قطع الباحثون مؤخرًا شوطًا كبيرًا في فهم الآليّة التي يُسبِّب بها فيروس كورونا سارس-كوف-2 فقدانَ حاسّة الشمّ. كما تجري تجارب إكلينيكية لاختبار فاعلية عددٍ كبير من الوسائل العلاجية المحتملة لمعالجة هذه المشكلة، من بينها، استخدام الستيرويدات وبلازما الدم، كان اضطراب حاسّة الشمّ في السابق علامة دالة على الإصابة...
بقلم: مايكل مارشال
قطع الباحثون مؤخرًا شوطًا كبيرًا في فهم الآليّة التي يُسبِّب بها فيروس كورونا «سارس-كوف-2» فقدانَ حاسّة الشمّ. كما تجري تجارب إكلينيكية لاختبار فاعلية عددٍ كبير من الوسائل العلاجية المحتملة لمعالجة هذه المشكلة، من بينها، استخدام الستيرويدات وبلازما الدم.
كان اضطراب حاسّة الشمّ في السابق علامة دالة على الإصابة بمرض «كوفيد-19»، إلا أنه أصبح أقلّ شيوعًا مع تطوُّر الفيروس. وفي هذا الصدد، تقول فالِنتينا بارما، اختصاصية علم النفس من مركز مونيل للحواسّ الكيميائية بمدينة فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا الأمريكيّة، والتي ساعدت في الاعتناء بكثيرين ممن أرسلوا استفسارات تنم عن يأس وإحباط حول المرض إلى المركز خلال أول عامين من الجائحة: "لم تعد صناديق وارد البريد الإلكترونيّ متخمة لدينا بالرسائل مثلما كانت في السابق".
تجدر الإشارة إلى أنه في شهر مايو الماضي، نُشِرت نتائج دراسة1 كانت قد أجرت مسحًا إحصائيًا تناول 616,318 شخصًا في الولايات المتحدة، سبقت لهم الإصابة بـ«كوفيد-19». ووجدت الدراسة أنه في حال من أصيبوا بسلالة «ألفا»Alpha ، وهي أولى السلالات المتحوِّرة التي أثارت قلقَ العلماء، كانت احتمالية الإصابة باضطراب حواس كيميائي 50% فحسب، مقارنة بهذه النسبة بين أولئك الذين أُصيبوا بالسلالة الأصلية من الفيروس. وانخفضتْ هذه الاحتماليّة إلى 44% في حال السلالة المتحورة «دلتا» Delta التي ظهرت في وقت لاحق، ووصلت إلى 17% عند آخر السلالات المتحورة المثيرة للقلق ظهورًا؛ ألا وهي سلالة «أوميكرون» Omicron.
لكن الأنباء في هذا السياق ليست كلها مبشرة، إذ لا تزال نسبة كبيرة من الأشخاص الذين أصيبوا بذاك المرض في وقت مبكّر من الجائحة تعاني آثار اضطرابات حسيّةً كيميائيّةً ناجمة عنه. ففي دراسة صدرت في عام 2021، تابع فريق بحثي الحالة الصحية لمائة شخصٍ أصيبوا بأعراض بسيطة من «كوفيد-19»، ومائة شخصٍ آخر أظهرت ثبتت عدم إصابتهم بالمرض في الفحوص أكثر من مرة. وبعد أكثر من عامٍ من الإصابة بـ«كوفيد-19»، كان 46% ممن سبقت لهم الإصابة به لا يزالون يعانون اضطرابات في حاسة الشمّ. وعلى العكس، لم يُصب إلا 10% فحسب من أفراد مجموعة المقارنة إلا بدرجة بسيطة من فقدان حاسة الشمّ، لكن نتيجة أسباب أخرى. أضف إلى ذلك أنه بحلول نهاية ذاك العام، كان 7% من أولئك الذين سبقت لهم الإصابة بـ«كوفيد-19» لا يزالون فاقدين لحاسة الشم تمامًا، أو يعانون من اضطرابات الأرق. ونظرًا إلى أن عدد الحالات المؤكدة عالميًا من «كوفيد-19» كان قد تجاوز 500 مليون حالة بالفعل، فمن المحتمل أنه لا يزال هناك عشرات الملايين من الأشخاص المصابين بمشكلات طويلة الأمد في حاسة الشمّ.
ويتوق هؤلاء الأشخاص للتوصل إلى علاج، فقد أصبحت أنشطة بسيطة مثل تذوق الطعام أو شم رائحة الأزهار "مؤلمة عاطفيًا" لهم، على حد قول بارما.
لذلك، فمن المفترض أن الوصول إلى صورة أوضح عن آلية إحداث فيروس «سارس-كوف-2» لهذا الاضطراب، يساعد في تصميم وسائل علاجيَّة أفضل للتعامل مع هذه المشكلة. وقد كشفتْ دراسة أُجريت في وقتٍ مبكِّر من الجائحة3 أن الفيروس يُهاجم نوعًا من الخلايا في الأنف يُسمَّى الخلايا المِعلاقيّة، وهي خلايا مسؤولة عن دعم الخلايا العصبيّة المستشعرة للروائح وتوفير المغذيِّات لها.
ومنذ ذلك الوقت، ظهرتْ مجموعة من المؤشرات الدالة على ما يطرأ على الخلايا العصبيّة الشميّة من تغيُّرات بعد الإصابة بالعدوى. إذ فحصت مجموعة باحثين، من بينهم عالِم الكيمياء الحيويّة ستافروس لومفارداس من جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك الأمريكية، أشخاصًا توفوا جرّاء إصابتهم بمرض «كوفيد-19»، واكتشف الفريق البحثي أنه رغم سلامة الخلايا العصبيّة الشميّة لدى هؤلاء الأشخاص، فقد كان عدد المُستقبِلات التي تضمنتها أغشية هذه الخلايا المسؤولة عن اكتشاف جزيئات روائح، أقلّ من المعتاد.
ويرجع السبب وراء ذلك إلى أن نويات الخلايا العصبية الشمية تعرّضت للتشوُّه. ففي الحالات الطبيعية، تشكِّل كروموسومات نويات هذه الخلايا بِنى منتظمة في حجرتيْن، وهي بِنى تسمح للخلايا العصبيّة الشمية بالتعبير عن مُستقبِلات مُعيَّنة للروائح بنسب مرتفعة. بيد أنه حينما درس الفريق البحثيّ الخلايا العصبيّة الشمية بعد التشريح، اكتشفوا "بِنى نووية غير معروفة"، على حد قول لومفارداس.
وظهرت كذلك أدلّة على حدوث تغيُّرات دائمة في أدمغة المصابين بفقدان حاسة الشمّ. ففي دراسة نُشِرَت في مارس الماضي، عمد فريق بحثي إلى تصوير أدمغة 785 شخصًا من سكان المملكة المتحدة. وفي الفترة التي تفصل بين جلستي تصوير الدماغ، أصيب 400 شخص منهم بفيروس «سارس-كوف-2»، وهو ما أتاح للعلماء مراقبة التغيُّرات التي تطرأ على بنية الدماغ. وقد ظهرت بالفعل عدّة تغيّرات لدى الأشخاص الذين تعافوا من «كوفيد-19»، من بينها دلائل على حدوث تلفٍ نسيجيّ في مناطق ترتبط بمراكز الشمّ في الدماغ. إلا أن العلماء يجهلون سبب حدوث ذلك حتى الآن، وإن كان يحتمل أن انقطاع وصول المُدخلات الشمية مسؤول عن ذلك. فتعلّق دانييل رييد، عالِمة الوراثة بمركز مونيل على ذلك قائلة: "عند انقطاع وصول المُدخلات الشمية إلى الأنف، يضمر الدماغ. وهذا من أكثر ما اتضح لنا بخصوص حاستيّ التذوُّق والشمّ".
وسائل علاجيّة قيد التجربة
في الوقت الحاليّ، لا يزال العلماء يحاولون استكشاف كثير من الوسائل العلاجيّة، التي تُختبر فاعليتها عادة في طور التجارب الإكلينيكية الصغيرة. لكن الوقت مبكر على الوصول إلى أية نتائج، ولذلك يوصي غالبية الباحثين بتدريب حاسّة الشم كوسيلة علاجيّة6 في الفترة الحالية، إذ يُقدم للمشاركين في التجارب ممن تضررت حاسة الشم لديهم عيَّنات من مواد نفاذة الرائحة، ويُطلب منهم أن يُجرِّبوا شمَّها والتعرُّف عليها، بهدف تحفيز استرجاع مسارات تأشير حاسة الشمّ. إلا أن هذه الوسيلة على ما يبدو لا تُجدي إلا في حالة إصابة الأشخاص بفقدان جزئيّ لحاسة الشم، حسبما تقول ريد. وتُعقّب بارما على ذلك قائلة إن هذا يعني أن هذه الوسيلة تُساعِد قرابة ثلث المصابين ممن يختبرون اضطرابًا حسيًّا كيميائيًّا في فترة التعافي من «كوفيد-19».
ولإيجاد وسائل علاجيّة فعّالة تصلح للمصابين الآخرين، يسعى كثير من الباحثين لاستكشاف فاعلية الستيرويدات، التي تساعد على تخفيف الالتهابات. فمن المعروف أن «كوفيد-19» يستثير استجابة التهابية قوية من الجسم، وقد يلعب ذلك دورًا محتملًا في حدوث اضطراب الشم. من ثمَّ، فإن الستيرويدات، من الناحية النظرية على الأقل، ربما تعالج هذه المشكلة. غير أن النتائج العملية جاءت مُحْبِطَة. فعلى سبيل المثال، في دراسة أُجريت عام 20217، تضمَّنت تدريبًا على الشم لمائة شخصٍ مصابٍ بفقدان هذه الحاسة بعد التعافي من «كوفيد»، واستخْدَم فيها 50 من المشاركين بخّاخة أنفيّة تحتوي على الستيرويد المعروف بفوروات الموميتازون، بينما لم يستخدم الخمسون الآخرون البخاخة نفسها، لم يظهر اختلاف واضح في نتائج التجربة بين المجموعتين.
وثمة خيار علاجيّ محتمل آخر، وهو البلازما الغنيّة بالصفائح التي تُسْتَخلَصُ من دماء المرضى أنفسهم، فهي غنيّة بمواد كيميائية حيويّة ربما تستحثّ حالة التعافي. وقد تابَعَتْ دراسة تجريبية8 نُشِرَت في عام 2020 الحالة الصحية لسبعة أشخاص تلقوا في أنوفهم حقنًا ببلازما غنيّة بالصفائح، فظهر تحسُّن في أحوال خمسة منهم بعد ثلاثة أشهر. وبالمثل، تابعت مسوَّدة بحثية نُشِرَت في شهر فبراير من هذا العام9 الحالة الصحية لـ56 شخصًا، وتوصلت إلى أن العلاج بالبلازما الغنيّة بالصفائح جعلهم أكثر قدرة على استشعار الروائح. إلا أن "هذه الأعداد ضئيلة جدًا"، على حد قول كارل فيلبوت، اختصاصي الأنف والجيوب الأنفيّة من جامعة إيست أنجليا في نورويتش بالمملكة المتحدة. كذلك أخذ فريق بحثي أمريكي في إطلاق دراسة أكبر في الوقت الحاليّ.
وبعكس لقاحات «كوفيد-19»، التي أُجرِيَت الاختبارات لفاعليتها بسرعة غير مسبوقة، نظرًا إلى الدعم الحكومي الهائل لتجاربها، فإن اكتشاف علاجات هذا الاضطراب الحسي الكيميائي بعد التعافي من «كوفيد» يتقدم ببطء. ويجري فيلبوت دراسة صغيرة، هي في المراحل المبكرة منها، تدرس استخدام فيتامين «أ»، الذي كانت تجارب سابقة قد أثبتت أنه قد يكون ذا فاعلية مع أشكالٍ أخرى من فقدان حاسة الشم. حول ذلك، يقول فيلبوت: "في الواقع، يُتوقع أن تستغرق الدراسة ما تبقَّى من هذا العام لإجرائها، وربما نستمر فيها حتى منتصف العام التالي قبل تحليل بياناتها والإفادة بنتائجها. وإذا وجدنا فائدة إيجابيّة للدراسة، فستكون مهمتنا التالية التقدُّم بطلب للحصول على مزيد من التمويلات، لتنفيذ تجربة مكتملة المراحل".
اضف تعليق