ان مفهوم (الأمانة) من المفاهيم التي تقتسم الشيء مع ضده، بحيث إذا تحقق أحدهما ارتفع مقابله. ان الخيانة هي المقابل للأمانة، والعلاقة بين الأمانة والخيانة هي علاقة الضدين اللذين لا ثالث لهما، فلو انطبق عنوان الأمانة على شيء، وكان هناك ائتمان، فإن من بيده الأمانة لا يخلو...
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[1]
البصيرة الأولى: من فقه لغة الآية الكريمة
1- دلالة مادة الأمر على الوجوب المؤكد
ان مما يجذب الانتباه في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ)، هو استخدام مادة الأمر بشكلها المؤكد، دون صيغته، فإن دلالة مادة الأمر أكد على المطلوبية وعلى الطلب من صيغته[2]. إذ من الممكن أن يقول تقول الآية (أَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا). ولكن استخدام مادة الأمر (أ م ر) في قوله(يأمركم) تدل على الأهمية القصوى أو البالغة أو الشديدة للمطلوب، والوجوب الأكيد لبعث المأمور نحو المأمور به.
2- التوكيد بـ(إنَّ) المؤكِّدة
في الآية الكريمة نجد التأكيد بـ (إنَّ) المؤكِّدة، بقوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ). مع أن بالإمكان أن تقول الآية (آمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، إلا (أَنَّ) دخلت لتؤكد المضمون أكثر.
3- دلالة استخدام صيغة المضارع (تُؤَدّوا).و(يأمركم)
ان الآية الكريمة استخدمت صيغة المضارع المقترن بـ(أن المصدرية) في قوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا). مع أن بالإمكان أن تستخدم المصدر الصريح وتقول – مثلا – (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بأداء الأمانة).
والنكتة في ذلك أن الفعل المضارع يفيد الاستمرارية والديمومة[3]. وهذه الخاصية لا يوفرها الفعل الماضي لو استعملته الآية. فحين نقول – مثلا – (انّ زيدا أبغضَ عَمْرا). فإن الفعل الماضي (أبغض) لا يدلّ على استمرارية الحالة النفسية للفعل[4]، خلافا لو قلنا (انّ زيدا يبغض عمرا) الدالة على الاستمرارية في تلك الحالة النفسية.
وكذا الكلام في صيغة الفعل المضارع(يأمركم) الدالة على التجدد والحدوث، فإن أمر الله تعالى نافذ على امتداد الأزمنة، فيكون استعمال صيغة المضارع أبلغ في تأكيد الدلالة على المطلوب.
4- العموم الاستغراقي في مفهوم (الأمانة).
ان الجمع في كلمة(الأمانات) في الآية الشريفة جمع محلى بلام الاستغراق، وتفيد مختلف أنواع الأمانات وكافة صنوفها.
فقد تكون الأمانة مادية[5]، فعلى المُؤْتَمَن أن يؤدي أمانته له حين حلول وقتها. وقد تكون الأمانة معنوية[6]، فعلى المؤتمن رعاية هذه الأمانة حق رعايتها.
وقد تكون الأمانة أعم من الأمانة المادية ومن الأمانة المعنوية الشخصية، كالسلطة بيد الحاكم لأنها أمانة أمة أو شعب – بكل ما تتضمنه من أبعاد مادية ومعنوية – وقد سلمت هذه الأمانة بيد حاكم أو هيأة حاكمة.
5- المقصود بـ(أهلها) في الآية الكريمة
هناك احتمالان في المقصود بكلمة (أهلها) في الآية الكريمة:
الاحتمال الأول: ملّاكها ومالكيها.
الاحتمال الثاني: من هو أهل لأداء الأمانة. كمن يودع أمانة عند شخص، فهو مأمور بأدائها إليه عند المطالبة.
وهذا المعنى الثاني أعم من المعنى الأول[7]، بمعنى أن النظر ليس للملك والمالكية، بل لمن يكون للأمانة كفؤا.
والظاهر أن كلمة (أهل) تصلح لاستيعاب كلا المعنيين، فإن المالك له عُلقة بمملوكه، ومن له الحق في أداء الأمانة إليه، له علقة بما له حق فيه. فليس (أهل) الشيء مختصا بمالك الشيء.
فـ(الأهل) تكشف عن وجود علقة معينة، وهذه العلقة قد تكون علقة(التملك)، وقد تكون علقة(التسلط)، وقد تكون (حقا). وكل من (الحق) و(الملك) له أنواع تشمله الآية الكريمة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا).
وبمراجعة اللغة نجد أن (الأهل) يطلق على (أهل بيت الرجل)، وإطار هذه العلقة هو علاقة الأبوة والزوجية وما أشبه ذلك.
كما أن (الأهل) تضاف الى البلد، فتقول: أهل بلدي، وإطار هذه العلقة الجغرافية المحددة، و(الأهل) تطلق على أهل الصنعة، يعني المشاركين للرجل في صنعة واحدة، فنقول: أهل صنعتي[8].
إذن: أهل بيتي، وأهل بلدي، وأهل صنعتي، وتطلق كذلك على المشاركين في الدين، فتقول: أهل ديني.
والحاصل: إن كلمة(أهل) بمادتها (الهمزة والهاء واللام) تدل على ارتباط شيء بشيء بنحو خاص من أنحاء الارتباط[9]
فقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) تعني من تربطهم صلة شرعية أو عقلائية.
النتيجة: (الأمانات) لها عرض عريض، وعلى ضوء ذلك نستكشف مدى اتساع دائرة(إلى أهلها)، لأنها تمتد بامتداد (الأمانات) فلها – هي الأخرى – عرض عريض[10].
6- البعد الكيفي والبعد الكمي في (أداء الأمانة)
ان كلمة(تؤدوا) في قوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) لها دلالاتها بالنظر لموقعها. إذ كان من الممكن أن يقال(ان الله يأمركم أن ترجعوا الأمانات الى أهلها) أو (ان الله يأمركم أن توصلوا الأمانات الى أهلها).
ولكن الآية الشريفة استخدمت كلمة الأداء والتأدية، وبصيغة المضارع (تؤدوا)، وذلك رعاية لجانبين في إرجاع الأمانة إلى أهلها[11]، وهما:
أ- الجانب الكيفي في الأداء. بأن يرجع الأمانة التي بيده الى أصحابها من دون مماطلة أو تسويف أو إزعاج لصاحب الأمانة. ويرجعها في وقتها من دون تأخير[12]، وهذا يلامس الناحية الكيفية. والعبارة الدقيقة لأداء الأمانة هنا هي (تَوْفيَتُها)، من الاستيفاء.
وهذا نظير قوله تعالى (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [13]، بمعنى أخذتني إليك أخذا وافيا.
وكذلك قول القائل (الوفاء بالوعد)، إذ ليس (الوفاء) مجرد إعطاء ما وعد به كيفما اتفق، بل لا بد أن يكون الإعطاء وافيا ضافيا شافيا.
ب- الجانب الكمّي للأداء. وذلك بإعطائه دفعة واحدة، إذ ان أداء الأمانة قد أخذ في مفهومه أن يكون دفعة واحدة[14]. فإن الإنسان الذي ينبغي عليه أن يسلم الأمانة بأكملها في منتصف الشهر - مثلا -، إذا سلم قسما منها في منتصف الشهر، وسلم قسما آخر منها في يوم لاحق، رغم قدرته على الأداء في الوقت المحدد، فإنه لم يؤد الأمانة.
وهذا خلاف كلمة (الإعطاء) فلم يؤخذ في مفهومها مراعاة الاستيفاء ولا الدفعة[15]. نعم، قد يستفاد ذلك من قرائن أخرى.
وذكر نحو هذا الشيخ الطبرسي في تفسير قوله تعالى (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) [16] يقول "يؤديه إليه وافيا وقت محله، من غير مطل ولا تسويف"[17].
وربما يكون الفرق بين المطل والتسويف، أنه قد يكون التأخير طفيفا، وقد يكون التأخير لفترة متطاولة، فهنا يقال لأحدهما تسويف، وللآخر مطل[18]
وموطن الشاهد، أن الحاكم في عنقه أمانة عظمى هي أمانة السلطة والحكومة، وهي تتعلق بالشعب كله، وقد أمره الله تعالى أن يؤدي الأمانة وافية وفي وقتها من دون إبطاء.
7- معنى العدل
حيث أمر الله تعالى في الآية الكريمة بالعدل، فلا بد من معرفة معناه. وقد عرف بتعاريف شتى، إلا أنها تلتقي وتصب في مصب واحد، فمنها[19]:
● العادل هو (الذي يضع الأشياء في مواضعها)[20].
● العادل هو (الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم)[21].
فالعادل هو الذي يضع الأشياء في مواضعها، وهو الذي لا يميل به الهوى أو الأهواء النفسانية، فيجور في الحكم، سواء في عائلته أو في شركته، أو في حكومته ودولته وسلطته.
● العدل هو (الاعتدال والتوسط بين الجانبين: الإفراطي والتفريطي. أو هو التوسط بين النمطين: العالي والداني)[22].
وبتعبير آخر، هو (الاعتدال من الناحية الكمية ومن الناحية الكيفية)[23].
● العادل هو (الذي يثيب المحسن على إحسانه، ويجازي المسيء على إساءته) [24]
8- الأمانة والخيانة ضدان لا ثالث لهما
ان مفهوم (الأمانة) من المفاهيم التي تقتسم الشيء مع ضده، بحيث إذا تحقق أحدهما ارتفع مقابله.
ان الخيانة هي المقابل للأمانة، والعلاقة بين الأمانة والخيانة هي علاقة الضدين اللذين لا ثالث لهما، فلو انطبق عنوان الأمانة على شيء، وكان هناك ائتمان، فإن من بيده الأمانة لا يخلو من حالتين لا ثالث لهما:
1- اما ان يكون أمينا. لو حافظ على الأمانة بشروطها.
2- أو يكون خائنا، لو لم يحافظ عليها.
إذ ان الأمانة والخيانة ضدان لا ثالث لهما.
وعليه، فإن الحاكم إذا لم يكن أمينا فهو خائن، وهكذا الحال في مدير المدرسة أو مدير الشركة أو رئيس الحزب أو النقابة[25].
والحكم أعظم أمانة، تقع في عنق الحاكم، وهذا ما يدعو الإنسان الى أن لا يفرط في أمانته مهما كان نوعها.
9- السر في جمع (الأمانات) وإفراد(أهلها)
فقد جمعت كلمة(الأمانات)، وأفرد(أهلها) في قوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا). فإن ما يقابل(الأمانات) هي(الأهلون) أو (الأهالي)[26]، وما يقابل(أهلها) هي (الأمانة)[27].
وفي التوجيه نقول:
1- أما بالنسبة لكلمة(الأمانات) في قوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، وكونها جاءت بصيغة الجمع، فالوجه واضح، لأنه إذا قال (الأمانة) مفردةً، فلعل الذهن ينصرف إلى أمانة معينة معهودة، فلا تكون لها الشمولية والعموم. وتوهم هذا الانصراف ناشئ من كون الألف واللام هي للعهد[28]، مع إمكان كونها للجنس. وحين وردت بصيغة الجمع (الأمانات) أفادت العموم والشمول، من دون احتمال للخلاف.
فالله تعالى يأمرنا بأداء(الأمانات) بشتى أصنافها وأشكالها ومستوياتها (إلى أهلها)
2- وأما بالنسبة لكلمة(أهلها)، وأنها جاءت بصيغة المفرد، فلاحتمال كونها إشارة الى الارتباطية في قوله تعالى(الأمانات)[29]، بمعنى لحاظ مجموع الشعب(أهلا واحدا)، وليس أهالي مفككين، مع لحاظ(الأمانات) كجميع.
ويمكن توجيه الارتباطية بأحد وجهين:
الأول: أن يكون المقصود من (الأمانات) الجميع[30]، ومن (الأهل) المجموع[31]. فلو أن الحاكم أدى الأمانة الى كافة أفراد الشعب، إلا واحدا، لكان خائنا[32]، وذلك لأن كل إنسان هو أمانة في عنق الحاكم، من حيث تلبية متطلباته، والحفاظ على حقوقه وصون كرامته، وحريته المشروعة.
الثاني: أن يكون المقصود من (الأمانات) هي أمانات الحاكم بإزاء كل واحد من أهلها، فأمانته ارتباطية، فلو خان في حق شخص واحد من الشعب فليس بأمين، ويسقط عن صلاحية الولاية أو الحكومة.
ويمكن أن يستفاد هذا الكلام[33] من كلام أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه السلام في نهج البلاغة، في عهده لمالك الأشتر، في قوله عليه السلام "وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه "[34].
ويعني كل واحد من الناس، وهذا الكلام ظاهر في (الجميع)، "ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ - فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِه لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ"[35].
وعلى ذلك فإن القول بمعذورية الحاكم العادل، لو أهمل حق مستضعف واحد في ظلامة واحدة وهو متعب، وأنه لم يرتكب إثما، نظرا لإنجازاته الكبرى، هو كلام لا يرتضيه أمير المؤمنين عليه السلام المتقدم، فإن الحاكم إذا أحكم الكثير، فهذا لا يرفع عنه المسؤولية عن الأمر التافه الحقير في نظره، فإنه عند الله خطير، ولن يُعذَر بتضييعه التافه لإحكامه الكثير. وهذا الكلام من الإمام يؤكد على نفي الارتباطية العكسية التي قد يتوهمها بعض الناس[36].
ونظير ذلك في ارتباطية الإيمان بالرسل والأنبياء، فإذا آمن أحدهم بكل الرسل إلا رسولا واحدا، فإنه لا يقبل منه حتى ذلك الإيمان الذي آمن به.
اضف تعليق