: نتحدث عن الشخصية العلمية للإمام الباقر، عليه السلام، بيد أن العلم والمعرفة لم تكن تختزل كل هذه الشخصية القيادية الفذّة، وإلا لو كان رجلاً عالماً وفقيهاً، همّه إلقاء الدروس على طلبته، والصلاة جماعة في المسجد، ثم العودة الى بيته، لما استشعر الأمويون الخوف منه على سلطانهم...

"عالمٌ يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد".

الإمام الباقر، عليه السلام

 

الى اليوم؛ وحيث يبسط العلم جناحيه على حياة البشرية بمختلف ابتكاراته الباهرة، وخدماته المذهلة في جميع نواحي الحياة، بدءاً من السلع المنزلية، و أساليب بناء البيوت، وحتى وسائل النقل، والاتصال، والطرق، والطاقة، والطب، والهندسة، والفضاء، و بلغ الأمر بصنع "الانسان الآلي"، ومن ثمّ؛ الذكاء الاصطناعي، والى ما لا نهاية من التطورات المتلاحقة في مسيرة العلم، ولكن! يبدو إن كل هذا الفضل العظيم لم يوجد له عرفاناً من الانسان، بينما نجد؛ ليس العرفان فقط، وإنما الانصياع والانقياد للمال والسلطان، وبثقة عمياء لا جدال، فيها، رغم أن معظم البلايا والرزايا تصدر من هاتين البؤرتين، والشواهد متضافرة على ارض الواقع.

وفي التاريخ الاسلامي نجد أن الأئمة المعصومين، صلوات الله عليهم، كانوا يولون مهمة تكريس العلم والمعرفة في الحياة، أهمية خاصة، ومنهم؛ الامام محمد الباقر، عليه السلام، الذي نعيش هذه الايام ذكرى استشهاده، فهو الامتداد الرسالي لآبائه المعصومين، يعدون قوة المال والحكم وسيلتان لتحقيق العدل والفضيلة والقيم السامية فقط، وفي الوقت نفسه التأكيد على أن التنكّر لهذه القاعدة يعني الويلات والكوارث، كما خبرت الأمة هذا بنفسها طيلة القرون الماضية.

وبما أن العلم يعد من الشروط المحورية للإمامة والقيادة في الإسلام، فان السلطة الأموية، ومن بعدها العباسية ايضاً، كانت تتوجس خيفة من أئمة أهل البيت لمعرفتهم اليقينية بأنهم يحملون مفاتيح علوم الأولين والآخرين، وكان هو أحد اسباب العداء لهم، وتحيّن الفرص لاغتيالهم وتصفيتهم من الساحة الاجتماعية والسياسية بظنهم إلغاء دورهم في بناء حاضر الأمة ومستقبلها.

العلوم الدينية.. السلاح البتار

ومن أجل تطويق شعاع العلم النبوي عند الامام الباقر، أوجد الحكام الامويين البدائل لإبعاد الناس عن حاجتهم للعلوم الدينية، منها؛ التركيز على المسائل العبادية المحضة والخالية من المضامين العملية، ومنها؛ التصوّف، وهو الصورة المحدّثة للرهبنة في المسيحية، وقد اجتاحت هذه الفكرة أرجاء البلاد الاسلامية، لاسيما غير العربية منها والتي صدم ابناؤها بالتناقض بين أحكام القرآن الكريم، ما سمعوه من سيرة النبي الأكرم، وما يشاهدونه من مفاسد ومظالم الحكام المختفين خلف عباءة الدين و"الخلافة"، كما انتشرت فكرة "المرجئة" التي تحولت الى حركة تبريرية في الامة تتحاشى إدانة الظالم والطاغية وتُرجؤه الى يوم القيامة، وان الله هو الذي يحاسبهم، مستندين الى الآية الكريمة: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، كما انتشرت القدرية التي رفع رايتها؛ الحسن البصري، بينما جاء عن رسول الله: "القدرية مجوس أمتي".

هنا يأتي الدور القيادي الحاسم للإمام الباقر، عليه السلام بتأسيس "اول جامعة فقهية في الاسلام، لضبط العلوم الدينية لأن أخلاط الشعوب في المجتمع الاسلامي ركبت مناهج متباينة في فهم التعاليم الاسلامية في تفسير القرآن يتأولون، وفي الحديث النبوي يدلسون، وفي العبادات هزواً يستهزئون، فرأى الباقر أن رسالته في بقر خزان العلوم، لأن اسلوب والده زين العابدين في الدعاء والعبادة بات اسلوباً لا يقوّم اعوجاج المناهج المتصارعة في العقائد والعبادات والمعاملات". (سيرة اهل البيت، تجليات للإنسانية- الدكتور حسن عباس نصرالله).

وفي سياق الحديث عن تشييد أول جامعة للعلوم الدينية –إن جاز التعبير- يجدر بنا الاشارة الى مسألة محورية غاية في الاهمية وهي؛ صون الامام الباقر لتراث جدّه رسول الله، في إعادة تدوين الحديث عنه، صلى الله عليه وآله، بعد ان أحرقها الحكام السابقون، ومنعوا تدوينه تحت تهديد السلاح بدعوى الحدّ من الكذب على رسول الله، يقول الشيخ المفيد في "الإرشاد": "روى ابو جعفر، عليه السلام، أخبار المبتدأ، وأخبار الانبياء، وكتب عنه الناس المغازي، وأثروا عنه السُنن، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول الله، وكتبوا عنه تفسير القرآن، و روت عنه الخاصة والعامة الاخبار"، ويقول محمد بن مسلم، الذي تحول في عهد الامام الصادق، الى أحد ابرز الفقهاء في الأمة: "سألته عن ثلاثين الف حديث".

وهذا بحد ذاته يعد تحدياً ماحقاً لكل طلاب الحكم والسلطة منذ وفاة رسول الله، فالتاريخ يشهد ويؤكد أن هؤلاء استبدلوا سنّة النبي بسننهم وقراراتهم الخاصة، لسبب بسيط واحد –من جملة اسباب- أن سنة النبي الأكرم تمحو الهوية الجاهلية بالكامل، وتلغي الانانيات والعصبيات الضيقة، وهنا تتجلى النعمة الإلهية العظيمة بوجود الأئمة المعصومين من ولد علي وفاطمة لصون الدين من الانحراف والضياع، وقد حاول هشام بن عبد الملك، الحاكم الأموي المعاصر للإمام الباقر، عليه السلام، الانتقاص منه أمام الناس لإضفاء بعض الشرعية على حكمه، فرآه ذات مرة في موسم الحج، و وصفه أمام الناس بأنه "المفتون به أهل العراق"! فسأله: ما الذي يأكل الناس ويشربون –وهم في قبورهم- الى أن يُفصل بينهم يوم القيامة؟ فأجابه الإمام الباقر: "يُحشر الناس على مثل قرص النّقي (الخبز الحواري) –كما في الرواية- فيها أنهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب"، فتخيل هشام أنه يُحرج الإمام بسؤال آخر: ما أشغلهم عن الاكل والشرب يومئذ؟! فقال له الإمام بشكل قاطع: "هم في النار أشغل، ولم يشغلوا أن قالوا: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}".

درسٌ لحاكم عادل

نحن نتحدث عن الشخصية العلمية للإمام الباقر، عليه السلام، بيد أن العلم والمعرفة لم تكن تختزل كل هذه الشخصية القيادية الفذّة، وإلا لو كان رجلاً عالماً وفقيهاً، همّه إلقاء الدروس على طلبته، والصلاة جماعة في المسجد، ثم العودة الى بيته، لما استشعر الأمويون الخوف منه على سلطانهم، فلا مهادنة مع الظلم والانحراف في منهج أهل بيت رسول الله، صلوات الله عليهم، إنما هو "الصراط المستقيم" والسبيل الواضح مع الحكمة والموعظة الحسنة، وقد روي عنه، عليه السلام: "بعث الله محمداً بخمسة أسياف؛ ثلاثة منها شاهرة لاتُغمد، وسيف مكفوف، وسيف مغمود، فأما المشهورة، فهي بوجه المشركين، وأهل الذمة المتآمرين، والكفار من غير العرب الذين يتربصون بالإسلام شراً، (وهي الحرب الدفاعية)، أما المكفوف فسيف على أهل البغي والعدوان لدفع الجور عن المجتمع، (وهي الأمن الوقائي)، وأما المغمود فهو سيف الجزاء والعدالة لتقويم السلوك والاعمال (القانون).

ولعل أعظم ما يبعث الاطمئنان في نفوس الأمة؛ وجود الثوابت من الموازين والقوانين والأحكام يلتزم بها الحاكم والمحكوم على حدٍ سواء لتوفير الحد الأعلى من الاستقرار والحياة الآمنة، وعدم الاكتفاء بالشعارات وما يلبي الرغبات لفترة محدودة، كما فعل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، الذي تجمع المصادر التاريخية على مدحه والثناء عليه لأمر واحد فقط؛ تخلّيه عما فعل أسلافه من الحكام الأمويين، واتخاذه اسلوباً مميزاً في الحكم، مثل رد المظالم، والسماح بتدوين الحديث النبوي بعد حظر دام حوالي ثمانين عاماً! مع اجراءات رجا من ورائها مسحة من الشرعية على حكمه مثل؛ الكفّ عن سب أمير المؤمنين على المنابر، وإعادة فدك الى اصحابها الشرعيين، بيد أن كل هذا وغيره لا يساوي عند الامام الباقر شيئاً اذا لم يكون في الطريق الذي رسمه الله –تعالى- لذا خاطبه يوماً: "اتق الله، واجعل في نفسك اثنين: انظر الى ما تكره أن يكون معك اذا قدمت على ربك؛ فارمه وراءك"، فما أكره أن يكون مع الانسان يوم القيامة وقد تقمّص خلافة الله مع وجود خليفة الله أمامه!

وفي رواية مطولة فقد استمع بن عبد العزيز الى نصائح الامام بالكفّ عن الظلم وإنصاف الرعية، وبعدها اخذ قرطاساً وكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما ردّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، عليهم السلام، بفدك". علماً أن الإمام لم يأت اليه لهذه الغاية، ولم يكن ينظر اليها كما هو موقف سائر الأئمة الهداة من قبله، لعلمه بأنه مجرد قرار لن يعمّر طويلاً في مسيرة الحكم الأموي، إنما كانت رسالة الى من يهمّه أمر القيادة الناجحة بأن يوفر شروطها في نفسه؛ "من اذا رَضِي لم يُدخله رِضاه في باطل، ومن اذا غضِب لم يُخرجه غَضَبه عن الحق، ومن اذا قَدِر لم يتناول ما ليس له".



اضف تعليق