هذا الكتاب (كيف تدير الأمور) انبعاث طبيعي عن الوضع الاجتماعي الذي نعاشره نحن المسلمين، في هذا النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري.
فقد فكرتُ طويلاً في العلاج، واستشرت كثيراً من الأصدقاء، وأخيراً وصلت إلى بعض الأسباب، أو بالأحرى: إنني ظننت أنها بعض أسباب التأخر والانحطاط.
وهذا الكتاب يعالج جانباً واحداً من تلك الجوانب، التي قادت الاستشارة والتفكير إليها، ولست أعلم كم لهذا الكتاب من الاعتبار في نظر الواقع ومتن الحقيقة، وإنما كان همي في هذا الكتاب أن أبين ما وصل إليه فكري عند التحري عن الحقيقة في سبب التأخر والانحطاط.
والكتاب كما يشير إليه اسمه، محاولة متواضعة في أبسط مظاهرها، لبيان كيفية إدارة الأمور، لمن أنيطت به الأمور، أو كان في صراط أن تناط به.
فإذا كانت عقيدتنا حقة مائة في مائة، والأفراد مسلمون، والمنابع الاقتصادية تتفجر في أراضينا، ومنطقتنا وسط نوعاً ما مما يسبب إحتياج أهل العالم إليها، ونظامنا أحسن نظام تلي على البشر أو يتلى من بعد، تلاوة سماوية في صورة دين(1)، أو تلاوة أرضية في صورة قانون، فما هو سبب التأخر والانحطاط يا ترى.
إن من أسباب التأخر (عدم الإدارة)، فإننا عاجزون عن إدارة الأمور على وجه الصواب، كالذي يعجز عن البناء فإنه لا يتمكن أن يبني القصر، وإن توفرت لديه مواد الإنشاء في أحسن صورها.
وكل رجائي أن يتقبله الله بقبول حسن، وأن ينفعني وسائر إخواني به، ويجعله فاتحة سلسلة توقظ أصحاب الآلام لهذا التأخر المشين لكل السلسلة، وهو المستعان.
محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي
(1)
دور الإدارة في الحياة
يقال: إن الإمام المجدد الحاج السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي (قدس سره) قال ذات مرة: الرئاسة ـ ويقصد منها المرجعية الدينية ـ تحتاج إلى مائة جزء، جزء العلم، وجزء العدالة، وثمانية وتسعون جزءاً الإدارة. (راجع: هدية الرازي).
وهذا الكلام صحيح جداً، فإنا نرى توفر العلم والعدالة في كثير من الأشخاص، ثم لا نراهم مراجع لإدارة أمور المسلمين، فماذا الذي كان ناقصاً فيهم، حتى تأخروا.
إن النقص كان في ناحية الإدارة.
أما قوله: (ثمانية وتسعون جزءاً) فهذا من قبل التأكيد على هذه النقطة المهمة.
والاحتياج إلى (الإدارة) ليس خاصاً بمرجع التقليد، بل هو عام لكل من يناط به أمر، أو يكون في الطريق إلى الإناطة.
فالملك، ورئيس الجمهورية، والوزير، ومدير المدرسة، ورئيس الصحة، وإمام الجماعة، ومدير المجلة، والواعظ.. إلى ساعي البريد، والطباخ، كلهم يحتاجون إلى (الإدارة)، فإن حسنت إدارتهم تمكنوا أن يقوموا بالمهمة بخير وسلام وتقدم، وإلا فالوقوف، ثم الانحطاط إلى حيث الجمود الأبدي.
كما أن الإنسان الحسن الإدارة يتقدم مرحلة فمرحلة، حتى ينتهي إلى غاية ما فوقها مرحلة، إن سار في مثل هذا الخط، كمن يبتدئ طالب علم متواضع ثم ينتهي إلى مرجع عام للمسلمين، أو إلى آخر مراحل خط سيره، كالتلميذ المتواضع في الصف الأول ينتهي إلى وزير المعارف.
هذا بالنسبة إلى الخط التصاعدي، أما بالنسبة إلى من تربع في قمة (صدفة) وهو سيء الإدارة فالأمر لا يخلو من اثنين:
1: أن لا تصحبه القوة، وجزاء هذا أن ينفض الناس من حوله سراعاً، فتتلاشى إدارته.
2: أن تصحبه القوة، وهذا يزاح عن منصبه بقوة مقابلة، تحصلها الفئة التي تؤثر فيهم سوء إدارته، ولذا قيل: (يتمكن الإنسان أن يصنع بالحراب كل شيء، ولكن لا يتمكن أن يجلس عليه).
ولما ذكرناه أمثلة شاهدة على صدق المقال أضربنا عنها صفحاً.
فالإدارة:
1: تأتي بالقدرة.
2: تحفظها.
3: تنمّيها.
4: تأتي بأفضل النتائج.
5: في أقصر وقت.
6: بأقل قدر من المصاعب.
(2)
الإدارة غريزة أم اكتساب
الصفات النفسية كأعضاء البدن، في حالة (خامات) قابلة للنمو، فكما أن اليد في الطفل تنمو رويداً رويداً، حتى تنتهي إلى قدرها المعين، في الطول والعرض، والكيفية والمزايا، كذلك علم الطفل، قابل لأن ينمو حتى يصبح علماً من كبار أعلام المعرفة.
وهكذا بالنسبة إلى سائر الصفات والغرائز.
والصفة مثل (العضو) في:
1: أن نموها يحتاج إلى الغذاء، فكما أن اليد لا تنمو إذا انقطع عنها الغذاء، كذلك العلم لا ينمو إذا لم يتعلم.
2: أن لكل منهما قدراً خاصاً من النمو، وغاية إذا وصل إليها توقف، فكما أن اليد لا تصير بالغذاء أذرعاً، كذلك العلم، لا يمكن أن ينتهي إلى علوم كثيرة(2) مهما جدّ المتعلم وتعب وطال عمره.
بينما أن (الصفة) تخالف (العضو) في أن من الممكن بقاء الصفة في حالة بدائية، فمن لم يتعلم يبقى جاهلاً، بخلاف العضو فإنه إذا انقطع عنه معين الغذاء ضمر ومات.
وأصل (الإدارة) من (الصفات)، فهي بالنسبة إلى حدودها في الجملة غريزة، فمثلها في مختلف الأفراد مثل الفرق في الذكاء بين الإنسان الفطن والبليد.
بينما أن (الإدارة) بالنسبة إلى (البدائية) و(النمو الممكن) اكتساب، لكن اكتساب (حسن الإدارة) يحتاج إلى طول جهاد وكثرة تعلم وزيادة ممارسة، وإلاّ بقيت في أواسط المراحل الممكنة.
كالعلم عيناً قابل للامتداد إن اتصل بعينه، وقابل للوقوف في مراحل توسطية بين المبدأ والمنتهى، بقدر ما زود من الوقود.
وها نذكر نقاط مهمة على من يريد (حسن الإدارة) أن يراعيها بكل شدة وعناية، وبقدر مراعاة هذه النقاط تتحسن الإدارة، كما أن بقدر إهمالها تسوء الإدارة، فعلى الإنسان إذا أراد (حسن الإدارة) أن يواظب مدة مديدة بكل إلتفات ودقة هذه النقاط، حتى تصبح الإدارة الحسنة بمراعاة هذه النقاط، في كل مناسبة ملكة له، يصدر الإنسان منها بكل عفوية كسائر الملكات.
مثلاً: الحفظ ابتداءً أمر صعب، لكن الحافظ إذا واظب على قراءته وحفظه مدة مديدة، يصبح المحفوظات ملكة له يصدر منها عفوياً، ولو انشغل في أثناء القراءة بشيء آخر وذهل عن الالتفات إلى ما يقرأ.
وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة، لم يكن ضبط النفس وحسن الإدارة يكلفه رهقاً، بل يأتي منه في كل مناسبة عفواً، حتى يصبح خلاف ذلك أمراً شاقاً صعباً عنده، وها هي النقاط متسلسلاً.
(3)
الصبر
اعتياد الصبر على المكاره، فإن الإدارة تستلزم المكاره، سواء من الرؤساء، أو الزملاء، أو المرؤوسين، أو نفس الأعمال، فبدون الصبر لا يتمكن الإنسان من إنجاز إدارته على وجه حسن.
فغالباً الرؤساء يتوقعون من الإنسان أشياء ليس بإمكانه الإتيان
بها، فإذا صبر على توقعاتهم، ولم يظهر التبرم والضجر، يتلاشى طلبات الرؤساء ويبقى هو ممدوحاً لحسن إدارته.
كما أن الغالب كون الزملاء في صدد الحسد وحساب الزلة وتكبير العثرة، فإن صبر الإنسان عليهم تلاشت أتعابهم في تحطيمه، وبقي هو مرفوع الرأس لحسن إدارته.
والمرؤوسون كثيراً ما لا يطيعون الإنسان فيما يأمر وينهى، مما يسبب تأثر أعصابه، وانحراف بعض الأعمال، فإن صبر عليهم خرج من المعركة ظافراً، وإلّا سقطت إدارته ووصم بضعف الإدارة.
أما طبيعة العمل، فمن الأعمال اللازمة في مهمة الإنسان قد لا يتأتى بيسر وسهولة، فإن صبر الإنسان حتى أنجز تلك الأعمال وصل إلى القمة، وإلاّ فشل، ودل ذلك على ضعف إدارته، وإذا نظر الإنسان إلى المديرين الناجحين رآهم يتحلون بهذه الصفة (الصبر) في حسن إدارتهم.
(4)
((السكوت في بعض المواقف))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة (السكوت)، فإن النتائج تترتب على الأعمال لا على الأقوال، والقول في غير موضعه كثيراً ما يسبب الفشل.
والسكوت إنما يكون عن أمور:
أولاً: عن الانتقاد، فلا يفتح الإنسان فاه بانتقاد إنسان مربوط بالعمل أو غير مربوط به، فإن انتقاد الإنسان المربوط بالعمل وإن كان حقاً يثيره، مما يسبب التقليل من نشاطه، أو قيامه ضد المنتقد، وانتقاد غير المربوط بالعمل يسبب إثارته بما لا داعي له، فيؤثر كلام ذلك المنتقد في أعصاب هذا المنتقد وينتقص منه، وكلا الأمرين موجب لضعف الإدارة أو الاجتماع.
ثانياً: عن الانتقاد الموجه إليه، فإنه مهما بلغ الانتقاد لا يؤثر في الإنسان إذا سكت، بخلاف ما إذا أجابه المنتقد بالرد، فإنه يصرف النشاط بلا فائدة، والناس دائماً مع الساكت، فإذا تكلم كانوا له أو عليه.
ثالثاً: عن الهدر في الكلام، مما يبتلى به كثير من أصحاب الأعمال، وقد كان أحد أحزاب (إندونيسيا) الكبار، شعارهم: (قلة الكلام وكثرة العمل) وما أجمله من شعار، وفي المثل (العمل بكل صمت وهدوء علامة النجاح).
أما من يتكلم لإنجاز مهمة بقدر الضرورة، فإن الكلام في مثل هذا الموقع ضروري، وليس المقصود من (السكوت) الذي نجعله من شرائط حسن الإدارة، المنع عن مثل هذا الكلام المضطر إليه.
(5)
((المعرفة الشمولية))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة (معرفة مداخل الأمور ومخارجها)، فقد جعل الله سبحانه لكل شيء سبباً، وجعل لكل مشكلة حلاً، وجعل من كل عويصة مخرجاً.
والرجل في إدارته كثيراً ما يريد غاية، أو يريد الخروج عن مشكلة، فإن توصل إلى سبب تلك الغاية أنجزها بسلام، وكذلك إن توصل إلى وجه الحل لتلك المشكلة خرج منها مرفوع الرأس.
أما إذا لم يعرف المداخل والمخارج فلا يصل إلى الغاية، ولا يعرف حل المشكلة، وبذلك يفشل.
وإليك مثلاً لذلك: إذا كنت تريد السفر، فإن عرفت كيف ينبغي أن تستأجر السيارة، وممن، وصلت إلى المقصد، وإلاّ بقيت في مكانك.
وإذا عطبت السيارة في أثناء الطريق، فإن عرفت كيف تصلحها، وصلت إلى المقصد، وإلاّ بقيت في الصحراء.
ثم إن معرفة مداخل الأمور ومخارجها ليس بالأمر اليسير، وإنما هذه النقطة من نقاط حسن الإدارة، وتحتاج إلى مزيد من العلم والتجربة والوعي والاستشارة.
وكثيراً ما يكون هناك أسباب أو حلول، فاللازم على الإنسان أن يرى أفضلها، وإلا لم يتسم بحسن الإدارة، مثلاً إذا كانت الطرق إلى بلدة متعددة، كان أقربها وأيسرها هو الأفضل، وإذا كانت المشكلة لها طرق في الحل، كان أجملها وأسهلها هو الأفضل.
(6)
((أحوال المدراء العظماء))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: الاستمرار في مطالعة أحوال العظماء المديرين، فإن حياتهم تنير للإنسان كيفية الإدارة، فكما أن التجارب للإنسان نفسه تنير طريقه في المستقبل، كذلك التجارب التي جربها غيره، فإن الأمور نظائر وأشباه، والحلول السابقة هي الحلول اللاحقة.
فإذا درس الإنسان أحوال العظماء، عرف منهم كيفية الإدارة والحلول الصحيحة المريحة، أما إذا لم يطالع واعتمد على نفسه، كان كمن يريد بناء الدار بدون التعلم من أستاذ، فهل من الممكن أن يبني داراً جميلة اعتماداً على ذوقه.
ومن الملحق بهذا الفصل مطالعة الكتب النافعة، فإن الإدارة مثلها مثل نهر جار إنما يتكون من قطرات، وهذه القطرات إنما تتجمع من ألف حكمة وحكمة، ومائة تجربة وتجربة.
واللازم الاستمرار في المطالعة، لأجل أن الانقطاع عنها كانقطاع الشجرة اليانعة من الماء، فكما لا يكفي في بقاء الشجرة حية مدة من السقي، فإنه إذا انقطع عنها الماء تجف، كذلك المعرفة تحتاج إلى استمرار معين للتعلم، فإنه بالانقطاع يكون الجفاف، وهناك سوء الإدارة فالفشل.
(7)
((ترجيح الأهم على المهم))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: ترجيح الأهم على المهم، فإنه في كثير من الأحيان تتعارض المصالح فأيتها تقدم، أو تتعارض المفاسد فأتيها لابد منها اضطراراً.
فعلى الإنسان أن يقدم الأكثر صلاحاً، أو الأقل فساداً، وإلاّ فاته الأصلح، أو وقع في الأفسد، وكلاهما يوجب ضعف الإدارة.
مثلاً هناك عامل نشيط يفيد المعمل نشاطه لكنه غير نزيه، فعلى المدير أن يرى أيهما أرجح، هل بقاء العامل في المعمل لنشاطه، أو إقالته لعدم نزاهته، معتمداً في ذلك المقارنة والفكر والعقل، فقد يكون عدم نزاهته يوجب وصمة المعمل أو عدوى إلى سائر العمال، أو نقصاً كبيراً في الربح لأنه خائن، وهنا يقدم المدير فصله على بقائه، وقد يكون عدم نزاهته لا يضر إلاّ نفسه، وهنا يرجح بقاءه.
وأمثال هذه الأمور تترائى للمدير في كل خطوة، فإن لم يعمل بالحزم في اختيار الأصلح ضعفت إدارته، بل ربما آل إلى الإنهيار.
(8)
((العفو))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة العفو، فإن الإنسان مهما بلغت رتبته ـ باستثناء المعصوم (عليه السلام) ـ يكون معرضاً للأخطاء، وربما أخطاء فادحة.
فإن أراد المدير أخذ الناس بأخطائهم لم تستقم له الإدارة، يقول الشاعر:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
وربما يبدو هذا الشرط لمن لم يبتل بالإدارة، تافهاً، لكن المبتلى بالإدارة يعرف ما لهذا الشرط من قيمة.
وليس اعتباطاً أمر الله سبحانه ورسوله (صلى الله عليه وآله) بأخذ العفو، حيث يقول عز شأنه:
(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(3).
وليس المراد العفو مطلقاً حتى ما يوجب فساد المرؤوس أو شلل العمال، بل المراد العفو مهما أمكن، فإن كثيراً من المديرين يتصفون بطيش يفسد عليهم إدارتهم.
وكثيراً ما يسبب العفو نجاحاً وتقدماً لا يمكن أن يوجد في الأخذ والعقوبة، واستمع إلى كلام الإمام المرتضى (عليه السلام): (عاتب أخاك بالإحسان إليه)(4).
(9)
((بين كبار الأمور وصغارها))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: تنفيذ المدير رأيه في كبار الأمور وإيكال صغارها إلى مرؤوسيه، فإن في كل إدارة أمور مهمة كبار، وأمور غير مهمة صغار.
مثلاً بالنسبة إلى مرجع التقليد، من كبار الأمور تعيين الوكيل في قطر من الأقطار، ومن صغار الأمور إعطاء فقير مستعط دينار أو دينارين.
فمن حسن الإدارة أن يتكل المرجع إلى نظر نفسه في تعيين الوكيل، وإيكال الكمية المعطاة إلى ذلك الفقير المستعطي إلى نظر وكيله الواثق منه طبعاً.
وذلك لأن المدير لو استبد بكل الأمور كان جرحاً لأنظار مرؤوسيه، مما يسبب برودهم وكسلهم، فيتفرد المدير بالإدارة، ولو أوكل كبار الأمور إليهم كان ضياعاً وخبالاً، فمن حسن الإدارة توزيع الأمور بهذا النحو.
والمطالع في سيرة رسول الإسلام (صلى لله عليه وآله) يشاهد هذا الأمر بكل وضوح، فإنه كان ينفذ رأيه الحكيم في الأمور الكبار، أما الأمور الصغار التي يصح كل وجه منها فكان يكلها إلى أنظار أصحابه، ولذا لم يقبل شفاعة أبي سفيان في قصة تجديد المعاهدة، بينما قبل الشفاعة في أبي سفيان من عمه العباس في قصة فتح مكة، إلى غيرها من القصص والأمثال الكثيرة.
(10)
((تنظيم الأمور وتوزيعها))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: تنظيم الأمور وتوزيعها، فقد قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ)(5)، فإن المرؤوسين إذا عرفوا تكليفهم فإن قاموا به جوزوا بالجزاء والثناء، وإن لم يقوموا به جوزوا بعد أن عرفوا كونهم مسيئين.
أما بدون التنظيم والتوزيع، فالأمور تبقى مجمدة، والغايات تبقى بعيدة، وذلك من أفظع أنواع الفشل في الإدارة.
والتنظيم والتوزيع للأعمال وإن كان يلاقي المنظم لها صعوبة وصداً في ابتداء الأمر، لكن النتائج الطيبة التي يجنيها الإنسان من هذا الأمر فوق ما يتصور، أرأيت البناء كيف يوزع الأعمال على عماله، وأرأيت مدير المدرسة كيف يوزع حصص الدرس على المعلمين، وأرأيت صاحب المطعم كيف ينظم عماله ويوزع عليهم القيام بالمهام، إن هذا عام لكل إدارة ولكل مدير، وأنجح المديرين من يفعل ذلك بكل دقة وإتقان.
وبعد التوزيع والتنظيم يحتاج المدير إلى مراقبة مستمرة للعمال، ليقوم كل بقسطه من العمل، وإلاّ فإصدار الأوامر وتخطيط الخرائط لا تغني فتيلاً.
(11)
((التفكر الدائم))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: التفكر الدائم في مختلف الأنحاء، وتحليل التجارب، والتعمق في الأمور، واستخراج النتائج، فقد قال الإمام المرتضى (عليه السلام): (الفكر مرآة صافية)(6).
فربما يكون الإنسان متحيراً في أمر لا يهتدي سبيلاً إلى وجه الصواب فيه، فإذا تفكر وأجال الرأي وجد السبيل السوي والصراط المستقيم.
والإنسان بالتفكر الدائم ينمي في نفسه ملكة الفكر، وبذلك يكون ذا آراء صائبة.
ومن المعلوم أن المدير كثيراً ما تستشكل عليه الأمور، وتتضارب لديه وجه العمل، فإذا كان ممن اعتاد التفكر الدائم، حل أكثر المشكلات، وبذلك يتسم بحسن الإدارة، ويخفف على نفسه مشاق كثيرة ومشاكل جمة.
(12)
((التخطيط الإداري))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: التخطيط، فإنه كما يحتاج المعمار إلى تخطيط البناء قبل الشروع في العمل، وكما يحتاج صاحب المعمل إلى تخطيط المعمل قبل نصب المكائن وتركيب الأجهزة والآلات، كذلك يحتاج من أنيط به أمر لإدارته إلى تخطيط عمله قبل الشروع فيه، فإن فعل ذلك وفر على نفسه أتعاباً كثيرة، وجاء المعمل منظماً جميلاً.
وإلا تعب كثيراً، وجاءت النتيجة مشوهة، أو غير جميلة على الأقل.
ومن المعلوم أن تخطيط كل شيء بحسبه، فتخطيط إدارة الحكم له شكل، وتخطيط إدارة المدرسة له شكل، وتخطيط إدارة الأمور الدينية له شكل، وتخطيط الحرب له شكل، وهكذا.
(13)
((حسن الأخلاق))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: حسن الأخلاق، فإن الأخلاق الحسنة بلسم على كل شيء، والمدير يحتاج إلى هذا البلسم أكثر من غيره، لأنه يريد تقديم الاجتماع، وذلك لا يكون إلاّ بالأخلاق، فإن الإنسان مركب من لحم ودم وقلب وروح، وكلها تحتاج إلى الأخلاق من رفق وعطف وتبسم وسلام وغيرها.
وما أجمل ما مثّل لذلك، حيث قالوا:
كان إخوان لهما أهل، وكان أحدهما يبيع خل العنب، وكان الآخر يبيع دبس العنب، لكن بائع الخل كان في رفاه وسعة، وبالعكس من بائع الدبس حيث كان في ضنك، وذات مرة أرادت زوجة بائع الدبس تعرف السبب في ذلك، فجاءت حتى وقفت على دكان زوجها، فرأت أنه يسيء معاملة الزبائن مما يسبب انقطاعهم عنه، بينما رأت أن بائع الخل يحسن المعاملة بكل طلاقة وجه، وتسهيل في البيع مما يحبب الزبائن ويكثرهم.
وظهراً حيث رجع زوجها إلى الدار، قالت: إنك تبيع الدبس الحلو حامضاً، وإن أخاك يبيع الخل الحامض حلواً.
فكثيراً ما تقع إدارة تقدمية بيد سيء الأخلاق فيجمدها، بينما تقع إدارة جامدة بيد حسن الأخلاق فيوسعها ويقدمها.
(14)
((معرفة الأشخاص))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: التطلع على أحوال الأشخاص بروح منطلقة متطلعة، بدون ترتيب الأثر على ما يبدو له من العورات، إلاّ من جهة الإدارة، فإن الإدارة تحتاج إلى الرجال مهما كانت نوعها، والرجال إن لم يعرفهم المدير بمختلف مستوياتهم لا يتمكن من تسيير دفة الإدارة بجودة وحسن.
مثلاً صاحب المصرف لابد أن يعرف الذي يفي دينه ممن يأكل أموال الناس، ومن عنده المال القابل للحجز ممن ليس عنده، والمرجع الديني يجب أن يعرف التقي العالم الذي يصلح للوكالة والإمامة من غيره.
والمدير للمدرسة يجب أن يعرف المعلمين حتى يتمكن أن يستخدم الصالح ويترك الطالح، إلى غيرهم.
هذا بالنسبة إلى الشق الأول، من هذا الفصل: (التطلع على أحوال الأشخاص بروح منطلقة متطلعة)، ومرادنا من (الانطلاق والتطلع) عدم الجمود في الإطلاع، وعدم السرف والتفريط في المعرفة بالتعمق غير اللازم، أو الانغلاق فيما يحتاج إلى توسع المعرفة.
وأما الشق الثاني من هذا الفصل: (بدون ترتيب الأثر على ما يبدو له من العورات إلاّ من جهة الإدارة)، فإن في الناس عورات إذا فحص الإنسان عن أحوالهم اطلع عليها، وبعض الأشخاص يشهرون لسانهم في التنقيص أو ما أشبه على من اطلعوا عليه، وهذا خلاف حسن الإدارة، بل اللازم أن يتخذ الإنسان اطلاعه وسيلة لتجنيب إدارته عن العطب لا لشهر لسانه على الناس.
والجمع بين هذين الشقين (التطلع، وعدم ترتيب الأثر) من أهم النقاط في حسن الإدارة، وقد أمر الإمام (عليه السلام) ولده إسماعيل اجتناب مشاركة من تلوكه الألسنة قائلة أنه يشرب الخمر، بالنسبة إلى معاملته الشخصية.
فيما ورد في الحديث: (كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد سبعون قسامة أنه قال شيئاً، وقال: لم أقله، فصدقه وكذبهم)(7).
والقصة مذكورة في رسائل شيخنا المرتضى (رحمه الله) وغيره، فحديث إسماعيل يشير إلى الشق الأول، وحديث (كذب..) يشير إلى الشق الثاني.
(15)
((عدم إظهار الضعف والقوة))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: عدم إظهار الضعف، ولا القوة، وهذا باب طويل نكتفي منه بمثالين:
مثلاً رئيس الحكومة بالنسبة إلى قواه العسكرية، إن أظهر الضعف كان خليقاً بانقضاض الأصدقاء وتجري الأعداء، وإن أظهر القوة كان خليقاً بإثارة الأصدقاء حسداً وتحفيز الأعداء إلى الإستعداد أكثر فأكثر.
ثم إن وقعت محاربة، فمظهر القوة إن انتصر لم يكن لانتصاره حلاوة، لأنه كان منتظراً منه، وإن فشل كان مثار سباب وتحقير، يقولون له لم أظهرت كذباً وخدعت الناس.
ومظهر الضعف، إن انتصر كان في الأنظار كالكاذب، وإن فشل أخذ بأنه لم حارب مع علمه بضعفه، ولم لم يهئ ما يكفي لصد عدوه.
ومثلاً مدير المدرسة، إن أظهر الضعف في إدارته سحب الآباء أبناءهم عن المدرسة مما يورث الفشل، وإن أظهر القوة كان مثاراً للتوقع المتزايد، حتى أنه كيفما ربى التلاميذ كان دون مقدار توقع الناس.
فالإنسان يجب عليه أن يحكم أموره إلى أبعد حد، ولكن ليسكت عن ذلك، ولذا ورد في المثل (إذا قدرت أن تكون أحكم الناس فكن، ولكن لا تقل للناس ذلك)، ومن هذا الباب (الفرح والحزن) و(الغنى والفقر) و(العلم والجهل) وما أشبه ذلك.
فإذا أظهرت نقاط قوتك أكثرت المتوقعين منك، ولا داعي لذلك، وإذا أظهرت نقاط ضعفك أكثرت المزدرين عليك، ولماذا تزيد الإزدراء على نفسك، إنك إن أظهرت الفرح أثرت أعداءك، وحسدك أصدقاؤك، وإن أظهرت الحزن أحزنت أصدقاءك، وفرّحت أعداءك، وهكذا بالنسبة إلى سائر نقاط الضعف والقوة.
وما أشد ضبط النفس بين هاتين النقطتين فإن الناس غالباً تبطرهم القوة فيظهرونها، أو يضعفهم الانحطاط والضعف فيبدونه، وهذا بالنسبة إلى الإنسان العادي مضر، فكيف بالمدير.
(16)
((عند قرار الفصل))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: أن يكون الفصل بسلام.
ورد في الحديث: (أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم)(8)، وهذا صحيح مائة في المائة، فعلى الإنسان أن يكسب الأصدقاء بكل ما أوتي من حول وطول، وأن يحافظ بكل قوة على أصدقائه، فإن الأصدقاء بمنزلة أجنحة الإنسان يطير بهم إلى شأن عال، وفي المثل: (إن ألف صديق قليل، وإن عدواً واحداً كثير).
لكن طبيعة الإدارة والعمل توجب انفصال بعض الأصدقاء، لجرم اقترفوه مما يجعل الصالح فصلهم بيد المدير، أو لانفصالهم بأنفسهم لما يظنون من نقص وخلل في المدير، أو في العمل ذاته، وهذا شيء لا يمكن الوقوف والحيلولة دون وقوعه، وإنما اللازم بعد محاولات عدم الانفصال في كلتا الصورتين، اتباع أمرين:
الأول: كون الفصل والانفصال بعد إلقاء الحجج والمعاذير، حتى يكون المنفصل بذاته وفي قرارة نفسه يعرف أنه السبب، لا المدير، ولو أن الاعتراف بالخطأ من الناس قليل جداً.
الثاني: الانفصال بسلام، فإن غالب الناس إذا انفصلوا عن شخص أو مؤسسة أو إدارة، يحدث الانفصال فيهم رد الفعل، ولو كانوا هم الطالبين للانفصال، وكثيراً ما ينضم إليهم بعض الأعداء، وهناك التهاجم والتنقيص.
ولذا يجب على المدير الحازم أن يمر بمثل هذه الأمور بسلام، فلا يرد الاعتداء وإن بلغ أوجه، فإنه إن رد انقسم الناس قسمين، قسم له وقسم عليه، وإن لم يرد كان الناس إلى جانبه، فإن من فوائد الحلم أن الناس أنصار الحلم على الجاهل، بالإضافة إلى أن السكوت عن هجوم ذلك المنفصل يحدث في نفسه رد فعل كثيراً ما يوجب تجمده أو قلبه إلى صديق حميم.
قال الله تعالى: ﴿ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم﴾(9).
ثم على المدير أن لا يظهر للناس عيب الإنسان المنفصل، بل يبرر موقفه بما لا يوصمه بوصمة أمام الناس، وهذا يحتاج إلى قدر كبير من اللباقة.
(17)
((احترام النفس))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة: إحترام النفس، والمراد به في مقابل الابتذال، فإن الإنسان حيث وضع نفسه.
إن الإدارة تحتاج إلى مقدار من الضبط الذي يلازم الهيبة والشخصية، لا التكبر والترفع، ومن المعلوم أن الهيبة والشخصية لا تحصلان إلا باحترام الإنسان نفسه.
فلو صار الشخص مبتذلاً سقطت هيبته، وبذلك تضعف شخصيته، وهو ما يوجب عدم تمكنه من ضبط الأمور كما ينبغي، فإن مرؤوسيه لا يقدرون كلامه حينئذ، وهناك الفشل، ولذا ورد في الأحاديث، إن من فضائل المؤمن تواضع من غير ابتذال.
ومعرفة الفرق بين (احترام النفس) وبين (التكبر)، كما أن معرفة الفرق بين (التواضع) وبين (الابتذال) تحتاج إلى دقة، وجودة نظر في أحوال الناس.
(18)
((الترفع عن مستوى الانحطاط))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: عدم الانحطاط إلى مستوى المنحطين، فإن في المجتمع أناساً لم يبلغوا النضج إما لقلة أعمارهم، أو لعدم اطلاعهم على الأوضاع، أو لأن لهم أغراضاً تحول دون النضج، وقسم من هؤلاء الأشخاص يعاشرون الناس بروح لاهبة حارة.
وغالباً ما يبتلى المدير بأمثال هؤلاء، وهم لحرارة روحهم ولعدم نضجهم يناقشون المدير بروح نيّة.
فمن اللازم ترفع المدير عن مثل هؤلاء ومناقشاتهم، لأنه يوجد في النزول إلى مستواهم بالإضافة إلى ضرر الابتذال، أحد ضررين:
1: ضرر أعدائهم إن لم يستمع إلى كلامهم ولم يقبل مناقشاتهم.
2: ضرر الإنحراف عن المنهاج الصحيح إلى حيث فشل الإدارة إن جاملهم وأخذ بآرائهم، لأنها غير ناضجة نية، انبعثت من روح جاهلة أو مترجرجة.
(19)
((الحيوية))
ومن الأمور المهمة في حسن الإدارة أن يكون حافلاً، فإن الإنسان قد يقتصر على مهمته الإدارية التي أوكلت إليه، وهذا إنسان جامد، وإن أتى بالغاية المرادة منه بخير وجه.
وقد يتطرق إلى هنا وهناك، لا في الإبداع في مهمته فقط، بل في تشعيب الإدارة إلى أقسام، واستخراج إدارات جديدة، بروح مستعلية وثابة مبتكرة.
مثلاً إذا أنيط إلى شخص إدارة مدرسة، فإنه قد يقتصر عليها، وهذا جمود، وإن أحسن الإدارة في الإشراف على المعلمين والسير بالطلاب إلى الأمام في جانبي العلم والأخلاق.
وقد يوسع في المدرسة، ويتطرق إلى خارج نطاق المدرسة، كتأسيس الكشافة، وفتح المكتبة للمدرسة، وإخراج نشرة مدرسية، وصنع التمثيلية بمناسبات، وما أشبه ذلك، ومثل هذا الإنسان هو الذي يساهم في تقديم الحياة، ويرفع من المستوى الذي وصل إليه الإنسان قبله.
لكن مثل هذا التوسع في مختلف أقسام الإدارة، يحتاج إلى تفكير ومطالعة ومفاوضة مع الأذكياء واعتبار بالأحداث.
(20)
((إصلاح الخطأ))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: إصلاح الخطأ فور العلم به، فإن الإنسان مهما بلغ من قوة الإدراك، وصحة العمل لابد أن يخطئ فيما عدا أهل العصمة (عليهم السلام).
وهناك بعض الناس يرون أن الاعتراف بالخطأ وإصلاحه، انتكاس ووهن وذهاب شخصية، ولذا يصرون على الخطأ.
لكن العقلاء يعلمون أن الإصرار على الخطأ خطأ آخر، فإذا أخطأ السائق الطريق ثم علم ذلك كان اللازم الرجوع والاعتراف بالخطأ، أما الاستمرار في السير في ذلك الطريق فإن معناه الهلاك والعطب.
فعلى المدير الناجح أن يرجع عن عمل أو خطة سار فيها إذا عرف الخطأ فور علمه بخطأه، وإلاّ كان نصيبه الفشل وانهيار الإدارة.
وقد اشتهر أن الاعتراف بالخطأ فضيلة، وليس المراد الاعتراف اللفظي، بل ربما كان الصلاح عدم الاعتراف لفظاً، وإنما المراد الاعتراف العملي بتغيير المسلك إلى حيث الصواب والاستقامة.
(21)
((تنظيم الوقت))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: تنظيم الأوقات، فلا يهدر من أوقاته دقيقة واحدة، فإن بقدر الهدر ولو دقيقة تتسم الإدارة بالنقص، ويوصم المدير بالكسل مما تضعف إدارته.
فإن أوقات الشخص محدودة، والأعمال التي يمكن أن ينجزها لحسن إدارته غير محدودة، ولذا التكافؤ غير موجود، وإن انتهز جميع الأوقات فكيف ما إذا أغفل وقتاً.
فمن اللازم معرفة عمل كل وقت، مثلاً إذا كان الفقيه يريد تأليف الكتاب، ونصب وكلاء، وفتح مؤسسات، وما أشبه ذلك، كان اللازم أن يخصص أيام التحصيل للتأليف، وفراغات التحصيل كالساعات بعد الصلوات أو ما أشبه لنصب الوكلاء وكتابة وكالاتهم، حينما يدب في نفسه الملل فلا يتمكن في مثل هذه الأوقات من التأليف، ويخصص أيام العطلات لفتح المؤسسات، حتى لا يزاحم ذلك تحصيله وتأليفه، ولو عكس بأن ألف في العطلة، وفتح المؤسسة في التحصيل، كان ضياعاً لكلا الأمرين، فإن قرب وقت التأليف لوقت التدريس يوجب سهولة التأليف، وهكذا.
(22)
((تشجيع الموظفين))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: تشويق الموظفين ومدحهم، بقدر الاستحقاق، فقد ورد في الحديث: إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يكني أصحابه احتراماً لهم.
وذلك أن المدح بقدر الاستحقاق والتشويق يوجبان انبساط نفس العامل، مما يؤدي بدوره إلى جودة الإنتاج وكثرة العمل المخلص.
وهذه حقيقة يعرفها الناضجون من المديرين، أما الاعتماد على القوة والمال والنظام، فإن ذلك من ضعف الإدارة، إذ هذه الثلاثة لا توجب انشراح النفس المؤدي إلى الجودة والابتكار والتفاني.
لكن من الضروري أن يكون المدير عارفاً بقدر التشويق والمدح، حتى لا يوجب الازدياد فيها تجاوز الحق، ولا يسبب كبرياء الموظف مما يقعده عن العمل، فإن الإفراط في الشيء كالتفريط فيه مؤد لا محالة إلى العطب والانتكاس.
(23)
((السرعة والإتقان))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: السرعة بإتقان، فإنه وإن كان الناس قسمين، قسم يسرع في العمل طبيعياً، وقسم يبطئ حسب تركيبه الجسدي والنفسي، لكن من الممكن اعتياد السرعة في حدود معقولة، فإن السرعة ملكة قابلة للنمو، وعادة الاختزال في الكتابة والتكلم قسم من السرعة الحديثة، وما أجملها.
وإنما يحتاج حسن الإدارة إلى السرعة، لأن الوقت قصير مهما طال عمر الإنسان، والأعمال كثيرة، فمن أنجز أكثر عملاً كان أحسن إدارة.
ولعل بعض الآيات الكريمات تشمل مثل هذا الأمر، كقوله
سبحانه: ﴿سارعو إلى مغفرة من ربكم﴾(10)، وقوله سبحانه: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾(11).
(24)
((التوسط وقابلية التحليل))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: التوسط في الفكر، فإن من الناس من يسيطر عليه روح التردد في الأمور، فكل شيء لديه محتمل، وكل حركة عنده لها وجه صواب ووجه خطأ، ومثل هذا خليق بأن يجمد في مكانه ولا يصلح للإدارة إطلاقاً، ومن الناس من هو عكس الأول، فيجزم بالأشياء اعتباطاً بكل سرعة، بدون تمام الموازين والأدلة، وهذا أيضاً خليق بالفشل وضعف الإدارة، لكثرة أخطاء مثل هذا الإنسان.
ومن الطريف أن بعض الناس في الحرب العالمية الثانية كانوا يشكون في وجود الحرب، ويظنونها دعابة أثارتها الدول الكبرى لأغراض، بينما بعض آخر كان يظن أن الحياة تمحى من الدنيا بسبب هذه الحرب، لسرعة جزمه بالدعايات الفارغة وإن لم يقم عليها أي دليل.
وغير الناضج من الناس غالباً بين هاتين الحالتين، حالة التردد أو حالة سرعة الحكم الاعتباطي.
فالتوسط في الفكر من أهم مقومات الإدارة الناجحة.
(25)
((عدم التبجح بالعمل))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: عدم التبجح إطلاقاً، فإنه مما يفسد قلوب الناس عن الإنسان، أو يوجب انفضاضهم من حوله، مما يؤدي بدوره إلى فشل الإدارة، فاللازم التبجح والافتخار بما عمل.
ومن الغريب أن الناس بفطرتهم يحبون العامل الساكت، ويكرهون العامل المتبجح، وأنه إذا سكت الإنسان عن عمله مدحه الناس، وإن مدح عمله ذمه الناس.
ومن طريف ما يحكى أن عاملاً كان ساكتاً عن عمله، فكان الناس يمدحونه، وأخذ في بعد ذلك يمدح عمله، فسكت عنه الناس، فتعجب عن سكوتهم بعد أن كان العمل هو العمل بلا تفاوت، وسئل من بعض عن سبب ذلك، فقال: إن الناس كانوا يمدحونك حين كنت ساكتاً، أما إذا مدحت نفسك فعملك لا يستحق مدحين، ولذا سكتوا عنك.
والتبجح ليس باللسان الصريح فقط، بل بالكتابة والإشارة والتلميح، وفعل ما يدل على المدح، كما إذا تثائب وتمطى واتكى وغير سحنة وجهه بعد عمل قام به متبجحاً لفعله ذلك.
فعلى المدير أن يجتنب التبجح إن أراد حسن الإدارة وعدم فشلها، وإلاّ كان نصيبها الفشل.
بل من أقسام التبجح الذم في معرض المدح، فربما ترى إنساناً يقول: إني لا علم لي، وهو يريد الكناية بذلك عن علمه، أو يقول: إني لم أخدم، وهو يريد بذلك إثبات خدماته، وهكذا.
(26)
((النظرة الثاقبة))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: النظر إلى العواقب، فإن الأمور مرتبطة بعضها ببعض، وكثيراً ما تكون أمور كثيرة تنتج عاقبة جيدة أو رديئة، فإذا نظر الإنسان إلى الشيء مجرداً عن ظروفه وملابساته ظن عاقبة رديئة حيناً فلا يقدم، أو حسنة حيناً فيقدم، وذلك مما يسبب فشل الإدارة، بينما يلزم أن ينظر الإنسان إلى الشيء من جميع جوانبه ومحتملاته، وهنا يكون رجاء الأمن عن العطب والعاقبة الحسنة.
وقد ورد في وصف الإمام المرتضى (عليه السلام) أنه كان بعيد المدى.
مثلاً قد يكون التاجر يرى السوق رائجاً، فيشتري السلعة بثمن ربما يقترضه، بزعم أنه بعد أيام يربح الربح الكثير، ثم يخسر مما يرتطم في مضاعفاته، وذلك لأنه إنما أخذ بالنظر ربح السلعة في هذا اليوم، ولم يأخذ بالاعتبار احتمال وقوع رخص بعد أيام، لانتهاء كارثة حاقت بالبلاد، أو ورود بضائع مماثلة، أو قلة رغبة الناس في هذه البضاعة بعد زمان لانتهاء الفصل المرغوب فيه هذه السلعة، أو ما أشبه ذلك.
وربما يكون مصادقة إنسان أو معاداة إنسان رأس سلسلة من الإنجازات أو المصاعب، باعتبار أن له جذوراً وأجنحة، فالناظر السطحي لا يهتم به، لأنه لا يعرف العواقب المرتبطة بهذا الإنسان من جهة جذوره وأجنحته، فيسرع في عدائه أو يبطئ في جلب رضائه ووده.
إلى أشباه ذلك، مما هو كثير جداً.
فالمدير الناجح هو الذي يلاحظ هذه الأمور من جميع الجوانب.
(27)
((المدير الأذُن))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة، أن يكون المدير (أذُناً)، يسمع ما يسمع بدون مناقشة، فيما لا يهمه، ومما لا يضطر إلى المناقشة فيه، فإن كثيراً من الناس يحبون الثرثرة أو إبداء الآراء أو نقد الأمور، بينما لا يهم الإداري كلام واحد من ألف كلام منها.
فإذا أراد النقاش والنقد أضاع وقته عبثاً، وأثار الناس على نفسه، لأنه إن أبدى الرضا أثار المناوئين لهذا الكلام، وإن أبدى السخط أثار المتكلم، ولذا مدح الله رسوله (صلى الله عليه وآله) بقوله: ﴿قل أذن خير لكم﴾(12).
وقد كانت من عادة المرحوم زعيم الثورة العراقية الإمام الشيرازي (قدس سره) السكوت حين كان يكلم في مقترحات، وكلما طلب القائل منه الجواب، لم يتكلم مفضلاً تأثر المتكلم عن سكوته على تأثره عن رده ونقده.
(28)
((المراقبة الإدارية))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: المراقبة الشديدة على الحاشية والحد من نشاطهم، فإن المدير هو محل ثقة الناس غالباً، وله النضج الكافي في الإدارة، أما الحواشي فإنه لو أغفل شأنهم سببوا ضعف الإدارة، وفشلها أخيراً لأمرين:
1: سيطرتهم على المدير، فيحيطون به ويكونون هم منفذ الأحكام منه وإليه، وبذلك يسببون غلق منافذ الفكر على المدير
ويستبدون بالمال والجاه والإدارة، بما له أكبر الضرر على سمعة المدير، وعلى حسن الإدارة.
2: إنهم يستبدون بالأمور بلا نضج حسب أهوائهم، وذلك مما يسبب شكوى الناس وانفضاضهم عن الإدارة والمدير.
ولذا من الضروري على المدير أن يحد من نشاطهم بكل قوة، وهذا وإن سبب انفصال بعضهم مما قد يخشى المدير منه، لكن في ذلك نزاه السمعة، وجلب الثقة الزائدة من الناس، والتفاف قسم من المخلصين حول المدير، يديرون معه الأمور بكل إخلاص ونزاه.
وقد ذكرنا في فصل سابق أن الانفصال يلزم أن يتم في جو من الهدوء والسلام من جانب المدير، وإن ألح المنفصل في الضوضاء والمحاربة.
(29)
((طيب المعاشرة))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: طيب المعاشرة، فإن الإنسان المتفوق محسود من أصدقائه ومن أعدائه، والأصدقاء وإن أخفوا حسدهم لكنهم لا يملكون ثائرة أنفسهم، ولابد في يوم أن تنفجر الثائرة ولو من بعضهم، أما الأعداء فالكلام فيهم واضح لا يحتاج إلى الشرح.
وطيب المعاشرة مما يخفف من سودة الحسد ويحد من نشاطه، وبذلك يسلم المدير عن العداوات بأن يقلل منها حسب المستطاع، فبالإضافة إلى تمكنه من حسن الإدارة يتمكن من تقديم الإدارة إلى الأمام، فإن الإنسان لا يتمكن من تحسين وضعه ولا تقديم عمله في جو مشحون بالتذبذب والمناوءة.
ويلزم أن يكون المدير حذراً من صديقه أكثر من حذره من عدوه، فإن العدو لعداوته يؤمن من استرسال الشخص عنده حول نقاط ضعفه، ولا يمكن أن يحطمه من دخيلة أمره، أما الصديق فإن الإنسان يسترسل عنده في الحديث، بما يبدي عورته ويكشف ضعفه، فإذا انقلب عدواً كان قادراً على الهدم، ولذا قال الشاعر:
احذر عدوك مرة
واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق
فكان أعلم بالمضرة
قال النبي (صلى الله عليه وآله): (ما نزل جبرئيل مرة إلاّ وأوصاني بمداراة الناس)(13).
ويقول الشاعر السعدي في بيت فارسي له تعريبه:
راحة الكونين في تفسير هاتين الكلمتين: إعمال المروة مع الأصدقاء، وإعمال المداراة مع الأعداء.
(30)
((الخلل الصغار))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: سد الخلل الصغار قبل أن تكبر، فإن الأمر المفسد يبدو صغيراً ثم يكبر بما لا يمكن أن يسد.
وفي المثل: (العدواة والنار والمرض صغارها كبار)، وذلك لانتهاء الأمر فيها إلى عداوة لا تدع ولا تذر، وإلى حريق يحرق كل شيء، وإلى الموت.
فالمدير يجب أن يكون حذراً لا يترك صغار المفاسد، بل يسدها فور حدوثها، ولو تماهل واستهان أدى في الغالب إلى ما يفسد الإدارة، يقول الشاعر السعدي في بيت له تعريبه:
هل سمعت ما قاله (زال) مع (رستم الكردي)
(العدو لا يمكن أن يحقر ويظن أنه لا حول له).
فإنا قد رأينا كثيراً، المياه القليلة المنبعثة من عيون صغيرة
لما سالت وتقدمت أذهب بالبعير وحمله.
وهذا الكلام وإن كان بالنسبة إلى العداوة، لكنه جار بالنسبة إلى كل مفسدة تتطرق على الإنسان العادي، فكيف بالمدير المسؤول من تحريك جهاز وتقديم الحياة إلى الأمام.
(31)
((ترك ما يوجب النفرة))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: اجتناب ما يسبب نفرة الناس، فإنه وإن كانت النفرة لأسباب تافهة، تكون مضرة بالإدارة والمدير.
ومما يسبب النفرة أبواب كثيرة، نذكر منها جملة، ونكل الباقي إلى لباقة المدير.
مثل خلف الوعد، وإظهار الاستبداد، والتواضع الملحق بالمهانة، وهجر الناس والتجنب عنهم، وعدم حضور الاجتماعات المنعقدة بالمناسبات، والاعتزاز بالنفس وبالعمل مظهراً ذلك بقول أو عمل، والإتيان بما لا يليق عند الناس، كالأكل في الطريق، والضحك العال، والبصاق أمامهم، والمزاح المثير وما أشبه، ووضع النفس فوق مستواها كاصطحاب من فوقه والجلوس فوق مجلسه، وترفيع بعض على بعض في المعاشرة والمصادقة وما أشبه مما يسبب جلب عداوة من نقصهم حقهم، وتنقيص الناس حقهم، والمجادلة، والتكلم بما لا يصدقه الناس وإن كان حقاً من القصص والتواريخ وما أشبه، والكذب، والإتيان بالأمور المنكرة شرعاً أو عقلاً أو عرفاً.
إلى غيرها من الأمور الكثيرة المنفردة، ومن المعلوم لزوم مراعاة الشريعة المطهرة في الفعل والترك، إذ ليس مرادنا ترك واجب يستهجنه بعض الناس، أو فعل محرم يعتادون الإتيان به والعياذ بالله.
(32)
((جلب ثقة الناس))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: جلب ثقة الناس، وهذا غير الفصل السابق، فإن من الناس المديرين من لا يأتي بالمنفر، لكنه لا يجلب ثقة الناس أيضاً.
وجلب ثقة الناس ضروري للمدير، فإن كل الناس العاملين إنما يتمكنون من الاستمرار في عملهم بسبب ثقة الناس بهم.
مثلاً إمام الجماعة إذا زالت ثقة الناس عنه لم يحضر أحد جماعته، والحكومة إنما تعيش بثقة الناس، فإذا زالت ثقتهم نحّوها عن الحكم، والتاجر إنما يتمكن من الأخذ والعطاء لثقة الناس به وإلاّ انفضوا من عنده وتركوا معاملته، وهكذا.
فإذا جلب المدير ثقة الناس بحسن معاشرته واستقامة أعماله، أبقى على نفسه وعلى إدارته، وتمكن أن يشق طريقه إلى الأمام، وإلاّ عرض إدارته للخطر، وسمعته للانهيار، وأخيراً الفشل.
(33)
((قوة القرار الإداري))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: الأخذ بأطراف الإدارة بقوة، فإن الإدارة مهما كانت يجب أن تكون يقظة حذرة، وإلاّ آل الفساد إلى أطراف الإدارة، وأخيراً يصل إلى نفسها مما يسبب انهيارها.
فالملك يجب أن يعلم أحوال الرعية، وأمور البلاد بكل دقة، ثم يصلح باستمرار كل ما فسد، ويقدم ما يستحق التقديم.
ومرجع التقليد يلزم أن يكون بإطلاع دائم عن أحوال وكلائه، وأحوال الناس، وشؤون البلاد العمرانية والدينية وما إليها.
وقائد الجيش يلزم أن يكون حذراً متطلعاً على أحوال جنده، وأحوال أعدائه، بكل دقة وإتقان.
وهكذا غيرهم من سائر المديرين.
(34)
((الاستشارة))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: الاستشارة بصورة مستمرة، لكل صغيرة وكبيرة، فإن الإنسان مهما أوتي من علم وتجربة، فإن الاستشارة تبدي له وجوهاً أخرى، وإن كانت الاستشارة ممن هو دونه علماً وتجربةً ومنزلةً.
بالإضافة إلى أن (فوق كل ذي علم عليم)(14)، وفي القرآن الحكيم: ﴿شاورهم في الأمر﴾(15).
والمستشير لا يخلو من فائدتين: فائدة تقوية رأيه إذا لم يجد رأياً آخر أحسن من رأيه، وفائدة ظهور رأي أقوى من رأيه إن وجد رأياً أحسن من رأيه.
وكذلك لا يخلو المستشير إحدى فائدتين، إن أخطأ لم يتحمل خطأه وحده، وخفف من حدة نقد الناس له، وإن أحسن لم يجد مناوءاً، فإن الآتي بالعمل مهما كان على صواب وجد مناوءاً لرأيه، ولو لمجرد الأنانية من المناوئين، فإن استشار انقلب المناوئ معاضداً، لكن يلزم أن تكون الاستشارة ممن لا يناوئ المستشير إن لم يأخذ برأيه لعدم صحته، وإلاّ كان ضرر الاستشارة بقدر نفعها أو أكثر.
كما يندب أن تكون الاستشارة من شاب وشيخ، فإن الأول أحدّ ذهناً، والثاني أعرف بالأمور وأنضج في التجارب، فإذا التقى النضج والحدة كانت النتيجة في قمة الحسن.
(35)
((تجنب الاستفزاز))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: أن يفعل ما يريد بدون استفزاز، فإن الغالب أن المديرين لهم شركاء ولو كانوا في مستوى أحط، وتكون الكلمة للمدير أخيراً.
فإن ظهر وجه الرأي للمدير، كان لابد وأن يكون هناك مخالف أو أكثر، فقد يأتي المدير بما يظهر له بعنف واستفزاز، وهذا خطأ موجب للعداوة وفشل الإدارة، وقد يأتي بما يظهر له بكل لطف ولين، وهذا من أسباب نجاح الإدارة وولاء الملتفين حولها.
مثلاً للمرجع حاشية، مهما أوتوا من الصلاح والتقوى، لهم آراء حول تعيين الوكلاء وإجراء المشاهرات وما أشبه، وكثيراً ما يكون رأي المرجع مخالفاً في تعيين وكيل أو عزله أو ما أشبه ذلك، فاللازم أن ينفذ رأي نفسه بدون استفزاز، وإلاّ انفضت الحاشية الصالحة فرضاً عن حوله، وتلقى مضاعفات ذلك.
يقول أحد الرؤساء بصدد هذا: كثيراً ما كنت أنوي نصب شخص معين، ولكن لأخذ رأي الأعضاء كنت أستشيرهم في الشخص الذي ينبغي أن ينصب، بدون أن أذكر اسم الذي قصدته، فإذا صوتوا لمن قصدته، فنعم المطلوب، وإلا كنت أضع من يعينوه في بساط البحث ـ بحثهم أنفسهم دون اشتراك مني في المناقشة ـ وطبيعي أن تقع حوله المناقشة، حتى يرضون به، وأخيراً كان من قصدته هو الذي يعينوه بالإجماع، أو كان من أقصده أحد شخصين يرشح للأمر من قبلهم، فكنت أنا في آخر الحلبة أرتضي بمن قصدته بعد أن كان التعيين منهم، فكنت في وقت واحد أفوز بما أردت، وأجلب رضاء الأصدقاء بل مدحهم إياي بأني أخذت بآرائهم.
ومن هذا الباب أيضاً عدم مجابهة الناس بما يجرح كرامتهم، سواء حول ما يريد أو حول ما يريدون.
(36)
((عدم الأنانية))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: عدم الأنانية، فإن الأنانية ضد الإدارة بكل لوازم المضادة.
فإن الأناني إنما مقصده نفسه، لا الهدف الذي وضعت لأجله الإدارة، فالأناني يسير إلى اتجاه نفسه، والإدارة تسير إلى اتجاه الهدف، ولذا سرعان ما يظهر الفشل في الإدارة، والانهيار أخيراً.
ومن المعاكسات الأليفة في الأناني أن الناس يزدرون الأناني بجميع أنحاء الازدراء، بينما هو يريد أن يقدره الناس بجميع أنحاء التقدير.
والأنانية خليقة بإسقاط الفرد العادي، فكيف بالمدير.
وإذا رأيت أنانياً في قمة إدارة، فليس لك أن تقول: كيف جمعت الإدارة والأنانية، وإنما عليك أن تقارن بينه وبين رجل غير أناني لو كان في مكانه، لتعرف الفرق الشاسع بين ذلك سمعةً وإدارةً وتقدماً، وبين هذا المتربع فعلاً.
فمثلاً لو كان المتربع يدير مدرسة فيها مائة طالب بسمعة متوسطة، كان غير الأناني يديرها بحيث يجتمع فيها ألف طالب بسمعة راقية، وهكذا.
(37)
((الحزم))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: الحزم بكل أبعاده، والحزم لفظ يشتمل على معرفة الأشياء، ومراقبة الأمور، والنظر في العواقب، وسرعة الإدراك والانتقال من المقدمات إلى النتائج، وانتهاز الفرص، وغيرها.
أرأيت كيف يعيش من يسكن في وسط أعداء يترقب هجومهم كل ساعة، إنه يعير ذهنه وسمعه وبصره وأعصابه للالتقاط والتعرف، ويهيؤ جميع ما لديه من مال وسلاح ورجال ورقابة للتحصن والصد، إلى غير ذلك.
إن كل ذلك من لوازم الحزم، حتى إنه لو أغفل ولو موضوعاً صغيراً يناط بالقوة الدفاعية، عد غير حازم.
وعلى هذا المثال قس الحزم في كل إدارة، سواء إدارة المدرسة، أو إدارة الأمور الدينية، أو إدارة المتجر، أو إدارة البلاد.
(38)
((أهمية الدعاية))
ومن الأمو المهمة لحسن الإدارة: قوة الدعاية، فإن المدير الذي له هدف في إدارته، لابد له أن يلفت الأنظار إلى نقاط الجودة، ومواضع الفائدة، في الإدارة والهدف، وبذلك يتمكن من تسيير دفة الإدارة في وسط الثقة العامة، ويتمكن من الوصول إلى الهدف على أحسن وجه.
خذ مثلاً أنك تريد ترويج جمعية للقرآن الكريم بغرض تعميم القرآن، قراءةً وعملاً بين المسلمين، فإنه بدون الدعاية الواسعة المستمرة لا تتمكن أن تؤدي هذه الخدمة.
وانظر إلى الإسلام كيف قرر الدعاية لأركانه، فالأذان دعاية للصلاة وإعلام بأوّليات الإسلام، ثم الصيام والحج وما إلى ذلك من سائر وسائل الأعلام والبث نحو الهدف الذي جاء من أجله الإسلام.
لكن لابد للمدير من أن يفرق بين الدعاية والتشويه، كما لابد له من أن يجعل الدعاية بصورة معقولة لا توجب الاستفزاز، ولا تحتوي على تنقيص الآخرين، ولا تشتمل على إشارات الأنانية.
(39)
((دور الإيمان))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: مراعاة جانب الله سبحانه في كل لحظة وخطوة.
ومعنى مراعاة هذا الجانب: الإخلاص الشديد في العمل، ورعاية رضي الله في كل صغيرة وكبيرة، ورجاؤه سبحانه في الوصول إلى الهدف المنشود، والتوكل عليه طول الوقت، إلى غير ذلك.
فإنه أولاً: يوجب حسن الإدارة، إذ الأمور كلها بيد الله تعالى، فإذا رأى سبحانه انقطاع العبد إليه أمدّه بروح منه، وبارك في عمله، مما يجعله في الواقع وفي أعين الناس أحسن مدير لأحسن إدارة، وفي الحديث: (صانع وجهاً واحداً يكفك الوجوه كلها)(16)، و(ما كان لله ينمو).
وثانياً: يكون لعمله الثواب والأجر، مما لا يدركه بدون مراعاة مرضاته سبحانه.
وثالثاً: الدنيا دار فناء، فمهما عمرها الإنسان لابد أن يأتي يوم يفني الذي عمر وما عمره، أما إذا كان الشيء متصلاً برضاه سبحانه فإنه يبقى، ويكون جزاؤه الجنة التي لا تزول ولا تحول، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وهل العاقل يصرف نظره عن شيء باق بهذه المنزلة، لشيء فانٍ مشوب بالآلام والكدورات.
وهذا الفصل أهم الفصول في هذا الكتاب، فاللازم على المدير أن يراعيه بكل دقة وحيطة، وأن يصبح ملكة له حتى يتأتى منه عفوياً.
وإلاّ كان من مصاديق قوله سبحانه: ﴿الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً﴾(17)، وقوله سبحانه: ﴿قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم﴾(18).
(40)
((نزاهة الجهاز الإداري))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: نزاهة الحاشية، بأن يهتم المرء بذلك غاية الاهتمام، فإن انحرافهم يسبب ضعف الإدارة، ثم الفشل والانهيار.
بالإضافة إلى أن عدم نزاهتهم يسري إلى الإنسان عملاً وتلوثاً:
أما عملاً: فلأنهم يؤثرون في فكر المدير تدريجياً مهما كان صامداً، مما يسبب انحراف أعماله، وخروجها عن جادة الصواب.
وأما تلوثاً: فإن الناس يرون المدير بعين ما يرون به الحاشية، فإنه ولو كان في غاية النزاهة لكنه يفقد سمعته شيئاً بعد شيء حتى لا تبقى منها باقية، والمنطق مع الناس في ذلك، فإنه يدور الأمر بين أن لا يعلم فساد حاشيته فلا يصلح للإدارة، وكيف يصلح للإدارة من ليس يستطلع على أحوال أقرب الخواص إليه، وبين أن يعلم ولا يصلح، فإن لم يتمكن من الإصلاح فأحرى به أن لا يصلح للإدارة، وإن تمكن من الإصلاح فهو شريك لهم في الجريمة، على حد قول الشاعر:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
نعم كثيراً ما يضطر الإنسان إلى بعض الحواشي غير النزيهة، فاللازم أن يظهر ذلك للناس وأن الاضطرار ساقه إلى مثل تلك الحاشية، تصريحاً إن لم يخف من التصريح، وتلويحاً إن خاف من التصريح، وهذا هو سر ما نرى من كون حواشي بعض الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) من هذا القبيل، كما أنا نرى بجنب ذلك تصريحاتهم حول تلك الحاشية.
فقد لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض حاشيته، كما وأظهر التبري من أعمال آخرين، وإلى غيرها مما هو مسطور في التأريخ، والتفصيل موكول إلى ذكاء المدير.
(41)
((الملاك هو النجاح النسبي))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: عدم توقع العمل من الموظفين مائة في مائة، فإن البشر بطبيعتهم مختلفون، فبعضهم مطيع، وبعضهم كاهل، وبعضهم حار، وبعضهم بارد، وهكذا.
فإن أراد المدير من جميعهم العمل الجدي السليم مائة في مائة أتعب نفسه، ولم يحصل ما رام، بالإضافة إلى أنه يكوّن بذلك أعداءً لنفسه، مما يسبب الفشل في الإدارة أخيراً.
إن على المدير أن يقرر الضعف والاختلاف البشري حق قدره، ويقول لنفسه: إن لم يأتمر الموظف في هذه المرة فسوف يأتمر في مرة أخرى، وإن لم ينجز العمل كما أردت فسوف ينجز أعمالاً أخرى، فالأجدر أن أبقي عليهم جميعاً رجاء الصلاح والإصلاح.
وهذا لا يعني أن لا يسد الخلل الموجود في الموظفين، بل يعني أخد الاختلاف الطبيعي بين النفوس بعين الاعتبار.
ومن الأفضل أن يستصلح المدير خلل الموظف بالكتابة وما أشبه، حتى يبقى على صفاء قلبه وخالص وده، والنظر في تاريخ رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) يرشد إلى المثل الأعلى في هذا النوع من الإصلاح.
(42)
((التوسط في النظر))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: أن يكون المدير متوسطاً في النظرة إلى الناس، فلا يحسن الظن إلى كل أحد، بل يكون متوسطاً في حسن الظن، فإذا رأى إنساناً لم يحسن به الظن عاجلاً، ولا يسيء به الظن بدون اختبار.
فإن حسن الظن ضعف ووهن وموجب لتسرب الأشرار إلى الإدارة، وسوء الظن شدة لا داعي لها ويوجب انفضاض الأخيار عن الإدارة، وكلاهما موجب للفشل والانهيار.
وإنما ينشأ الانحراف في أية من الصفتين من الجهل، وفي المثل: (الجاهل أما مُفرط أو مفرّط).
(43)
((الصمود أمام الكوارث))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: الصمود أمام الكوارث، فإن الإدارة بطبيعتها معرضة للهزات، وكلما كانت الإدارة أوسع كانت الهزات أكثر وأعنف.
فمن المديرين من لا يعد العدة للكوارث، فإذا أصيب بشيء منها انسحب عن الميدان، وهذا فشل وخور، بل اللازم على المدير الحازم:
أولاً: أن يعد العدة سلفاً للكوارث المحتملة، حتى إذا نزلت الكارثة كان مهيئاً للتخفيف من حدتها، ثم محو آثارها بكل سرعة.
وثانياً: أن يعد القوة النفسية أمام الكوارث حين نزولها، حتى لا يتضعضع ولا ينهزم نفسياً أمام الكارثة، فإن الصمود النفسي مما يخفف وقع الكارثة.
يقول علماء النفس: إن الصدمة التي يتلقاها الإنسان أمام الكوارث أشد إيلاماً من الصدمة ذاتها.
والإنسان إذا استعد لتلقي الصدمات المحتملة ثم وردت الصدمة عليه، خفف الاستعداد من الجزء الأكبر منها، والجزء الباقي يتلاشى بمضي الزمان، وإلاّ انهار نفسياً وإدارياً بما لا يرجى القيام منه.
(44)
((نظام الترقية والترفيع))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: ترفيع مستوى الموظفين ليصلحوا للإدارة، فإن الحياة تحتاج إلى مديرين كثيرين في مختلف شعبها، والمدير هو الذي يتمكن من تكوينهم.
وتكوين المديرين بالإضافة إلى أنه خدمة لهم وللحياة، وما أجمل مثل هذه الخدمة، إنه علامة لقوة الإدارة وحسن نفس المدير، مما يوجب حسن السمعة وجميل الذكر.
وترفيع مستوى الموظفين يحتاج إلى قوة تربوية في النفس، مع تحصيل المؤهلات الدخيلة في هذه الناحية، ولذا يحتاج المدير بالإضافة إلى تربيته لهم بالذات، إلى جميع الأمور التي لها مدخلية في ترفيعهم، من معلومات وكتب وخرائط وأدلة ووسائل إيضاحية وإلقاء توجيهات وغيرها، مما هو موكول بلباقة المدير وذكائه، كل إدارة حسب شأنها ومؤهلاتها المناسبة.
(45)
((الترفيه عن النفس))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: الترفيه عن النفس، فإن للإدارة ضغطاً شديداً، وخصوصاً إذا كانت الإدارة كبيرة، وبالأخص إذا كانت شائكة.
والنفس لها مقدار خاص من النشاط إذا لم يجدد بالترفيه تناقص النشاط مما يضر الإدارة، كما أن المصباح إذا لم يجدد فيه الزيت تناقص نوره بما يضر شدة اتقاده وكثرة ضيائه.
ولذا كان من الضروري أن يرفه المدير عن نفسه إن أراد استمرار نشاطه، وفي الأحاديث: (لذة في غير محرّم)(19)، وأن الإمام (عليه السلام) كان يخرج إلى خارج المدينة للنزهة.
أما أنحاء الترفيه، فالزوجة والأولاد، والزيارات والسفر، والسباحة والتمشي، ومطالعة القضايا المرفهة كالحروب والبطولات، والفكاهات المفيدة، وما إلى ذلك.
(46)
((محاربة الكسل))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: سوط التقدم، فإن المدير يحتاج إلى السوط الذي يحدوه نحو الهدف كلما أخذه كسل أو انحراف، ولا أفضل في ذلك من ذكر الجنة بنعيمها، والنار بعذابها، بشرط مطالعة تفاصيلها المذكورة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
والتوجه إلى الله سبحانه، وعظيم قدرته، وسعة الكون وجماله، ومطالعة مزاياه، مرفه وحادٍ في وقت واحد، كما أن تذكر الهدف والخوف من السقوط من السياط الموجبة لطرد الكسل.
(47)
((العناية الشاملة))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: العناية بصغار الأمور على نحو العناية بكبارها، فإن لكل شيء من الأمور صغارها وكبارها مدخلاً في الحياة، ومن الصغار تتكون الكبار.
فالخلية الصغيرة أصل الإنسان، والذرة المجهرية أصل الكون، فمن لا يهتم بالصغار أدى إلى عدم ضبط الكبار من الأمور، فإن الكبار تتكون من الصغار.
فاللازم على المدير أن يعطي الصغير العناية بقدره، مثلما يعطي الكبار العناية بقدرها، وغالباً ما يغض الإنسان عن النظر إلى الصغير استهانة به، وإذا به يفتح باباً كبيراً من الخلل لا يمكن سده.
وليس الكلام حول الخلل الآن، فإنه من الضروري لحسن الإدارة العناية بكل أمر، واللازم أن تصبح هذه الحالة ملكة للإنسان حتى
تحسن إدارته ويتمكن من تقديم الحياة.
(48)
((التطوير النوعي))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: تحويل الخامات إلى أجناس، سواء كانت خامات بشرية، أو خامات جنسية(20)، أو خامات عملية.
فيعمل لنضج الناس كي يصبحوا قابلين للعمل، إدارياً كان أو غير إداري، ويعمل لتحويل الأجناس إلى أجناس نافعة فيما كانت إدارته من هذا القبيل، كتحويل الحديد إلى القاطرة والطائرة وهكذا، ويعمل لتحويل المعلومات البدائية إلى معلومات مركزة نافعة، فإن العلم والمعرفة ينمو شيئاً فشيئاً، والمنمي لهما هو المدير القوي.
ولا أقصد بالمدير هنا مدير دائرة، بل مدير جهاز علمي أو عملي أو إداري على حد سواء.
ومن أقسام تحويل الخامات إلى أجناس، ضم خامة بخامة حتى يصبح شيئاً ذا نفع في الحياة، كالبناء الذي يضع للبنة على اللبنة حتى تصبح داراً عامرة، والكتبي الذي يضع كتاباً بجنب الكتاب حتى تصبح مكتبة قيمة، والمؤلف يضع موضوعاً بحنب موضوع حتى تصبح كتاباً ثميناً، وهكذا.
والمدير مهما كانت إدارته، له هذه الصلاحية في ما يختص به من الإدارة، فإن فعل كانت مساهمة في تقديم الحياة، بالإضافة إلى حسن السمعة والذكر الجميل.
(49)
((اللباقة في المواقف الحرجة))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: التهرب من المشاكل بلباقة،
فإن هناك مشاكل يقع فيها المدير، بحيث يكون كل جانب منها مشكلة، ومثل هذه المشاكل يجب التهرب منها وإلاّ وقعت الإدارة في المشكلة، وظهر ضعف المدير.
مثلاً ربما يطرد المدير أحد موظفيه لمصلحة، فإذا سئل عنه، لم يكن له أن يجيب بالنقص الذي كان فيه، لأنه يثير عليه ذلك الموظف المطرود، ويوجب خلق مشاكل لا داعي لها، ولم يكن له أن يجيب بأنه لم يكن فيه نقص، وإلا فتح على نفسه ألف باب من المسألة.
فليس لمثل هذا الموقف إلاّ أن يهرب المدير من الجواب، إما بالسكوت، أو بتغيير مجرى الكلام، أو الذهاب عن محل السؤال بحجة عمل أو ما أشبه.
وقد كان رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) لا يجيب عن بعض الأسئلة، وقد نزل قوله سبحانه: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾(21).
وليس ما ذكرناه خاصاً بالكلام، بل كثيراً ما يحتاج التهرب إلى علاج عملي.
ومن طريف ما ينقل بهذا الصدد، أن أحد العلماء دعي إلى الصلاة على جنازة ملك، وحيث رأى العالم موقفه حرجاً، لأنه لا يريد الصلاة عليه لاشتهاره بمخالفة الإسلام، ولا يريد مصادمة أولاد الملك بعدم الإجابة لأن ذلك يعكر صفو علاقاته التي كان يريدها لخدمة الدين، دعا بدابة فركبها ثم ألقى بنفسه من عليها حتى جرحت يده ورجله، بما ظن الناس أنه وقوع لا اختياري، حتى نقلوه إلى داره مجروحاً مرضوضاً، فتحمل هذا الآلام وقاية لإدارته، وتحفظاً على الموازين الشرعية.
(50)
((عدم الانخداع))
ومن الأمور المهمة لحسن الإدارة: ضبط النفس عن الانخداع، والانخداع على أقسام:
الأول: الانخداع بالجانب المبهرج من الحياة، فإن النفس ميالة إلى الراحة وحسن السمعة وما أشبه، والحياة تأبى إلاّ العمل الجدي المستمر الصامت بكل هدوء.
وكثيراً ما يرى انخداع المدير بالجانب المبهرج، فيميل إلى الراحة أو يغتر بحسن السمعة، فيكسل في العمل وضبط الإدارة، ويترك العمل الجاد المستمر، وبذلك تضعف إدارته، وينقلب وبالاً على الحياة بعد أن كان مخفزاً للحياة ودافعاً لها إلى الأمام.
والمديرون الذين يبتلون بهذا الإنخداع، يوجب ذلك انحطاط مستوى الإدارة، وبانحطاط الإدارات تنحط الأمة، ورويداً رويداً يشملها الخمول والتأخر فتتقدم عليهم سائر الأمم، وهذه هي نواة كل تقدم وتأخر، فالتقدم أوله الحزم وعدم الانخداع، والتأخر أوله الكسل والغرور بالجانب المبهرج.
الثاني: الانخداع بالمدح، فكثيراً ما يميل الإنسان إلى الكسل إذا وجد مادحين له، أو إلى الانحراف إذا وجد من يمدح طريقته.
الثالث: الانخداع بالذم، ففي كثير من الأحيان يترك الإنسان الطريقة المثلى خوفاً من الذم، وتهرباً من الازدراء.
الرابع: الانخداع بالتحريض، فكثير من الناس يلقون أنفسهم في المهالك بتحريض محرض وتشجيع مشجع وإغراء مغر، وهم يعلمون ضرر ذلك لكن التحريض يثير أعصابهم ويوقظ نخوتهم.
وكل هذه الأقسام من الانخداع مما تضر بالإدارة، وتوجب الانحطاط وذهاب السمعة وأخيراً الفشل والانهيار، وقد كان هذا منطق القائل (النار ولا العار)، وإليه أشير في قوله سبحانه: ﴿أخذته العزة بالإثم﴾(22).
فمن الضروري على المدير أن يهتم بضبط نفسه، حتى لا ينخدع بهذه الانخداعات.
ولا يكون ذلك ـ كما لا يقدر الإنسان على اتباع الفصول السابقة في هذا الكتاب ـ إلا بالاستعانة بالله سبحانه، وطول ذكره ليل نهار، والتوكل عليه، وهو سبحانه يكفي من توكل عليه، ويأخذ بيد من استعان به، وهو خير موفق ومعين.
اضف تعليق