ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الفكر والذكر إلا بانقلاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقلع ذلك إلا بقمع لذاتها وشهواتها، وأقوى ما تنقمع به الشهوة هو نار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، فإذن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات...

الخوف منزلة من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين، وهو أفضل الفضائل النفسانية، إذ فضيلة الشيء بقدر إعانته على السعادة، ولا سعادة كسعادة لقاء الله والقرب منه، ولا وصول إليها إلا بتحصيل محبته والأنس به. ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر، ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الفكر والذكر إلا بانقلاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقلع ذلك إلا بقمع لذاتها وشهواتها، وأقوى ما تنقمع به الشهوة هو نار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، فإذن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات ويكف من المعاصي وبحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف -كما مر-.

وقيل: من أنس بالله، وملك الحق قلبه، وبلغ مقام الرضا، وصار مشاهدا لجمال الحق: لم يبق له الخوف، بل يتبدل خوفه بالأمن، كما يدل عليه قوله سبحانه: (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأنعام 82. إذ لا يبقى له التفات إلى المستقبل، ولا كراهية عن مكروه، ولا رغبة إلى محبوب، فلا يبقى له خوف ولا رجاء، بل صار حاله أعلى منها. نعم، لا يخلو عن الخشية -أي الرهبة من الله ومن عظمته وهيبته-.

والآيات والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى، وقد جمع الله للخائفين العلم والهدى والرحمة والرضوان، وهي مجامع مقامات أهل الجنان، فقال: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) الفاطر 28. وقال: (هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) الأعراف 154. وقال: (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) البينة 8. وكثير من الآيات مصرحة يكون الخوف من لوازم الإيمان، كقوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) الأنفال 2. وقوله: (وخافون إن كنتم مؤمنين) آل عمران 175. ومدح الخائفين بالتذكر في قوله: (سيذكر من يخشى) الأعلى 10. ووعدهم الجنة وجنتين، بقوله: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات 40-41. وقوله: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) الرحمن 46. وفي الخبر القدسي: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له آمنين، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة). وقال رسول الله (ص): (رأس الحكمة مخافة الله)، وقال (ص): (من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء)، وقال لابن مسعود: (إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي)، وقال: (ص) (أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا). وعن ليث بن أبي سليم قال: سمعت رجلا من الأنصار يقول: بينما رسول الله مستظل بظل شجرة في يوم شديد الحر، إذ جاء رجل فنزع ثيابه، ثم جعل يتمرغ في الرمضاء، يكوي ظهره مرة، وبطنه مرة، وجبهته مرة، ويقول: يا نفس ذوقي، فما عند الله أعظم ما صنعت بك. ورسول الله ينظر إليه ما يصنع. ثم إن الرجل لبس ثيابه، ثم أقبل، فأومى إليه النبي (ص) بيده ودعاه، فقال له: يا عبد الله! رأيتك صنعت شيئا ما رأيت أحدا من الناس صنعه، فما حملك على ما صنعت؟ فقال الرجل: حملني على ذلك مخافة الله، فقلت لنفسي: يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم مما صنعت بك. فقال النبي (ص): لقد خفت ربك حق مخافته، وإن ربك ليباهي بك أهل السماء، ثم قال لأصحابه: يا معشر من حضر! ادنوا من صاحبكم حتى يدعو لكم. فدنوا منه، فدعا لهم، وقال: اللهم أجمع أمرنا على الهدى، واجعل التقوى زادنا، والجنة مآبنا. وقال (ص): (ما من مؤمن يخرج من عينيه دمعة، وإن كانت مثل رأس الذباب، من خشية الله، ثم يصيب شيئا من حر وجهه، إلا حرمه الله على النار)، وقال: (إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجر ورقها)، قال: (لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع). وقال سيد الساجدين (ع) في بعض ادعيته: (سبحانك! عجبا لمن عرفك كيف لا يخافك). وقال الباقر عليه السلام: صلى أمير المؤمنين عليه السلام بالناس الصبح بالعراق، فلما انصرف وعظهم، فبكى وأبكاهم من خوف الله، ثم قال: أما والله لقد عهدت أقواما على عهد خليلي رسول الله (ص): وإنهم ليصبحون ويمسون شعثا غبرا خمصا بين أعينهم كركب البعير يبيتون لربهم سجدا وقياما، يراوحون بين أقدامهم وجباههم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم من النار، والله لقد رأيتهم مع هذا وهم خائفون مشفقون، وفي رواية أخرى، وكأن زفير النار في آذانهم، إذا ذكر الله عندهم مادوا كما تميد الشجر كأنما القوم باتوا غافلين، ثم قال (ع): فما رئي عليه السلام بعد ذلك ضاحكا حتى قبض. 

وقال الصادق عليه السلام: من عرف الله خاف الله، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا، وقال عليه السلام: إن من العبادة شدة الخوف من الله تعالى يقول: إنما يخشى الله من عباده العلماء. وقال: فلا تخشوا الناس واخشون. وقال: ومن يتق الله يجعل له مخرجا. وقال: إن حب الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب، وقال (ع): المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى ما يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفا ولا يصلحه إلا الخوف وقال عليه السلام: خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك، فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك، وقال عليه السلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا، ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو، وقال عليه السلام: مما حفظ من خطب النبي (ص) أنه قال: أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب وما بعدها من دار إلا الجنة أو النار. 

ثم الأخبار الواردة في فضل العلم والتقوى والورع والبكاء والرجاء تدل على فضل الخوف، لأن جملة ذلك متعلقة به تعلق السبب أو تعلق المسبب، إذ العلم سبب الخوف، والتقوى والورع يحصلان منه ويترتبان عليه - كما ظهر مما سبق - والبكاء ثمرته ولازمه، والرجاء يلازمه ويصاحبه، إذ كل من رجا محبوبا فلا بد أن يخاف فوته، إذ لو لم يخف فوته لم يحبه فلا ينفك أحدهما عن الآخر، وإن جاز غلبة أحدهما على الآخر، إذ من شرطهما تعلقها بالمشكوك، لأن المعلوم لا يرجى ولا يخاف فالمحبوب المشكوك فيه تقدير وجوده يروح القلب وهو الرجاء، وتقدير عدمه يؤلمه وهو الخوف، والتقديران يتقابلان. نعم، أحد طرفي الشك قد يترجح بحضور بعض الأسباب، ويسمى ذلك ظنا، ومقابله وهما، فإذا ظن وجود المحبوب قوي الرجاء وضعف الخوف بالإضافة إليه، وكذا بالعكس، وعلى كل حال فهما متلازمان، ولذلك قال الله سبحانه: (ويدعوننا رغبا ورهبا) الأنبياء 90. وقال: (يدعون ربهم خوفا وطمعا) السجدة 16. 

وقد ظهر أن ما يدل على فضل الخمسة يدل على فضيلته، وكذا ما ورد في ذم الأمن من مكر الله يدل على فضيلته، لأنه ضده، وذم الشيء مدح لضده الذي ينفيه. ومما يدل على فضيلته ما ثبت بالتواتر من كثرة خوف الملائكة والأنبياء وأئمة الهدى - عليهم السلام - كخوف جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وحملة العرش، وغيرهم من الملائكة المهيمين والمسلمين. وكخوف نبينا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وداود ويحيى... وغيرهم. وخوف أمير المؤمنين وسيد الساجدين وسائر الأئمة الطاهرين عليهم السلام وحكاية خوف كل منهم في كتب المحدثين مذكورة وفي زبرهم مسطورة، فليرجع إليها من أراد، ومن الله العصمة والسداد.

الخوف إذا جاوز حده كان مذموما 

إعلم أن الخوف ممدوح إلى حد، جاوزه كان مذموما. وبيان ذلك: إن الخوف سوط الله الذي يسوق به العباد إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب إليه تعالى ولذة المحبة والأنس به، وكما أن السوط الذي تساق به البهيمة ويؤدب به الصبي، له حد من الاعتدال، لو قصر عنه لم يكن نافعا في السوق والتأديب، ولو تجاوز عنه في المقدار أو الكيفية أو المبالغة في الضرب كان مذموما لأدائه إلى إهلاك الدابة والصبي، فكذلك الخوف الذي هو سوط الله لسوق عباده له حد في الاعتدال والوسط وهو ما يوصل إلى المطلوب، فإن كان قاصرا عنه كان قليل الجدوى، وكان كقضيب ضعيف يضرب به دابة قوية، فلا يسوقها إلى المقصد.

 ومثل هذا الخوف يجري مجرى رقة النساء عند سماع شيء محزن يورث ففيهن البكاء، وبمجرد انقطاعه يرجعن إلى حالهن الأولى، أو مجرى خوف بعض الناس عند مشاهدة سبب هائل، وإذا غاب ذلك السبب عن الحس رجع القلب إلى الغفلة. فهذا خوف قاصر قليل الجدوى. فالخوف الذي لا يؤثر في الجوارح يكفها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفا. ولو كان مفرطا ربما جاوز إلى القنوط وهو ضلال: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) الحجر 56. أو إلى اليأس وهو كفر: (لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) يوسف 87.

 ولا ريب في أن الخوف المجاوز إلى اليأس والقنوط يمنع من العمل، لرفعهما نشاط الخاطر الباعث على الفعل، وإيجابهما كسالة الأعضاء المانعة من العمل. ومثل هذا الخوف محض الفساد والنقصان وعين القصور والخسران، ولا رجحان له في نظر العقل والشرع مطلقا، إذ كل خوف بالحقيقة نقص لكونه منشأ العجز، لأنه متعرض لمحذور لا يمكنه دفعه، وباعث الجهل لعدم اطلاعه على عاقبة أمره، إذ لو علم ذلك لم يكن خائفا لما مر من أن الخوف هو ما كان مشكوكا فيه، فبعض أفراد الخوف إنما يصير كمالا بالإضافة إلى نقص أعظم منه، وباعتبار رفعه المعاصي وإفضائه إلى ما يترتب عليه من الورع والتقوى والمجاهدة والذكر والعبادة وسائر الأسباب الموصلة إلى قرب الله وأنه، ولو لم يؤد إليها كان في نفسه نقصا لا كمالا، إذ الكمال في نفسه هو ما يجوز أن يوصف الله تعالى به، كالعلم والقدرة وأمثالهما، وما لا يجوز وصفه به ليس كمالا في ذاته، وربما صار محمودا بالإضافة إلى غيره وبالنظر إلى بعض فوائده، فما لا يفضي إلى فوائده المقصودة منه لإفراطه فهو مذموم، وربما أوجب الموت أو المرض أو فساد العقل، وهو كالضرب الذي يقتل الصبي أو يهلك الدابة أو يمرضها أو يكسر عضوا من أعضائها. 

وإنما مدح صاحب الشرع الرجاء وكلف الناس به، ليعالج به صدمة الخوف المفرط المفضي إلى اليأس أو إلى أحد الأمور المذكورة. فالخوف المحمود ما يفضي إلى العمل مع بقاء الحياة وصحة البدن وسلامة العقل، فإن تجاوز إلى إزالة شيء منها فهو مرض يجب علاجه، وكان بعض مشايخ العرفاء يقول للمرتاضين من مريديه الملازمين للجوع أياما كثيرة: احفظوا عقولكم، فإنه لم يكن الله تعالى ولي ناقص العقل وما قيل: إن من مات من خوف الله تعالى مات شهيدا معناه إن موته بالخوف أفضل من موته في هذا الوقت بدونه، فهو بالنسبة إليه فضيلة، لا بالنظر إلى تقدير بقائه وطول عمره في طاعة الله وتحصيل المعارف، إذ للمترقي في درجات المعارف والطاعات له في كل لحظة ثواب شهيد أو شهداء، فأفضل السعادات طول العمر في تحصيل العلم والعمل، فكل ما يبطل العمر أو العقل والصحة فهو خسران ونقصان.

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

اضف تعليق