قوة الغضب تتوجه عند ثورانها إما إلى دفع المؤذيات إن كان قبل وقوعها، أو إلى التشفي والانتقام إن كان بعد وقوعها، فشهوتها إلى أحد هذين الأمرين ولذتها فيه، ولا تسكن إلا به. فإن صدر الغضب على من يقدر أن ينتقم منه، واستشعر باقتداره على الانتقام، انبسط الدم من...
ومن أنواع الرذائل ولوازمها المتعلقة بالقوة الغضبية، الغضب:
وهو كيفية نفسانية موجبة لحركة الروح من الداخل إلى الخارج للغلبة، ومبدؤه شهوة الانتقام، وهو من جانب الإفراط، وإذا اشتد يوجب حركة عنيفة، يمتلئ لأجلها الدماغ والأعصاب من الدخان المظلم، فيستر نور العقل ويضعف فعله، ولذا لا يؤثر في صاحبه الوعظ والنصيحة، بل تزيده الموعظة غلظة وشدة.
قال بعض علماء الأخلاق: الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة، إلا أنها لا تطلع إلا على الأفئدة، وإنها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، وتستخرجها حمية الدين من قلوب المؤمنين، أو حمية الجاهلية والكبر الدفين من قلوب الجبارين، التي لها عرق إلى الشيطان اللعين، حيث قال: (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) الأعراف 12- ص 76. فمن شأن الطين السكون والوقار، ومن شأن النار التلظي والاستعار.
ثم قوة الغضب تتوجه عند ثورانها إما إلى دفع المؤذيات إن كان قبل وقوعها، أو إلى التشفي والانتقام إن كان بعد وقوعها، فشهوتها إلى أحد هذين الأمرين ولذتها فيه، ولا تسكن إلا به. فإن صدر الغضب على من يقدر أن ينتقم منه، واستشعر باقتداره على الانتقام، انبسط الدم من الباطن إلى الظاهر، واحمر اللون، وهو الغضب الحقيقي. وإن صدر على من لا يتمكن أن ينتقم منه لكونه فوقه، واستشعر باليأس عن الانتقام، انقبض الدم من الظاهر إلى الباطن، وصار حزنا. وإن صدر على من يشك في الانتقام منه انبسط الدم تارة أو انقبض أخرى، فيحمر ويصفر ويضطرب.
قوة الغضب بين الإفراط والتفريط والاعتدال
الناس في هذه القوة على إفراط وتفريط واعتدال:
فالافراط: أن تغلب هذه الصفة حتى يخرج عن طاعة العقل والشرع وسياستهما، ولا تبقى له فكرة وبصيرة.
والتفريط: أن يفقد هذه القوة أو تضعف بحيث لا يغضب عما ينبغي الغضب عليه شرعا وعقلا.
والاعتدال: أن يصدر غضبه فيما ينبغي ولا يصدر في ما لا ينبغي، بحيث يخرج عن سياسة الشرع والعقل، بل يكون تابعا لهما في الغضب وعدمه، فيكون غضبه وانتقامه بأمرهما. ولا ريب في أن الاعتدال ليس مذموما، ولا معدودا من الغضب، بل هو من الشجاعة. والتفريط مذموم معدود من الجبن والمهانة، وربما كان أخبث من الغضب، إذ الفاقد لهذه القوة لا حمية له، وهو ناقص جدا. ومن آثاره عدم الغيرة على الحرم وصغر النفس، والجور، وتحمل الذل من الأخساء، والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفحشاء. ولذا قيل: من استغضب فلم يغضب فهو حمار (1). وقد وصف الله خيار الصحابة بالحمية والشدة، فقال: (أشداء على الكفار) الفتح 29. وخاطب نبيه (صلى الله عليه وآله) بقوله: (وأغلظ عليهم) التوبة 83. والشدة والغلظة من آثار قوة الغضب، ففقد هذه القوة بالكلية، أو ضعفها مذموم. وقد ظهر أن الغضب المعدود من الرذائل هو حد الإفراط الذي يخرجه عن مقتضى العقل والدين، وحد التفريط وإن كان رذيلة إلا أنه ليس غضبا، بل هو ضد له معدود من الجبن، وحد الاعتدال فضيلة وضد له ومعدود من الشجاعة، فانحصر الغضب بالأول. ثم الناس كما هم مختلفون في أصل قوة الغضب، كذلك مختلفون في حدوثه وزواله سرعة وبطأ، فيكونان في بعضهم سريعين، وفي بعضهم بطيئين وفي بعضهم يكون أحدهما سريعا والآخر بطيئا، وفي بعضهم يكون كلاهما أو أحدهما متوسطا بين السرعة والبط، وما كان من ذلك بإشارة العقل فهو ممدوح معدود من أوصاف الشجاعة، وغير مذموم محسوب من آثار الغضب أو الجبن.
الغضب الملتهب
(الغضب) من المهلكات العظيمة، وربما أدى إلى الشقاوة الأبدية، من القتل والقطع، ولذا قيل: (إنه جنون دفعي). قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (الحدة ضرب من الجنون، لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم). وربما أدى إلى اختناق الحرارة، ويورث الموت فجأة. وقال بعض الحكماء: السفينة التي وقعت في اللجج الغامرة، واضطربت بالرياح العاصفة وغشيتها الأمواج الهائلة، أرجى إلى الخلاص من الغضبان الملتهب.
وقد ورد به الذم الشديد في الأخبار، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل). وقال الباقر (عليه السلام): (إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك). وقال الصادق عليه السلام: (وكان أبي عليه السلام يقول: أي شيء أشد من الغضب؟ إن الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرم الله، ويقذف المحصنة). وقال عليه السلام: (إن الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتى يدخل النار). وقال الصادق عليه السلام: (الغضب مفتاح كل شر). وقال عليه السلام: (الغضب ممحقة لقلب الحكيم). وقال عليه السلام: (من لم يملك غضبه لم يملك عقله).
ثم مما يلزم الغضب من الآثار المهلكة الذميمة، والأغراض المضرة القبيحة: انطلاق اللسان بالشتم والسب، وإظهار السوء والشماتة بالمساءة وإفشاء الأسرار وهتك الأستار والسخرية والاستهزاء، وغير ذلك من قبيح الكلام الذي يستحيي منه العقلاء، وتوثب الأعضاء بالضرب والجرح والتمزيق والقتل، وتألم القلب بالحقد والحسد والعداوة والبغض ومما تلزمه: الندامة بعد زواله، وعداوة الأصدقاء، واستهزاء الأراذل، وشماتة الأعداء. وتغير المزاج، وتألم الروح وسقم البدن، ومكافأة العاجل وعقوبة الأجل.
والعجب ممن توهم أن شدة الغضب من فرط الرجولية، مع أن ما يصدر عن الغضبان من الحركات القبيحة إنما هو أفعال الصبيان والمجانين دون الرجال والعاقلين، كيف وقد تصدر عنه الحركات غير المنتظمة، من الشتم والسب بالنسبة إلى الشمس، والقمر، والسحاب، والمطر، والريح، والشجر، والحيوانات والجمادات، وربما يضرب القصعة على الأرض، ويكسر المائدة، ويخاطب البهيمة والجماد كما يخاطب العقلاء، وإذا عجز عن التشفي، وربما مزق ثوبه، ولطم وجهه، وقد يعدو عدو المدهوش المتحير، وربما اعتراه مثل الغشية، أو سقط على الأرض لا يطيق النهوض والعدو. وكيف يكون مثل هذه الأفعال القبيحة من فرط الرجولية وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الشجاع من يملك نفسه عند غضبه).
اضف تعليق