أن يكون الانسان في مدارج العلم والمعرفة، يتبوأ المنازل في الحوزات العلمية والمراكز الاكاديمية، لهو شأنٌ كبير، وغاية سامية يبلغها الطامحون تلبية لما في نفوسهم، أما اذا كان هذا الطريق يمر عبر خصال حميدة، وفضائل ومكارم، فان عنوان الطموح سيختلف تماماً، ويتسع في مداه، متخذاً له طابعاً انسانياً وحضارياً...
"كان الميرزا مهدي الشيرازي تلميذاً حقيقياً للإمام علي، عليه السلام"
الأديب اللبناني الراحل: جورج جرداق
أن يكون الانسان في مدارج العلم والمعرفة، يتبوأ المنازل في الحوزات العلمية والمراكز الاكاديمية، لهو شأنٌ كبير، وغاية سامية يبلغها الطامحون تلبية لما في نفوسهم، أما اذا كان هذا الطريق يمر عبر خصال حميدة، وفضائل ومكارم، فان عنوان الطموح سيختلف تماماً، ويتسع في مداه، متخذاً له طابعاً انسانياً وحضارياً، فالناجح هنا سيهدي نجاحه للجمهور قبل ان يرى شيئاً في مرآة نفسه يبعث على الحبور والاعتداد بالنفس، فبدلاً من أن يكون مثل درّة نفيسة يراها الناس من خلف الزجاج فقط، يكون مثل نهرٍ جارٍ ينساب بهدوء وتواضع نحو السواقي والاراضي العطشى لترويها وتمنحها الحياة.
المرجع الديني السيد ميرزا مهدي الشيرازي الذي نعيش هذه الأيام ذكرى وفاته (في الثامن والعشرين من شهر شعبان)، كان في ظاهره صغيراً؛ في حجم جسمه، وفي امكاناته المادية، وفي حوزته العلمية في كربلاء المقدسة، وحتى في قاعدته الجماهيرية، إنما العلو كان في همته، وعزيمته، وإيمانه، وأخلاقه، وايضاً؛ في مواقفه الشجاعة والمسؤولة إزاء حاضر الأمة ومستقبلها.
العلم في قمة الورع والتقوى
بعد وفاة المرجع الديني السيد حسين القمي، آلت المرجعية الدينية في كربلاء المقدسة الى الميرزا مهدي الشيرازي، علماً أنه كان مقيماً في النجف الأشرف طوال عشرين سنة يواصل طلب العلم وتعليمه، وبطلب من السيد القمّي جاء الى كربلاء ليتخذها مركزاً لاشعاعه العلمي والثقافي الى آخر حياته.
شخصيته الاجتماعية، وأخلاقه العالية، وروحه الشفافة، جعلته يكون مهواً لأفئدة أهالي المدينة، والمدن الاخرى، فذاع صيته في الآفاق، ومن أهم مسؤولياته آنذاك كانت إدارة الحوزة العلمية، ورعاية الطلبة والاساتذة وشؤونهم، وفي أيام صعبة –وما أكثرها- عاشتها حوزة كربلاء جاءه رجل يحمل مقداراً ضخماً من المال بعنوان؛ الحقوق الشرعية وقال: "إنّي كنت مديوناً للحقوق سبعة عشر ألف دينار، وكان المبلغ ذلك الوقت يفوق الراتب الشهري الذي كان يقدّمه الوالد –رحمه الله- لطلبة الحوزة العلمية لثلاث سنوات، وكان الوالد بأشد الحاجة إلى المبلغ، ولكن الوالد أشكل في أخذه لوجود شبهة شرعية فيها، فأصرّ الرجل عليه وأصرّ الوالد على عدم استلام الأموال وكان ذلك في طريقه من باب الصحن الشريف إلى البيت، وأخيراً يأس الرجل و رجع، فلمّا ذهب قلت للوالد: كان هذا المبلغ كافياً لأن يكون راتباً شهرياً للطلاّب! فتوجّه إليّ وقال: يجب علينا أن نفكر في آخرتنا، كيف نجيب الله سبحانه عن كل تصرفاتنا؟". (عندما يتحدث الأبناء، المرجع الديني السيد محمد الشيرازي يتحدث عن والده).
التعامل مع المال من أشد الاختبارات، وأعقد المسائل في شخصية الانسان، لاسيما من هو محسوب على الدين والأخلاق والعلم، فنرى البعض يجتهد في صياغة المبررات والمسوغات لئلا يتجاوزه مبلغاً من المال الى شخص آخر، بيد أن الميرزا مهدي الشيرازي كان ينظر نحو السماء فقط لا غير، شعاره: {من يتقي الله فهو حسبه}، وذكر سماحة المرجع الديني السيد محمد الشيرازي ابياتاً نسبها الى الشيخ البهائي يقول:
لا يغرنّك من المرء قميصاً رقعه
أو إزارٍ فوق كعب الساق منهُ رفعه
أو جبيناً لاح فيه أثرٌ قد خلعه
أرِهِ الدرهم تعرف غيّه من ورعه
أصبح في أيامه، مثالاً للورع والتقوى بين العلماء والفقهاء وعامة الناس، وقد استحصل على هذه الملكة من ترويض للنفس طويل، من خلال خطوات عملية واكبت حياته منذ نعومة أظفاره وحتى آخر لحظات وفاته، منها:
1- الزهد
ينقل نجله الأكبر عنه "أنّه في أثناء عطلة من العطل جاء إلى مقام السيّد محمد، عليه السلام، راجلاً من مدينة سامراء المشرفة، والمسافة بينهما ثمانية فراسخ، قال: إني لم آخذ إلاّ الخبز الجاف، فكنت آكل ذلك الخبز الجاف مع ماء البئر المُر طيلة بقائي هناك ولمدة شهر كامل، واتفق أنّ أحد الأصدقاء جاء لي بقطعة من الجبن الجاف فكنت آكل في بعض الأوقات الخبز الجاف والجبن لأيام معدودة فقط".
ثمة اسباب عديدة وراء التزام العلماء بحالة الزهد اهمها؛ لتركيز الاهتمام على طلب العلم والمعرفة، وعدم الانشغال بالجزئيات والملذات، والامر الآخر الأكثر أهمية؛ تقوية أواصر العلاقة بنيهم وبين افراد المجتمع، لاسيما الشريحة الفقيرة، فكلما كانت المعاناة والحاجة أكبر عند عالم الدين، كانت معرفته بآلام ومعاناة الناس أكثر وأعمق، ولعل هذا يفسر وصف الاديب اللبناني الراحل جورج جرداق بأنه "كان تلميذا حقيقياً للإمام علي".
2- الالتصاق بالقرآن الكريم
لم يشغله طلب العلم عن الاستنارة بالقرآن الكريم فقد "يحفظ القرآن في كل ليلة، وذلك لانشغاله نهاراً بالدراسة، ولأنه لم يتمكن في سامراء من شراء الوقود للإضاءة كان يحفظ القرآن مستعيناً بضوء القمر حتى أتم حفظ القرآن الكريم بتلك الصورة، وكان حافظاً له حتى انتقاله إلى جوار ربه".
ويضيف نجله نقلاً عنه: "وابتليت بسبب كثرة القراءة على ضوء القمر إلى إصابتي بمرض العشو الليلي، فلم أتمكن من الرؤية إلاّ في النهار، فنذرت للسيد محمد، عليه السلام، إذا تَمّ شفائي بإذن الله أزوره كل عام مرة وأهدي إلى مرقده الشريف رزمة من الشموع، فشافاه الله. وكان حتى أواخر أيامه يقوم بزيارة السيد محمد ليفي بنذره بعد أن ازدادت قوة بصره بشكل كبير جداً بحيث إنه كان يرى ساعة ضريح العباس، عليه السلام، من دارنا التي تقع قرب منطقة المخيم في مدينة كربلاء المقدسة، ويميز بين الأعداد، بينما أنا وفي أيام شبابي ما كنت أرى إلاّ هيكل الساعة فقط".
الالتصاق بالقرآن الكريم يعني –فيما يعنيه- ارتقاء سلّم الإيمان والعرفان الى درجات عالية ربما تصل الى وصف الإمام الحسين، عليه السلام، في زيارة عرفة: "اللهم اجعلني أخشاك كأنني أراك"، وهذا لا يتحقق إلا بالقراءة المتأنّية والمتدبرة لآيات الذكر الحكيم، والاستلهام من نوره، حقائق الانسان والوجود والحياة والآخرة.
3- في ديوان الإمام الحسين، عليه السلام
كان يواظب على إحياء مصاب الامام الحسين، عليه السلام، على مدار أيام السنة، وليس فقط في أيام محرم الحرام وصفر الخير، فقد "يقوم بمراسيم العزاء الحسيني واللطم مع جماعة من طلبة الحوزة العلمية في سامراء المشرفة، وكان يعقد المجالس الحسينية، وكان الوالد يقرأ العزاء الحسيني كل يوم في وقت فطور الصباح، من كتاب "منتهى الآمال"، أووقائع الأيام" للقمّي، أو "جلاء العيون"، للمجلسي، أو غيرهم، فكنّا نجتمع حوله وكان يبكي ويُبكي جميع الحاضرين، من أفراد عائلته".
ومن نافلة القول؛ رعايته واهتمامه بالخطباء الحسينيين وتجشيعهم على الابداع والعطاء لتطوير المنبر الحسيني لإبقاء جذوة القضية الحسينية متقدة في النفوس على مر الزمن، ولعل من أبرز خطباء مدرسة الميرزا مهدي الشيرازي هو؛ الخطيب الحسيني الشهير والشهيد الشيخ عبد الزهراء الكعبي، الذي كان من المقربين منه، وينقل نجله المرجع الديني الراحل أن الشيخ الكعبي رأى في المنام الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، وهي توصيه بنقل رسالة الى الميرزا بأنه ملتحق بهم عما قريب، وعندما جاء الشيخ الى استاذه ونقل له الرسالة انهمرت دموعه على لحيته وهو يقلّب كفيه من قلّة ما قدمه في سبيل الله.
المرجع المجاهد
التصدي للتيارات الفكرية الوافدة لم تكن بداية مشواره الجهادي، فقد كانت البداية من أيام شبابه الى جانب المرجع الديني الأعلى في زمانه؛ الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين، الذي تعلم منه دروس الكفاح والجهاد ضد المحتل والقوى الاستعمارية، وهو في سامراء ومن ثم في كربلاء المقدسة، فكان من جنود المرجعية الدينية في ثورة العشرين، ينفذ ما يناط اليه من مهام جهادية من كتابة الفتاوى والرسائل، فقد كان حَسِن الخط، أو في تعبئة الناس وتحشيد القوى الجماهيرية لمحاربة المحتل البريطاني.
هذه الجذوة الثورية بقيت متقدة في نفس المرجع الراحل بعد انتهاء ثورة العشرين، وانشغاله بطلب العلم، ثم الاهتمام بالحوزة العلمية وشؤون الطلبة، ومتابعة الاعمال الخيرية والاجتماعية، فكان شديد التحسس من أية خطوة تتقاطع مع منهج اهل البيت، او تسعى لمحاربة الدين والقيم والمفاهيم في المجتمع.
ففي العهد الملكي، "وعندما كان متصرف مدينة كربلاء المقدسة؛ عبد الرسول الخالصي (من 12/10/1948م إلى 13/6/1950م) عازماً على تخريب الآثار المهمة من أطراف الصحن الحسيني الشريف متذرعاً بحجة إنشاء بعض الطرق، وقف أمامه السيد الوالد حتى لا يتمكن من تطبيق فكرته، وعطّل صلاته لأيام، لكن قرار الحكومة كان قطعياً، فتم تدمير الآثار العلمية والتاريخية والدينية في أطراف مدينة كربلاء المقدسة أمثال: مسجد رأس الحسين، ومدرسة الصدر، والمدرسة الزينبية، ومدرسة حسن خان، ومقابر جملة من العلماء، والصحن الصغير، وبعد هذه الحادثة حاول المتصرف عبد الرسول الخالصي أن يزور الوالد، فامتنع عن قبول زيارته مطلقاً". ولعل المرجع الشيرازي يتحدث عن فترة ترؤس ياسين الهاشمي للحكومة في العهد الملكي، وكان معروفاً بمواقفه الطائفية المقيتة، فقد اقترحوا عليه توسيع الشارع الدائر حول الحرم الشريف لتكون الآثار المهمة ضمن الحرم الشريف، لكن التعصّب الطائفي حال دون هذا الاقتراح، وأصرّ على محو كل تلك الآثار حول مرقد الامام الحسين، عليه السلام.
وفي نهاية الخمسينات، حيث خريف العمر، كان التقدير الإلهي لأن يبلغ المرجع الشيرازي أوج معاركه ضد الانحراف والتضليل الذي جاء هذه المرة مدعوماً بشعارات مثل "الثورة"، و"الكادحين" وبدعم مباشر من الدولة العراقية الجديدة التي تشكلت على أنقاض الدولة الملكية في الانقلاب العسكري عام 1958، فوجد أن الشعب العراقي المسلم مهدداً بعقيدته وأخلاقه من دعاة الإلحاد وإنكار الآخرة، وكل ما يمتّ الى الدين بصِلة، فامتشق حسام الثورة الرسالية، ومن أبرز مواقفه التصدّي للتظاهرات النسوية في كربلاء المقدسة والتي كان يُعدّ لها من بغداد دعاة التحلل والتضليل، فكانت النساء السافرات يخرجن في الشوارع ويهتفن:
بعد شهر ما كو مهر...!
والغاية كسر حواجز الحشمة والحياء والآداب والالتزامات الدينية أمام الناس الذين لم يعهدوا هكذا مناظر طيلة تاريخ هذه المدينة المقدسة، فأرسل المرجع الشيرازي رسالة الى المتصرف آنذاك، وكان؛ فؤاد عارف يدعوه لمنع هذه التظاهرات والاستخفاف بقيم المجتمع وهويته الدينية، فكتب له المتصرف "بأنك رجل ايراني ولا يحق لك التدخل في شؤون العراقيين"، ولكن الميرزا أجابه بما أشد وأمضّ، "لا يحق لك التدخل في شؤون المسلمين، نخن فجرنا ثورة العشرين وطردنا الاحتلال البريطاني وحفظنا استقلال العراق وكرامة العراقيين، إنك إن لم ترغب بالعمل بموازين الدين الحنيف فاخرج من مدينتنا"! نزلت هذه الكلمات الصاعقة على رأس المتصرف فتملكه الخوف من احتمال تحول الاحداث الى صدامات يدفع هو ثمنها، فأمر فوراً بوقف تلك التظاهرات النسوية.
لم يقف الميرزا مهدي في موقف الدفاع، بل تقدم خطوة رائدة في ساحة المواجهة الفكرية، مبتكراً المهرجان الخطابي الشهير في ذكرى مولد أمير المؤمنين، عليه السلام، وكانت أول تجربة له عام 1960، وحقق نجاحاً باهراً بمشاركة نخبة من الخطباء والأدباء، كما دُعي اليه مسؤولون من العاصمة بغداد، وحتى شخصيات سياسية ودبلوماسية، ومن أقدار السماء أن يكون هذا المهرجان الرائع آخر منجزات الميرزا مهدي الشيرازي إذ كانت وفاته في هذه السنة تحديداً، فتولى القيادة والإدارة من بعده؛ نجله الامام والمرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي، الذي حرص كل الحرص على إقامة هذا المهرجان في الاعوام التالية ليعرف العالم بان في العراق ليس فقط إسلام الصلاة والصوم والاحكام الشرعية، وإنما النظام المتكامل للحياة القائم على القرآن الكريم، و سنّه رسول الله، والأئمة المعصومين من بعده.
وكان المهرجان فرصة ذهبية لكشف زيف ادعاءات الملحدين، وفي فترة لاحقة؛ القوميين، بانهم يدافعون عن المضطهدين من الفلاحين والعمال، وأنهم يشكلون الأمل والخلاص من مشاكلهم، بينما الحقيقة هي الاقتتال على السلطة، كما اتضح ذلك فيما بعد، عندما امتلأت الشوارع بالجثث والاشلاء بعد انقلاب القوميين على الشيوعيين عام 1963.
قبل أن يغمض عينيه، كان يفكر بطلبة العلوم الدينية، فعندما استحصل خبر وفاته في اليوم المحدد وهو الثامن والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة 1380للهجرة، أودع المبالغ المالية الخاصة بنفقات الطلبة الى نجله الأكبر طالباً منه توزيعها عليهم، ولدى السؤال منه بأن الشهر بعد لم ينته، فأكد عليه بأن يوصلها الى الشيخ محمد الكلباسي مسؤول شؤون الطلبة، وأحد المقربين منه، كما سلمه أوراق اخرجها من جيبه تضم أجوبة استفتاءات أوصى بإيصالها الى اصحابها، حتى لا يغادر الحياة وفي عنقه حق لأحد، سواء من طلبة العلوم الدينية، او أي انسان آخر، لنتصور مرجع دين بتلك المنزلة يتحاشى الصلاة في حرم الامام الحسين، عليه السلام، بعيداً عن حركة الزائرين، فقد كان يحرص على إقامة صلاة الجماعة خلف ضريح الامام، وليس في المكان المخصص حالياً حتى لا يزاحم الناس في دخولهم وخروجهم من الحرم الشريف!
وأنا أصف هذه الكلمات الشجيّة في ذكرى الميرزا مهدي الشيرازي في نهاية شهر شعبان المعظم، وسأكون مستعداً لأصف كلمات شجيّة أخرى في نهاية شهر رمضان المبارك لاستقبال ذكرى وفاة نجله الأكبر، المرجع الديني السيد محمد الشيرازي الذي وافاه الأجل في الثاني من شهر شوال، فهل في الأمر صدفة؟! قطعاً كلا، لأن شخصيات من هذا النوع لا تغادر الحياة وتغيب عن الجماهير إلا في مناسبات تعبر عن عمق إيمانهم وإخلاصهم وصدق نواياهم وبما عاهدوا الله عليه.
فرحم الله الميرزا مهدي الشيرازي، ورحم الله نجله الأكبر، وجميع الشهداء الراحلين من هذه الأسرة الكريمة والمجاهدة، وجميع العلماء العاملين في طريق الحق والفضيلة، ممن يمثلون النماذج الحيّة للجماهير وللاجيال على مر الزمن.
اضف تعليق