النفس الإنسانية ذات قوى بعضها يدعو إلى الخيرات والفضائل وبعضها يقتضي الشرور والرذائل، وكلما حصل لأحدهما أدنى باعث لما تقتضيه جبلته مال إليه وغلب على صاحبه إلى الخير، ولكون دواعي الشر من القوى أكثر من بواعث الخير منها، يكون الميل إلى الشر أسرع وأسهل بالنسبة إلى الميل إلى الخير...
الطريق لحفظ اعتدال الفضائل
قد تقرر في الطب الجسماني أن حفظ الصحة بإيراد المثل وملائم المزاج، فيجب أن يكون حفظ اعتدال الفضائل أيضا بذلك. وإيراد المثل لحفظ اعتدالها يكون بأمور: منها اختيار مصاحبة الأخيار، والمعاشرة مع أولي الفضائل الخلقية، واستماع كيفية سلوكهم مع الخالق والخليقة، والاجتناب عن مجالسة الأشرار وذوي الأخلاق السيئة، والاحتراز عن استماع قصصهم وحكاياتهم وما صدر عنهم من الأفعال ومزخرفاتهم، فإن المصاحبة مع كل أحد أقوى باعث على الاتصاف بأوصافه، فإن الطبع يسترق من الطبع كلا من الخير والشر.
والسر: أن النفس الإنسانية ذات قوى بعضها يدعو إلى الخيرات والفضائل وبعضها يقتضي الشرور والرذائل، وكلما حصل لأحدهما أدنى باعث لما تقتضيه جبلته مال إليه وغلب على صاحبه إلى الخير، ولكون دواعي الشر من القوى أكثر من بواعث الخير منها، يكون الميل إلى الشر أسرع وأسهل بالنسبة إلى الميل إلى الخير، ولذا قيل: إن تحصيل الفضائل بمنزلة الصعود إلى الأعالي، وكسب الرذائل بمثابة النزول منها. وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات.
ومنها أعمال القوى في شرائف الصفات، والمواظبة على الأفعال التي هي آثار فضائل الملكات، وحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق الذي يريد حفظه، فالحافظ لملكة الجود يجب أن يواظب على إنفاق المال وبذله على المستحقين، ويقهر على نفسه عند وجدان ميلها إلى الامساك، والحافظ لملكة الشجاعة يجب ألا يترك الإقدام في الأخطار والأهوال بشرط إشارة العقل، ويغضب على نفسه عند وجدان الجبن منها. وهكذا الحال في سائر الصفات. وهذا بمثابة الرياضة الجسمانية في حفظ الصحة البدنية.
ومنه أن يقدم التروي على كل ما يفعله، لئلا تصدر عنه غفلة خلاف ما تقتضيه الفضيلة. ولو صدر عنه أحيانا خلاف مقتضاها، فليؤدب نفسه بارتكاب ما يضاده، ويشق عليها عقوبة، بعد تعييرها وتوبيخها، كما إذا أكل ما يضره من المطاعم فليؤدبها بالصوم، وإذا صدر عنه غضب مذموم في واقعة فليؤدبها بإيقاعها في مثلها مع الصبر عليها، أو في معرض إهانة السفهاء حتى يكسر جاهه أو يؤديها بارتكاب ما يشق عليها من النذر والصدقة وغير ذلك.
وينبغي ألا يترك الجد والسعي في التحصيل والحفظ وإن بلغ الغاية، لأن التعطيل يؤدي إلى الكسالة وهي إلى انقطاع فيوضات عالم القدس، فتنسلخ الصورة الإنسانية وتحصل الهلاكة الأبدية، والسعي يوجب ازدياد تجرد النفس وصفائها والأنس بالحق والألف بالصدق، فيتنفر عن الكذب والباطل، ويتصاعد في مدارج الكمالات ومراتب السعادات، حتى تنكشف له الأسرار الإلهية والغوامض الربانية، ويتشبه بالروحانيات القادسة، وينخرط في سلك الملائكة المقدسة. ويجب أن يكون سعيه في أمور الدنيا بقدر الضرورة، ويحرم على نفسه تحصيل الزائد، لأنه لا شقاوة أشد من صرف الجوهر الباقي النوراني في تحصيل الخزف الفاني الظلماني الذي يفوت عنه وينتقل إلى أعدائه من الوراث وغيرهم.
ومنها أن يحترز عما يهيج الشهوة والغضب رؤية وسماعا وتخيلا، ومن هيجهما كمن هيج كلبا عقورا أو فرسا شموسا، ثم يضطر إلى تدبير الخلاص عنه. وإذا تحركنا بالطبع فليقتصر في تسكينهما بما يسد الخلة ولا ينافي حفظ الصحة، وهو القدر الذي جوزه العقل والشريعة. ومنها أن يستقصي في طلب خفايا عيوب نفسه، وإذا عثر على شيء منها اجتهد في إزالته. ولما كانت النفس عاشقة لصفاتها وأفعالها، فكثيرا ما يخفى عليها بعض عيوبها، فيلزم على كل طالب للصحة وحافظها أن يختار بعض أصدقائه ليتفحص عن عيوبه ويخبره بما اطلع عليه، وإذا أخبره بشيء منها فليفرح وليبادر إلى إزالته حتى يثق صديقه بقوله، ويعلم أن إهداء شيء من عيوبه إليه أحسن عنده من كل ما يحبه ويهواه، وربما كان العدو في هذا الباب أنفع من الصديق، لأن الصديق ربما يستر العيب ولا يظهره، والعدو مصر على إظهاره، بل ربما يتجاوز إلى البهتان، فإذا أظهر الأعداء عيوبه فليشكر الله على ذلك وليبادر إلى رفعها وقمعها.
ومما ينفع في المقام أن يجعل صور الناس مرايا لعيوبه ويتفقد عيوبهم، وإذا عثر على عيب منهم تأمل في قبحه، ويعلم أن هذا العيب إذا صدر عنه يكون قبيحا ويدرك غيره هذا القبح، فليجتهد في إزالته. وينبغي أن يحاسب نفسه في آخر كل يوم وليلة، ويتفحص عن جميع ما صدر من الأفعال فيهما، فإن لم يصدر عنه شيء من القبائح والذمائم فليحمد الله على حسن تأييده، وإن صدر عنه شيء من ذلك فليعاتب نفسه ويتوب، ويجتهد في ألا يصدر عنه بعد ذلك مثله.
اضف تعليق