ويكون ابتداء التكميل الصناعي، فلو لم يحصل الاستكمال بالكسب والصناعة بقي على هذه الحالة، ولم يبلغ إلى الكمال الحقيقي الذي خلق الإنسان لأجله، لأنه لم يخلق أحد مجبولا على الإتصاف بجميع الفضائل الخلقية إلا من أيد من عند الله بالنفس القدسية، وإن كان بعض الناس أكثر استعدادا لتحصيل...
التكميل الصناعي لاكتساب الفضائل على طبق ترتيب الكمال الطبيعي لاكتساب الفضائل ترتيب ينبغي أن لا يتعدى عنه.
وبيان ذلك: أن مبادئ الحركات المؤدية إلى الكمالات: إما طبيعية كحركة النطفة في الأطوار المختلفة إلى بلوغ كمال الحيوانية، أو صناعية كحركة الخشب بتوسط الآلات إلى بلوغ كمال السريرية. ثم الطبيعية وتحريكاتها لاستنادها إلى المبادئ العالية تكون متقدمة على الصناعية المستندة إلى الإنسان، ولما كان كمال الثواني أن تتشبه بالأوائل، ينبغي أن تقتدي الصناعية في تحريكاتها المؤدية إلى كمالها بالطبيعية.
وإذ ثبت ذلك فاعلم: أن تهذيب الأخلاق لما كان أمرا صناعيا لزم أن يقتضي في تحصيله من حيث الترتيب بأفعال الطبيعة في ترتيب حصولها، فنقول:
لا ريب في أن أول ما يحصل في الطفل قوة طلب الغذاء، وإذا زادت تلك القوة يبكي ويرفع صوته لأجل الغذاء، وإذا قويت حواسه وتمكن من حفظ بعض الصور يطلب صورة الأم أو الظئر (المرضعة)، وجميع ذلك متعلق بالقوة الشهوية. ونهاية هذه القوة وكمالها أن يتم ما يتعلق بالشخص من الأمور الشهوية وينبعث منه الميل إلى استبقاء النوع، فيحدث ميل النكاح والوقاح. ثم تظهر فيه آثار القوة الغضبية حتى يدفع عن نفسه ما يؤذيه ولو بالاستعانة بغيره.
وغاية كمال هذه القوة حصول التمكن من حفظ الشخص والإقدام على حفظ النوع، فيحدث فيه الميل إلى ما يحصل به التفوق من أصناف الرئاسات والكرامات.
ثم تظهر فيه آثار قوة التمييز وتتزايد إلى أن يتمكن من تعقل الكليات.
وهنا يتم ما يتعلق بالطبيعة من التدبير والتكميل، ويكون ابتداء التكميل الصناعي، فلو لم يحصل الاستكمال بالكسب والصناعة بقي على هذه الحالة، ولم يبلغ إلى الكمال الحقيقي الذي خلق الإنسان لأجله، لأنه لم يخلق أحد مجبولا على الإتصاف بجميع الفضائل الخلقية إلا من أيد من عند الله بالنفس القدسية، وإن كان بعض الناس أكثر استعدادا لتحصيل بعض الكمالات من بعض آخر، فلابد لجل الأنام في تكميل نفوسهم من الكسب والاستعلام.
فظهر مما ذكر: إن الطبيعة تولد أولا قوة الشهوة، ثم قوة الغضب، ثم قوة التمييز، فيجب أن يقتدى به في التكميل الصناعي، فيهذب أولا القوة الأولى ليكتسب العفة، ثم الثانية ليتصف بالشجاعة، ثم الثالثة ليتحلى بالحكمة، فمن حصل بعض الفضائل على الترتيب الحكمي كان تحصيل الباقي له في غاية السهولة، ومن حصله لا على الترتيب، فلا يظن أن تحصيل الباقي حينئذ متعذر بل هو ممكن، وإن كان أصعب بالنسبة إلى تحصيله بالترتيب، فإن عدم الترتيب يوجب عسر الحصول لا تعذره، كما إن الترتيب يوجب يسره لا مجرد إمكانه. فلا يترك السعي والجد في كل حال ولا ييأس من رحمة الله الواهب المتعال، وليشمر ذيل الهمة على منطقة الطلب حتى ييسر الله له الوصول إلى ما هو المقصد والمطلب.
ثم الفضيلة إن كانت حاصلة لزم السعي في حفظها وإبقائها، وإن لم تكن حاصلة بل كان ضدها حاصلا وجب تحصيلها بإزالة الضد. ولذا كان فن الأخلاق على قسمين: (أحدهما) راجع إلى حفظ الفضائل، (وثانيهما) نافع في دفع الرذائل، فيكون شبيها بعلم الطب، من حيث انقسامه إلى قسمين:
(أحدهما) في حفظ الصحة، (وثانيهما) في دفع المرض، ولذا يسمى طبا روحانيا، كما إن الطب المتعارف يسمى طبا جسمانيا. ومن هنا كتب جالينوس إلى روح الله (ع): "من طبيب الأبدان إلى طبيب النفوس". فكما إن لكل من حفظ الصحة ودفع المرض في الطب الجسماني علاجا خاصا، فكذلك لكل من حفظ الفضائل وإزالة الرذائل في الطب الروحاني معالجات معينة، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
اضف تعليق