفس شيء ـ وهو العرض ـ سبباً لبقاء نفوذهم المزيّف.. ثم بعد ذلك كله، هم في خوف وقلق دائمين من المسلمين الذين أحاطوا بهم، حتى إنهم لا يبرحون السلاح ليل نهار.
وعلى كل حال، فقد ضربت عليهم الذلة الأبدية (وباءوا بغضب من الله) ولعنة الدّهر (ذلك بـ) سبب (أنهم كانوا يكفرون بآيات الله) بأدلته وحججه (ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
فمثلاً: حين كانوا في (التيه) عجزوا عن الإقامة ولم يقدروا على دخول الأرض المقدسة الموعودة، ولمّا ألحّوا على موسى أن يدخلوا بعض البلاد ليشتروا ويأكلوا كما يريدون أجاز لهم أن يدخلوا بيت المقدس، بشرط أن يسجدوا لله شكراً عند باب المدينة، ويقولوا هذه الكلمة: (حطّة) بمعنى: اللهم حطّ عنا ذنوبنا، لكنهم دخلوا الباب قهقرى ـ استهزاءً ـ وقالوا: (حنطة) عوض (حطة).
(وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا) عند دخول المدينة: (حطّةً وادخلوا الباب سجداً) في حال كونكم ساجدين، خاضعين لله تعالى، فإذا فعلتم ذلك (نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين) (فبدّل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم) ولذا نزل عليهم العذاب.
* * *
لم يكن الذين نزلوا التّيه، مع موسى بن عمران (عليه السلام)، قابلين للسيادة والرئاسة، وإدارة شؤون أنفسهم، فإنهم لطول ما استعبدوا في مصر، اعتادوا الذلّة والخنوع، والجبن والإحجام. ولذا لمّا سمح لهم بدخول الأرض المقدسة، خافوا العمالقة، و(قالوا اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون). فإن الإنسان إذا اعتاد على شيء، وتكرّر ذلك الشيء في نفسه، صار ملكةً عنده، لا يزول عنه بسرعة، وهؤلاء اعتادوا أن يكون لهم سيد يسودهم، واعتادوا الخوف والجبن، فلم يصلحوا للسيادة ولم يكونوا شجعاناً.
ولذا كانت مدة مكوثهم في التيه، كفيلةً بانقلابهم ـ بسبب موت الآباء، وخلافة الأبناء ـ فتتحوّل طباعهم بحيث يليقون للسيادة، وتكون فيهم عزيمة الغزو والفتح، وبقوا هناك هذه المدة الطويلة، يرتادون القرى والأرياف حتى مات أكثرهم وجاء مكانهم شعبٌ قويٌ، فيه الجرأة والإقدام، وروح العلوّ والسيادة.
وعندئذ صلحوا لدخول الأرض المقدسة، وأخذوا زمام الأمور بأيديهم.
ومن غريب الأمر أنّ موسى (عليه السلام) وأخاه هارون (عليه السلام) ماتا في ذلك التيه فلم يريا دخول بني إسرائيل الأرض، فيا لحسرة الخلف أن لا يرى القائد معه؟
ثم إن بني إسرائيل عندما كانوا في مصر كانوا تحت نظام فرعون وحكمه، لكنهم لما خرجوا من مصر وسكنوا التيه، كان لابد لهم من نظام ينظم دنياهم، ويكون لهم بمنزلة القانون ونظام آخر لتنظيم أمور دينهم، ويكون لهم الشريعة. ولذا أخذوا يطالبون موسى (عليه السلام) بهذين النظامين.
وحيث إن مثل هذه الأنظمة في شرائع السماء، لابد وان تكون من عند الله تعالى، لأن شرائع الله لا تعترف بالأنظمة الأرضية المحدودة بأفكار الناس.. صار من المقرّر أن يأتي نظام العبادة، ونظام الإدارة من السماء. ولذا رأت صحراء التيه ولادة هذا النظام السماوي المسمّى بـ(التوراة).
* * *
لقد وقع في (التيه) لقوم موسى عدة قضايا مهمة:
منها قصّة (عبادة العجل) فقد وعد موسى قومه أن يأتيهم بكتابٍ فيه نظم أمور دينهم وأمور دنياهم، حسب ما وعده الله سبحانه، فلمّا كانوا في (التيه) طلبوا من موسى إنجاز الوعد.
وقد وعد الله موسى (عليه السلام) أن يأتي إلى الطور، لمدّة ثلاثين يوماً، حتى يعطيه التوراة ولم يكن الوعد أن التوراة تعطى في نهاية ثلاثين يوماً، وإنما كان إعطاء التوراة بعد الموعد ـ في الجملة ـ .
فأخبر موسى بني إسرائيل أنه ذاهب إلى (جبل طور) لتلقّي (التوراة) كما أخبرهم: على أن يبقى ثلاثين يوماً هناك، ولم يخبرهم أنه يأتي مباشرة بعد الثلاثين.
ثم خلّف موسى فيهم أخاه (هارون) (عليه السلام)، وذهب إلى (الميقات). بقي موسى في جبل (طور) (ثلاثين يوماً).
لكن إرادة الله شاءت امتحان (بني إسرائيل) ولذا لم ينزل التوراة في نهاية الثلاثين، وإنما أتمّ الثلاثين بعشرة أخرى، حتى صارت أربعين يوماً.. ثم أعطى (التوراة) في (ألواح) لموسى (عليه السلام).
أما بنو إسرائيل، فإنهم ما كانوا يطيعون هارون لخبثهم، وقد كان هارون (عليه السلام) لين العريكة، يخشى كفرهم وانقلابهم إن شدّد عليهم الأمر.
وهكذا أخذ بنو إسرائيل يجمعون أنفسهم في اجتماعات، للانقلاب، لكنهم كانوا يخشون موسى (عليه السلام)، ولمّا تأخر رجوع موسى اغتنموها فرصة! فتجمهروا أوّلاً، لقتل هارون (عليه السلام)، حتى يخلعوا الشريعة عن أعناقهم، لكنهم لم يتمكنّوا من ذلك، بفضل بعض المخلصين.
ثم.. زاد الأمر انحرافاً، لقد جاءهم (الشيطان) في صورة رجل، وقال لهم إن موسى لم يكن نبياً، وإنما كان رجلاً كذّاباً ـ والعياذ بالله ـ وحيث إنه لا يتمكن من القيام بإدارتكم، فرّ، باسم (الميقات) ولن يرجع إليكم أبداً. فقويت عزيمة بني إسرائيل الأشرار، على أن يخلعوا الشريعة من رقابهم، وأن يرجعوا إلى عبادة غير الله، بما اعتادوا أن يروه في مصر. فقد كانت رواسب الجاهلية الأولى بَعد في نفوسهم.
(وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) ولمّا أراد موسى الذهاب إلى (طور) (قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين).
* * *
لقد قرّر الأشرار من بني إسرائيل الذين كانوا في التيه ـ بعد غيبة موسى (عليه السلام) ـ أن يصنعوا لأنفسهم إلهاً.. وقد كان في بني إسرائيل رجلٌ من الأخيار اسمه (السّامري) وكان قد رأى يوم خروج بني إسرائيل من مصر ـ عبر البحر ـ جبرئيل (عليه السلام) راكباً على (رمكة) فكان فرس جبرئيل كلّما وضع رجله على موضع، تحرّك ذلك الموضع، كأنه شيء حيّ، فاتّخذ (السامري) ذلك اليوم قسماً من تراب حافر فرس جبرئيل وادّخره لنفسه.
ثمّ.. إن السامري، التفّ حوله القوم، طالبين منه أن يصنع لهم (صنماً) يعبدونه، فقال السامري: علي بالذّهب الذي معكم من الحلي والحلل، فجاءوا إليه بما كان عندهم من الذهب، فأذابه وصنع منه صورة (عجل)، وألقى ذلك التراب في جوفه، فأخذ العجل يخور من أثر تحرّك التراب في جوفه.
وقال لهم: (هذا إلهكم) يا معاشر بني إسرائيل..
وهؤلاء قد علموا فذلكة السامري، لأنهم كانوا رأوا التراب وحركته من قبل، إذ كان السامري يفتخر عليهم بذلك التراب.. لكنهم كانوا يريدون التخلص من الشريعة، وعبادة الله سبحانه، فاتخذوا العجل إلهاً.
سجد سبعون ألف شخص من أولئك الذين كانوا في التيه (للعجل)، وكلما نصحهم (هارون) والخيار من أصحاب موسى (عليه السلام)، لم ينفع فيهم النصح.
وحيث كان موسى (عليه السلام) في الجبل، أوحى إليه الله تعالى بقصّة (السامري) و(العجل) (قال) الله (فإنّا فتنّا) وامتحنّا (قومك من بعدك وأظلّهم السامري) ولمّا انتهى أمد الطور وأخذ موسى الألواح (رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً)؟ كما رأيتم من خلاصكم من فرعون، وإعطائكم الكتاب (أفطال عليكم العهد)؟ حتى عبدتم العجل (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي) في بقائكم على الشريعة وإطاعتكم لهارون؟
لكن هل يكون لهم عذرٌ معقول أمام موسى، وما اقترفوه من الإجرام؟
* * *
لم يكن لبني إسرائيل الذين عبدوا العجل، في غياب موسى (عليه السلام)، عذر مشروع، ولذا أخذوا يعتذرون بهذا العذر التّافه (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) ونحن نملك أمرنا، حتى نتمكّن أن نفعل أو ندع (ولكنّا حمّلنا أوزاراً من زينة القوم) فقد كان عندنا أحمال من ذهب آل فرعون ـ من مصر ـ (فقذفناها) وألقيناها في البوتقة لإذابتها (فكذلك ألقى السامري) الذهب في البوتقة، للإذابة.
(فأخرج) السامري (لهم عجلاً) صغير البقر (جسداً) فلم يكن عجلاً حقيقياً، وإنما تمثال عجلٍ مصنوع من الذهب (له خوار) أي صوتٌ من جرّاء تحرّك التراب الذي اتخذه السامري من تحت حافر فرس جبرئيل ووضعه في داخل العجل (فقالوا) السامري ومن آزره في صنع العجل (هذا) العجل (إلهكم) يا معاشر بني إسرائيل، كما أنه أيضاً (إله موسى فنسي أفلا يرون ألا ترجع إليهم قولاً) فإنه كيف يكون إلهاً ولا يقدر على التكلّم الذي هو أبسط مظاهر الحياة؟ وهل يكون جمادٌ عاجزٌ إلهاً؟ (ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً) فهل يملك الجماد أن يضرّ شخصاً، أو ينفع شخصاً؟
(ولقد قال لهم هارون من قبل) من قبل رجوع موسى (عليه السلام): (يا قوم إنما فتنتم به) فإنه امتحان لكم، ليتبيّن المؤمن حقيقة من المؤمن ظاهراً (وإن ربكم الرحمن) لا هذا العجل، (فاتبعوني) يا قوم (وأطيعوا أمري) في عبادة الله تعالى.
فماذا كان جواب بني إسرائيل لهارون المشفق الناصح؟ (قالوا لن نبرح عليه عاكفين) فإنا نستمر في عبادة العجل (حتى يرجع إلينا موسى) من الميقات.
هكذا كان موقف بني إسرائيل إزاء العجل.. العبادة والسجدة. وكذلك كان موقف هارون أمام بني إسرائيل.. النصح والإرشاد.. فلم يقبلوا كلامه. فلننظر إلى موقف موسى (عليه السلام) مع أخيه (هارون)؟
لقد غضب موسى على بني إسرائيل أشد الغضب، وأسف لضعف عقولهم أشد الأسف ولذا توجّه أوّلاً إلى أخيه، مظهراً استياءه من القوم على سبيل: إياك أعني واسمعي يا جارة ـ فـ(قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتبعن)؟ أي: لماذا لم تتبعني في النهي عن المنكر وعقاب المخالف إذ رأيت بني إسرائيل ضلّوا عن طريق الهدى؟ (أفعصيت أمري)؟ وقد كان هذا سؤال العارف.
* * *
وقد كان أخذ موسى (عليه السلام) برأس هارون ولحيته، إظهاراً لشدّة غضبه على القوم على نحو: (حرب الصّاغة).
فـ(قال) هارون: (يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) حتى يزعم القوم أنك غضبت عليّ، فإني أنكرت عملهم ـ كما تعلم ـ وإنّما لم أنزل العقوبة بهم خشية التفرقة بين كلمة بني إسرائيل، فإنه إذا عنّف الإنسان ببعض جماعته تفرّق الجمع إلى مؤيد ومخالف. فـ(إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي).
* * *
أما موقف موسى من (السامري) ومن (العجل) ومن (بني إسرائيل):
فقد توجه موسى (عليه السلام) إلى (السامري) فـ(قال فما خطبك) وقصتك (يا سامري) كيف صنعت العجل، ولماذا صنعته؟ (قال) السامري: (بصرت) ورأيت (بما لم يبصروا به) من تحرّك التراب تحت حافر فرس جبرئيل يوم غرق فرعون (فقبضت قبضة من) تراب (أثر الرسول) جبرئيل (ع) (فنبذتها) أي جعلتها في جوف العجل.. هذا ما كان من أمر العجل، وأما لماذا صنعت العجل؟ فقد (سوّلت لي نفسي) وزيّنت لي هذا العمل البشع.
عند ذاك (قال) موسى (عليه السلام) للسامري: (فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) قيل ـ في معناه ـ أنّه إذا كان يمسّه أحد، ابتلى السامري والماس بالحمّى فوراً، فكان يقول السامري إذا اقترب من أحد: (لا مساس) أي لا تمسّني، وأخيراً هام على وجهه في البريّة، فرار من ابتلائه بالحمّى، عند اصطكاكه بالآخرين (وإن لك) يا سامريّ (موعداً لن تخلفه) فقد أخّر تعذيبك إلى الآخرة، وإنما لم يعذبه موسى (عليه السلام)، لأنه كان سخياً، فأمهله الله سبحانه، كرامة لهذه الصفة.
وبعد هذا.. وصل الدور إلى (العجل) فقد برده موسى (عليه السلام) بالمبرد، وذرّه في البحر، زيادةً في النكاية بعباده، فإنه من النكاية بالعابد لشيء إهانة معبودِه ـ ولذا تجعل آلهة الكفار حصب جهنم، كما قال سبحانه: (أنتم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم) وعلى هذا خاطب موسى (السامري) قائلاً: (وانظر إلى إلهك) أي العجل (الذي ظللت عليه عاكفاً) تعبده دون الله تعالى (لنحرقنّه) تحريقاً بالنار حتى يذوب (ثم لننسفنّه) بعد أن نحطّمه بالمبرد (في اليم) أي البحر (نسفاً) حتى لا يبقى له أثر أصلاً، فإن العجل ليس إلهاً، (إنما إلهكم) يا بني إسرائيل (الله الذي لا اله إلا هو وحده لا شريك له وسع كل شيء علماً) فإن علمه شامل لكل شيء، وليس العجل الذي لا يعلم أي شيء.
وهكذا صنع موسى (عليه السلام)، فإنه أحرق العجل، ثم حطّمه، ثم نسفه في البحر.
ومن عجيب الأمر: أن جماعةً من الذين عبدوا العجل ممن (أُشرِبوا في قلوبهم العجل) كانوا يلقون أنفسهم في البحر، ليشربوا الماء المخلوط برماد العجل.
وهكذا انتهى أمر (السامري) بالخسران والخيبة والعذاب، وانتهى أمر (العجل) بالحرق والنسف في اليم.
* * *
أما القوم الذين عبدوا العجل.. فقد قرّر الله لهم توبةً فريدةً في نوعها، وهي أن يشهر الجميع ـ العابد للعجل، والساكت عليه ـ سيوفهم، بعضهم على بعض، وهكذا يقتل البعض البعض الآخر حتى يأمرهم موسى بالكفّ عن ذلك، فـ(قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) إلهاً (فتوبوا إلى بارئكم) خالقكم، أي الله سبحانه (فاقتلوا أنفسكم) ليقبل توبتكم بهذا السبب (ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم) لأنه ينجّيكم من العذاب الأبد.
وحيث أنكم فعلتم ما أمرتم (تاب) الله (عليكم إنه هو التواب الرحيم).
فقد وقف بنو إسرائيل صفّين طويلين، شاهرين السيوف، وغشيتهم ظلمة، حتى لا يرى القاتل المقتول فيرق له، وأخذ يقتل بعضهم بعضاً، وموسى وهارون عليهما السلام وقفاً يتضرّعان إلى الله سبحانه، في رفع هذا الحكم، وإنزال التوبة.
حتى ارتفعت الظلمة، ونزلت التوبة، وسرّ الجميع، وبعد ما أحصوا القتلى، انكشف الأمر عن سبعين ألف قتيل!!
يا لدهشة الأمر؟ لعظم الهول؟! لا تكون التوبة إلا هكذا، ولا تنجلي المعركة، إلا بسبعين ألف قتيل؟ ومن القاتل؟ ومن المقتول؟ أبناء وآباء وأقرباء، وإخوان!! كيف كان هذا الحكم! وكيف رضيت نفوس بني إسرائيل بتوبة كهذه.
الأصح أن نقول: العلم عند الله.
لكن من المظنون أن الله سبحانه، قدّر رؤوس الفساد بهذه الكيفية، فإنّ في كل أمة جماعةً لا يزالون يعبثون بمقدّرات الأمة، وينشرون الفساد والضلال، ولا نجاة للأمة في حاضر أمرها، ولا للأجيال الآتية في المستقبل، إلا بالتخلّص من مؤامرات هؤلاء وإفسادهم، أليس من الأحسن أن يقتل سبعون ألفاً لنجاة ملايين من البشر؟
إن من يرى اعتداء (اليهود) على بلاد الإسلام، وغير بلاد الإسلام، ـ هذا اليوم ـ يعرف كيف أن هذا الحكم كان عادلاً! إن اليهود بعد مرور هذه الحقبة الطويلة من الزمن، وتحضرهم، لا يرعوون عن كل فساد وإفساد، وإن كان فيه هلاك العالم، فكيف بذلك اليوم؟ وهم بعد في أول السير نحو الحضارة والمدنية.. وقد كان سبحانه يعلم من يقتل في ذلك اليوم، فلم ينل السيف إلا المستحق.
وكيف كان.. إقدام القاتلين على قتل أقربائهم توبة لهم، كما كان موت المقتولين أيضاً توبةً لهم ـ من غير فرق بين العابد للعجل والساكت عن المنكر، قاتلاً ومقتولاً، فكلّهم كانوا شركاء في الجريمة ـ.
ولكن هل تنتهي عند هذا الحد قصّة بني إسرائيل؟
كلا! إن لهم قصة طويلة، ذات فروع، وكما لا تنتهي القصّة عند هذا الحد، كذلك لا ينتهي تمردهم وعتوّهم عند عبادة العجل، والتوبة على يد موسى.. فإن من جبل على الشر وإن تاب ألف مرة، لا ينتهي غيّه، وبنو إسرائيل وإن كانوا مفضّلين على عالمي زمانهم من جهة، لكنّهم من جهة أخرى كانوا أكثر الأمم شرّاً وفساداً، وكانت فيهم قطاعات كبيرةٌ من أهل الشرّ والفساد، وكيف جمعت فيهم فئة كبيرة من الصالحين حتى يستحقّوا أن يقال عنهم: (فضّلتكم على العالمين) وفئة كبيرة من الأشرار، حتى يستحقوا أن يقال عنهم: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)! فذلك مما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
اضف تعليق