العراق اليوم بحاجة إلى مشروع وطني يتجاوز الزعامات التقليدية، لا بصدام معها، بل بإعادة تشكيل الشرعية السياسية على أسس جديدة: البرامج لا الأشخاص، المؤسسات لا الولاءات، المشاركة الشعبية لا الوراثة السياسية، فالتغيير الحقيقي لا يبدأ من تغيير الوجوه فحسب، بل من تحرير السياسة من إرثها الجامد، وإعادة بناء الحياة العامة على قاعدة الكفاءة والمساءلة والشفافية...

من يتأمل المشهد السياسي العراقي منذ عام 2003، سيلاحظ دون عناء أن الوجوه المتصدّرة في الساحتين الشيعية والكردية لم تتغيّر تقريبًا، بينما تشهد الساحة السنية قدرًا أعلى من التبدّل في القيادات. في كردستان العراق، تتكرر الأسماء ذاتها منذ عقدين: البارزانيون والطالبانيون. وفي الساحة الشيعية، يعود الحضور الدائم لرموز مثل السيد مقتدى الصدر، والسيد عمار الحكيم، ونوري المالكي، وغيرهم. أما في الساحة السنية، فإن القيادات تتغير بوتيرة أعلى: من عدنان الدليمي وطارق الهاشمي، إلى أسامة النجيفي، فمحمد الحلبوسي، ثم صعود أسماء جديدة في كل دورة.

فما سر هذا الجمود في المشهدين الكردي والشيعي؟ ولماذا لا يسري ذات النمط على الساحة السنية؟ وما أثر هذه الظاهرة على مستقبل التطور السياسي في العراق؟

الزعامة المغلقة: عائلات ورموز لا تتغير

في الحالتين الكردية والشيعية، يبدو المشهد محكومًا بمنطق الزعامة المغلقة. الزعامة هنا لا تنتجها صناديق الاقتراع أو آليات الديمقراطية الداخلية، بل ترتكز على شرعية عائلية، أو رمزية دينية، أو قوة اقتصادية–عسكرية، تجعل من القائد محصنًا ضد التغيير.

في كردستان، يتداول البارزانيون والطالبانيون المواقع العليا، ضمن نمط يكاد يكون وراثيًا. فالسلطة موزعة بين أولاد وأحفاد القادة التاريخيين، في ما يشبه “نظام إماراتي داخل الدولة”.

وفي الوسط الشيعي، تستمر الزعامات الدينية–السياسية بالسيطرة على المشهد، بفضل رمزية مرجعياتها أو إرثها التاريخي، أو عبر منظومات حزبية مسلحة تمتلك شبكات ولاء عميقة.

هذه الزعامات تتحكم بمفاصل المال والإعلام والسلاح، وتُدير الحياة السياسية عبر مؤسسات تخضع فعليًا لإرادتها، لا لقوانين تداول السلطة.

في المقابل: لماذا تتغير الوجوه السنية؟

تبدو الساحة السنية أكثر ديناميكية، لكنها أيضًا أكثر هشاشة. فمنذ 2003، لم تستقر القيادة السنية على رموز دائمة. هذا يعود إلى أسباب عدة:

 1. غياب الزعامة الرمزية أو العائلية التاريخية بعد سقوط النظام السابق، ما خلق فراغًا في الشرعية السياسية.

 2. التقلبات الأمنية والسياسية التي عصفت بالمناطق السنية، من الاحتلال إلى القاعدة فداعش والنزوح، عطّلت استمرار الزعامات.

 3. تنافس داخلي بين الزعامات القبلية والمحلية، وعدم وجود إجماع على شخصية جامعة.

 4. تعدد المرجعيات الخارجية (إقليمية ودولية) التي تدعم أطرافًا متباينة، ما يعمّق التفتت القيادي.

وبذلك، فإن التغيّر في الوجوه لا يعني بالضرورة حيوية سياسية، بقدر ما يعكس غياب العمق المؤسسي وافتقار الساحة السنية إلى مركز ثقل سياسي واضح.

كيف يؤثر هذا الجمود على مستقبل العراق؟

إن بقاء نفس الشخصيات في الواجهة السياسية لعقدين من الزمن، دون تجديد في الخطاب أو الأدوات أو النتائج، يُنتج عددًا من الآثار السلبية الخطيرة:

ركود سياسي يعطّل التطور الديمقراطي، ويكرّس عقلية الزعامة الفردية على حساب المؤسسة.

تآكل الثقة الجماهيرية في النظام السياسي، نتيجة تكرار الفشل من ذات الأشخاص.

احتكار للسلطة والثروة، يمنع صعود نخب جديدة أكثر تأهيلًا أو استقلالية.

تعطيل التداول السلمي الحقيقي للسلطة، وتحويل الديمقراطية إلى واجهة شكلية.

أما في الساحة السنية، فإن الاضطراب القيادي وعدم استقرار الزعامة، يُضعف القدرة على التفاوض السياسي، ويُبقي تمثيل هذه المكوّنات هشًا ومجزّأ.

الحاجة إلى شرعية جديدة

العراق اليوم بحاجة إلى مشروع وطني يتجاوز الزعامات التقليدية، لا بصدام معها، بل بإعادة تشكيل الشرعية السياسية على أسس جديدة:

البرامج لا الأشخاص.

المؤسسات لا الولاءات.

المشاركة الشعبية لا الوراثة السياسية.

فالتغيير الحقيقي لا يبدأ من تغيير الوجوه فحسب، بل من تحرير السياسة من إرثها الجامد، وإعادة بناء الحياة العامة على قاعدة الكفاءة والمساءلة والشفافية.

اضف تعليق