أثبتت دراسة حديثة أن الأشخاص الذين أُصيبوا بالفيروس المُسبِّب للمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة «سارس»، خلال موجة التفشِّي التي وقعت قبل نحو عقدين من الزمن، تتولد لديهم استجابةٌ قوية للأجسام المضادة إثر تلقيهم لقاح «كوفيد-19». فقد تبيَّن أن جهازهم المناعي قادرٌ على مقاومة السلالات المُتحوِّرة...
بقلم: سمريتي مالاباتي
أثبتت دراسة حديثة أن الأشخاص الذين أُصيبوا بالفيروس المُسبِّب للمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة «سارس»، خلال موجة التفشِّي التي وقعت قبل نحو عقدين من الزمن، تتولد لديهم استجابةٌ قوية للأجسام المضادة إثر تلقيهم لقاح «كوفيد-19». فقد تبيَّن أن جهازهم المناعي قادرٌ على مقاومة السلالات المُتحوِّرة من الفيروس المُسبِّب للمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة من النوع الثاني «سارس-كوف-2»، بالإضافة إلى الفيروسات التاجية ذات الصلة، التي رُصدت في الخفافيش وآكل النمل الحرشفي.
أجرى مجموعة من الباحثين في سنغافورة دراسةً صغيرة، نُشرت في شهر أغسطس الماضي في دورية «ذا نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن» The New England Journal of Medicine1، وقالوا إن النتائج تُعطي أملًا في إمكانية تطوير لقاحاتٍ تحمي من جميع المُتحوِّرات الجديدة لفيروس «سارس-كوف-2»، فضلًا عن الفيروسات التاجية الأخرى، التي يُحتمل أن تتسبب في حدوث جائحةٍ مستقبلًا.
يشير ديفيد مارتينيز، اختصاصي المناعة ضد الفيروسات بجامعة نورث كارولاينا في مدينة تشابل هيل الأمريكية، إلى أن الدراسة بمثابة "دليل على صحة الفكرة القائلة بأن التوصل إلى لقاح شامل للفيروسات التاجية ليس بالأمر المستبعَد"، ويضيف قائلًا: "إنها دراسة فريدة ورائعة حقًا، ولا يُؤخذ عليها إلا أنها لم تشمل عددًا كبيرًا من المرضى".
فيروس «سارس-كوف-2» هو أحد أفراد عائلة الفيروسات التاجية (فيروسات كورونا)، وينتمي إلى الجنس الفرعي «ساربيكوفيروس» sarbecovirus، الذي يشمل فيروس المُسبِّب للمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة، ويُطلَق عليه فيروس «سارس-كوف»، إضافةً إلى فيروسات تاجية عُثر عليها في الخفافيش وآكل النمل الحرشفي.
تعتمد فيروسات «ساربيكوفيروس» على ما يُعرف بالبروتينات الشوكية في الارتباط بمُستقبِلات الإنزيم المُحوِّل للأنجيوتنسين 2 (ACE2) في أغشية خلايا العائل، لتتمكن من دخول هذه الخلايا. ويمكن لهذه الفيروسات الانتقال من الحيوانات إلى البشر، كما حدث في الجائحة الحالية، وكما حدث من قبلُ في نوبة تفشي فيروس «سارس» خلال الفترة الممتدة بين عامي 2002 و2004، التي انتشرت في 29 بلدًا. يقول مارتينيز: "تكرار هذا الأمر مرتين خلال العقدين الماضيين يُعد في حد ذاته سببًا وجيهًا يبرر حاجتنا الماسة إلى الاهتمام بهذه المجموعة من الفيروسات".
الأجسام المضادة المُحيِّدة
عَمَد لينفا وانج، الاختصاصي في علم الفيروسات في كلية طب ديوك – إن يو إس في سنغافورة، والمشرف على الدراسة المشار إليها، إلى البحث عن أشخاص نجوا من فيروس «سارس»؛ لمعرفة ما إذا كانوا يقدمون أي أدلة حول كيفية تطوير لقاحات وأدوية ضد مرض «كوفيد-19». واكتشف وانج أجسامًا مضادةً مُحيِّدةً في دمائهم، منعت فيروس «سارس» الأصلي من دخول الخلايا، لكنها لم تؤثر على فيروس «سارس-كوف-2»، وهو الأمر الذي أثار دهشته؛ لأن الفيروسين تربط بينهما صلة وثيقة.
إلا أنه عندما طرحت سنغافورة لقاح «فايزر-بيونتك» Pfizer-BioNTech للوقاية من مرض «كوفيد-19» في وقتٍ سابق من العام الجاري، قرر وانج التحري عن تأثير عدوى فيروس «سارس» الأصلي على الاستجابة للقاح. وما اكتشفه كان مذهلًا؛ لقد وجد أن ثمانية مشاركين في الدراسة، ممن كانوا قد تعافوا من فيروس «سارس» قبل ما يقرب من عقدين، وتلقَّوا التطعيم المذكور، أنتجوا نِسبًا عالية جدًا من الأجسام المضادة المُحيِّدة ضد كلا الفيروسين، وإن لم يتلقَّوا سوى جرعة واحدة من اللقاح.
كما تولَّدت لديهم مجموعةٌ كبيرة من الأجسام المضادة المُحيِّدة ضد ثلاثةٍ من مُتحوِّرات فيروس «سارس-كوف-2» المثيرة للقلق: وهي «ألفا»، و«بيتا»، و«دلتا»، إضافةً إلى خمسةٍ من فيروسات «ساربيكوفيروس» التي رُصدت في الخفافيش وآكل النمل الحرشفي. ولم يُرصد مثل تلك الاستجابة القوية واسعة النطاق للأجسام المضادة في عينات الدم المأخوذة من أفرادٍ تلقوا تطعيمهم كاملًا، كما لم تُرصد لدى الأشخاص الذين سبق أن تعافوا من مرض «كوفيد-19».
ويرى الباحثون أن مثل هذه الحماية الواسعة قد تكون راجعةً إلى أن اللقاح ينعش «ذاكرة» الجهاز المناعي بشأن مناطق بعينها يشترك فيها فيروس «سارس» مع فيروس «سارس-كوف-2»، ومن الوارد أن تكون حاضرةً أيضًا لدى العديد من فيروسات «ساربيكوفيروس» الأخرى.
يمكن للفيروسات التاجية المرصودة في الخفافيش أن تتسبَّب في حدوث جوائح مستقبلية، لذا فإن إنتاج طيف عريض من الأجسام المضادة المُحيِّدة، القادرة على صدِّ بعض هذه الفيروسات، هو أمر "يبعث على التفاؤل"، على حد وصف دانييل لينجوود، اختصاصي علم المناعة في معهد راجون التابع لمستشفى ماساتشوستس العام (MGH)، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة هارفارد في بوسطن بولاية ماساتشوستس. أمَّا أمد هذه الوقاية، فيبقى غير معروف إلى الآن.
من جانبه، يقترح كريستوفر بارنز، اختصاصي علم البيولوجيا البنيوية في جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا، إعطاء لقاح واسع المفعول ضد فيروسات «ساربيكوفيروس» لعموم السكان في المناطق المعرَّضة لخطرٍ عال، القريبة من الحيوانات التي تُعد مرتعًا لهذه الفيروسات؛ وهو ما من شأنه أن يحد من انتشارها المحتمل بين البشر.
السؤال الأهم
يقول بارتون هاينز، اختصاصي علم المناعة في كلية الطب بجامعة ديوك في مدينة دورهام بولاية نورث كارولاينا، إن الدراسة تطرح تساؤلًا حول ما إذا كان من الممكن أن تتولَّد استجابةٌ مماثلة إذا أُعطي الأشخاص الذين تلقوا لقاحًا ضد «كوفيد-19» جرعة تطعيم مُعزِّزة، تستهدف فيروس «سارس» الأصلي؛ إذ ربما يحميهم ذلك من السلالات الجديدة المتحورة من فيروس «سارس-كوف-2»، فضلًا عن فيروسات «ساربيكوفيروس» الأخرى. ويقول وانج إن الدراسات الأولية المُجراة على الفئران تُشير إلى أن ذلك مما يقع في حدود الممكن.
غير أن الدراسة الأخيرة لا تُحدد بدقة أجزاء الفيروس التي تُحفِّز الاستجابة المناعية واسعة المفعول؛ وهو يتطلَّبه تطوير اللقاحات. هذا هو "السؤال الأهم" من وجهة نظر مارتينيز، الذي يقول إنه إذا كان ذلك الجزء من الفيروس لا يقتصر وجوده على فيروسات «ساربيكوفيروس»، وإنما تشترك فيه مجموعة الفيروسات التاجية على جملتها، فلن يكون من المستبعَد إنتاج لقاح مضاد لها جميعًا.
يُذكر أن عديدًا من الفِرَق البحثية قد تمكَّنت من تحديد أجسام مضادة بعينها، قادرة على صد فيروس «سارس-كوف-2» وفيروسات «ساربيكوفيروس» الأخرى، ومنعها من النفاذ إلى داخل في الخلايا. ويعكف الآن آخرون على تطوير لقاحاتٍ شاملة للفيروسات التاجية، بعدما تمكَّنوا بالفعل من تخليق مُكوِّنات تُولِّد حمايةً قويةً في القردة والفئران.
على سبيل المثال، طوَّر هاينز وزملاؤه2جسيمًا بروتينيًا نانويَّ الحجم، مُرصَّعًا بأجزاء (24 جزءًا) من نطاقٍ بعينه في البروتين الشوكي لفيروس «سارس-كوف-2»، يُعرف باسم نطاق الارتباط بالمُستَقبِل، وهو من بين الأهداف الرئيسة للأجسام المضادة. لاحظ الباحثون في تجاربهم على القرَدة أن هذا الجسيم قد وَلَّد نِسبًا من الأجسام المضادة لفيروس «سارس-كوف-2» تفوق نسب الأجسام المضادة التي ولَّدها لقاح «فايزر»، كما تَسبَّب أيضًا في توليد أجسام مضادة تفاعلية مُتصالبة ضد فيروس «سارس» الأصلي، وفيروسات «ساربيكوفيروس» لدى الخفافيش وآكل النمل الحرشفي.
وباستخدام لقاحٍ مصنوع من مزيج من بروتيناتٍ شوكية مأخوذة من فيروسات تاجية مختلفة3 نجح مارتينيز وفريقه في استثارة هذه الأجسام المضادة التفاعلية على نطاق واسع لدى الفئران. لكن مارتينيز يقول إن الدراسة الأخيرة تُشير إلى أن هذا المزيج من البروتينات الشوكية قد لا يكون ضروريًا؛ إذ يمكن استثارة استجابة مماثلة ببساطة عن طريق البروتين الشوكي لفيروس «سارس» الأصلي.
وأفاد وانج بأنه عاكف على تطوير لقاحات محتمَلة تستهدف فيروسات «ساربيكوفيروس» المختلفة، ويركِّز جهوده الآن في العثور على عدد آخر من الناجين من فيروس «سارس» الذي تفشَّى خلال الفترة الممتدة بين عامي 2002 و2004، لإجراء دراسةٍ أوسع نطاقًا، يمكن من خلالها اختبار استجاباتهم للقاحات «كوفيد-19» الأخرى.
اضف تعليق