لكل واحد من أجناس الرذائل والفضائل أنواع ولوازم من الأخلاق والأفعال ذكرها علماء الأخلاق في كتبهم، وقد ذكروا للعدالة أيضا أنواعا، وقد عرفت فيما تقدم أن تخصيص بعض الصفات بالاندراج تحتها مما لا وجه له، إذ جميع الرذائل والفضائل لا يخرج عن التعلق بالقوى الثلاث، أعني العاقلة والغضبية والشهوية...
قد ظهر مما ذكر أنه بإزاء كل فضيلة رذائل غير متناهية من طرفي الإفراط والتفريط، وليس لكل منها اسم معين ولا يمكن عد الجميع وليس على صاحب الصناعة حصر مثلها، لأن وظيفته بيان الأصول والقوانين الكلية، لا إحصاء الأعداد الجزئية.
والقانون اللازم بيانه هو أن الانحراف عن الوسط إما إلى طرف الإفراط أو إلى طرف التفريط، فيكون بإزاء كل فضيلة جنسان من الرذيلة، ولما كانت أجناس الفضائل أربعة فتكون أجناس الرذائل ثمانية (اثنان) بإزاء الحكمة.
"الجربزة والبله"(1): و (الأول) في طرف الإفراط وهو استعمال الفكر في ما لا ينبغي أو في أقل منه، والأولى أن يصير عنهما (بالسفسطة) أي الحكمة المموهة، و (الجهل) أي البسيط منه، لأن حقيقة الحكمة هو العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه وهو موقوف على اعتدال القوة العاقلة، فإذا حصلت له حدة خارجة عن الاعتدال يخرج عن الحد اللائق ويستخرج أمورا دقيقة غير مطابقة للواقع، والعلم بهذه الأمور هو ضد الحكمة من طرف الإفراط وإذا حصلت لها بلادة لا ينتقل إلى شيء فلا يحصل لها العلم بالحقائق وهذا هو الجهل وهو ضده من طرف التفريط.
(واثنان) بإزاء الشجاعة "التهور والجبن": (الأول) في طرف الإفراط وهو الإقدام على ما ينبغي الحذر عنه، و (الثاني) في طرف التفريط وهو الحذر عما ينبغي الإقدام عليه.
(واثنان) بإزاء العفة وهما: "الشره والخمود": و (الأول) في طرف الإفراط وهو الانهماك - اللذات الشهوية على ما لا يحسن شرعا وعقلا، و (الثاني) في طرف التفريط وهو سكون النفس عن طلب ما هو ضروري للبدن.
(واثنان) بإزاء العدالة وهما: "الظلم والانظلام": و (الأول) في طرف الإفراط وهو التصرف في حقوق الناس وأموالهم بدون حق، و (الثاني) في طرف التفريط وهو تسكين الظالم من الظلم عليه وانقياده له فيما يريده من الجبر والتعدي على سبيل المذلة، هكذا قيل.
والحق أن العدالة مع ملاحظة ما لا ينفك عنها من لازمها، لها طرف واحد يسمى جورا وظلما، وهو يشمل جميع ذمائم الصفات، ولا يختص بالتصرف في حقوق الناس وأموالهم بدون جهة شرعية، لأن العدالة بهذا المعنى - كما عرفت - عبارة عن ضبط العقل العملي جميع القوى تحت إشارة العقل النظري، فهو جامع للكمالات بأسرها، فالظلم الذي هو مقابله جامع للنقائص بأسرها، إذ حقيقة الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهو يتناول جميع ذمائم الصفات والأفعال فتمكين الظالم من ظلمه لما كان صفة ذميمة يكون ظلما، على أن من مكن الظالم من الظلم عليه وانقاد له ذلة، فقد ظلم نفسه، والظلم على النفس أيضا من أقسام الظلم. هذا هو بيان الطرفين لكل من الأجناس الأربعة للفضيلة.
أنواع ولوازم
ثم لكل واحد من أجناس الرذائل والفضائل أنواع ولوازم من الأخلاق والأفعال ذكرها علماء الأخلاق في كتبهم، وقد ذكروا للعدالة أيضا أنواعا، وقد عرفت فيما تقدم أن تخصيص بعض الصفات بالاندراج تحتها مما لا وجه له، إذ جميع الرذائل والفضائل لا يخرج عن التعلق بالقوى الثلاث، أعني العاقلة والغضبية والشهوية، وإن كان للقوة العملية مدخلية في الجميع من حيث التوسط، فنحن ندخل الجميع تحت أجناس القوى الثلاث من غير اندراج شيء منها تحت العدالة، وقد عرفت أن بعضها متعلق بالعاقلة فقط، وبعضها بالقوة الغضبية فقط، وبعضها بالشهوية فقط، وبعضها بالاثنين منها أو الثلاث معا.، فنحن نذكر ذلك في مقامات أربعة.
ولمزيد الإحاطة نشير هنا إجمالا إلى أسماء الأجناس والأنواع واللوازم التي لكل جنس، ونذكر أولا ما يتعلق بالغضبية، ثم ما يتعلق بالشهوية، ثم ما يتعلق بالثلاث أو الاثنتين منها، وتذكر أولا الرذيلة، ثم نشير إلى ضدها من الفضيلة إن كان له اسم، ثم في باب المعالجات نذكر معالجة كل رذيلة من الأجناس والأنواع والنتائج ونذيلها بذكر ضدها من الفضيلة، ونذكر أولا جنسي الرذيلة لكل قوة، ونذيلهما بضدهما الذي هو جنس فضيلتها، ثم نذكر الأنواع والنتائج على النحو المذكور، أي نذكر أولا الرذيلة بأحكامها "ومعالجاتها"، ثم نشير إلى ضدها، وما ورد في مدحه ترغيبا للطالبين على أخذه والاجتناب عن ضده، ولذلك لم نتابع القوم في التفريق بين الرذائل والفضائل وذكر كل منهما على حدة.
ثم بيان الأنواع واللوازم على ما ذكر أكثره القوم لا يخلو عن الاختلال إما في التعريف والتفسير، أو في الفرق والتمييز، أو في الادخال تحت ما جعلوه نوعا له، أو غير ذلك من وجوه الاختلال، فنحن لا نتبعهم في ذلك، ونبينها إدخالا وتمييزا وتعريفا ما يقتضيه النظر الصحيح، فنقول:
جنسا الرذيلة للقوة العقلية
أما جنسا الرذيلة للقوة العقلية، " فأولهما " (الجربزة والسفسطة) وهي من طرف الإفراط، و "ثانيهما" (الجهل البسيط) وهو من طرف التفريط وضدهما (العلم والحكمة)، وأما الأنواع واللوازم المترتبة عليهما، فمنها (الجهل المركب) وهو منم باب رداءة الكيفية. ومنها (الحيرة والشك) وهو من طرف الإفراط على ما قيل، وضد الجهل المركب إدراك ما هو الحق أو زوال العلم بأنه يعلم، وضد الحيرة الجزم بأحد الطرفين. وبذلك يظهر أن اليقين ضد لكل منهما، لأنه اعتقاد جازم مطابق للواقع، فمن حيث اعتبار الجزم فيه يكون ضدا للحيرة، ومن حيث اعتبار المطابقة للواقع يكون ضدا للجهل المركب، ومنشأ حصول اليقين هو استقامة الذهن وصفاؤه مع مراعاة شرائط الاستدلال، ومنشأ الجهل المركب اعوجاج الذهن، أو حصول الخطأ في الاستدلال، أو وجود مانع من إفاضة الحق كعصبية، أو تقليد أو أمثال ذلك، ومنشأ الحيرة هو قصور الذهن وكدرته، أو الالتهاب الموجب للتجاوز عن المطلوب، أو عدم الإحاطة بمقدماته، ومنها (الشرك) وضده التوحيد.
ومنها "الوساوس" النفسانية والخواطر الباطلة الشيطانية، وهذا أيضا من باب رداءة الكيفية، وكان الظاهر أن يعد ذلك من رذائل قوتي الوهم والمتخيلة دون العاقلة، إذ الغالب أنها لا تنفك عن الاختلال فيهما، إلا أنك قد عرفت العذر في ذلك، وضدها الخواطر المحمودة التي من جملتها الفكر في بدائع صنع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته. ومنها (استنباط المكر والحيلة) للوصول إلى مقتضيات الشهوة والغضب، وهو من طرف الإفراط.
جنسا الرذائل للقوة الغضبية
وأما جنسا الرذائل للقوة الغضبية، فأولهما (التهور) وثانيهما (الجبن) وقد عرفت أن ضدهما من الفضيلة (الشجاعة). وأما الأنواع واللوازم والنتائج المترتبة عليها، فمنها (الخوف) وهو هيئة نفسانية مؤذية تحدث من توقع مكروه أو زوال مرغوب، وهو مذموم إلا ما كان لأجل المعصية والخيانة، أو من الله وعظمته. والمذموم من رذائل تلك القوة ومن نتائج الجبن وضده الأمن من مكر الله، وهو -أي الممدوح من الخوف- يلازم الرجاء وضده الأمن من مكر الله، وهو -أي الممدوح من الخوف- يلازم الرجاء وضده اليأس.
ومنها (صغر النفس) أي ملكة العجز عن تحمل الواردات وهو من نتائج الجبن، وضده كبر النفس أي ملكة التحمل لما يرد عليه كائنا ما كان. ومن جملة التحمل التحمل على الخوض في الأهوال، وقوة المقاومة مع الشدائد والآلام ويسمى (بالثبات) فهو أخص من كبر النفس، وضده الاضطراب في الأهوال والشدائد. ومن جملة الثبات الثبات في الإيمان، ومنها (دناءة الهمة) وهو القصور عن طلب معالي الأمور وهو من لوازم ضعف النفس وصغرها، وضده (علو الهمة) الذي هو من لوازم كبر النفس وشجاعتها، أي السعي في تحصيل السعادة والكمال وطلب الأمور العالية من دون ملاحظة منافع الدنيا ومضارها. ومن أفراد علو الهمة الشهامة، ويأتي تفسيرها. ومنها (عدم الغيرة والحمية) أي الإهمال في محافظة ما يلزم حفظه، وهو أيضا من نتائج صغر النفس وضعفها وضده ظاهر.
ومنها (العجلة) وهو المعنى الراتب (2) في القلب الباعث على الإقدام على الأمر بأول خاطر من دون توقف فيه، وهو أيضا من نتائج صغر النفس وضعفها، وضدها الأناءة والتأني، (التعسف) قريب من العجلة، وضده أعني (التوقف) قريب من الأناءة، ويأتي الفرق بينهما، والوقار يتناول التأني والتوقف، وهو اطمئنان النفس وسكونها عند الحركات والأفعال في الابتداء والأثناء، وهو من لوازم كبر النفس وشجاعتها. ومنها (سوء الظن بالله تعالى وبالمؤمنين) وهو من لوازم الجبن وضعف النفس، وربما كان من باب رداءة الكيفية، فضده أعني حسن الظن بهما من آثار الشجاعة وكبر النفس.
ومنها (الغضب) وهو حركة نفسانية يوجب حركة الروح من الداخل إلى الخارج للغلبة وهو من باب الإفراط، وضده الحلم. ومنها (الانتقام) وهو من نتائج الغضب، وضده العفو. ومنها (العنف) وهو أيضا من نتائج الغضب، وضده الرفق. ومنها (سوء الخلق) بالمعنى الأخص وهو أيضا من نتائجه، وضده (حسن الخلق) بالمعنى الأخص، ومنها (الحقد) وهو العداوة الكامنة، أي إرادة الشر وقصد زوال الخير من المسلم، وهو أيضا من ثمرات الغضب. ومنها (العداوة) الظاهرة، وضدها (النصيحة) أي إرادة الخير والصلاح، ودفع الشر والفساد عن كل مسلم.
ثم للغضب والحقد لوازم هي الضرب والفحش واللعن والطعن. ومنها (العجب) وهو استعظام النفس، وضده انكسارها واستحقارها.
ومنها (الكبر) وهو التعظيم الموجب لرؤية النفس فوق الغير، وضده (التواضع) وهو أن لا يرى لنفسه مزية على الغير. ومنها (الافتخار) وهو المباهاة بما يظنه كمالا وهو من شعب الكبر. ومنها (البغي) وهو عدم الانقياد لمن يجب أن ينقاد وهو أيضا من شعب الكبر. وضده (التسليم) والانقياد لمن يجب الانقياد إليه وإطاعته، وقد يفسر بمطلق العلو والاستطالة ومنها (تزكية النفس) وضده الاعتراف بنقائصها. ومنها (العصبية) وهي الحماية عن نفسه وعما ينتسب إليه بالباطل والخروج عن الحق. ومنها (كتمان الحق) وضدهما الإنصاف والاستقامة على الحق. ومنها (القساوة) وهو عدم التأثر عن مشاهدة تألم أبناء النوع، وضدها الرحمة.
جنسا الرذائل المتعلقة بالقوة الشهوية
وأما جنسا الرذائل المتعلقة بالقوة الشهوية فأحدهما (الشره) وثانيهما (الخمود) وضدهما (العفة)، وأما الأنواع والنتائج واللوازم المتعلقة بها، فمنها (حب الدنيا). ومنها (حب المال) وضدها الزهد. ومنها (الغنى) وضده الفقر. ومنها (الحرص) وضده القناعة. ومنها (الطمع) وضده الاستغناء عن الناس. (البخل) وضده السخاء، وتندرج تحته وجوه الإنفاقات بأسرها. ومنها (طلب الحرام) وعدم الاجتناب عنه، وضده الورع والتقوى بالمعنى الخاص. ومنها (الغدر والخيانة) وضدهما الأمانة.
ومنها (أنواع الفجور) من الزنا واللواط وشرب الخمر والاشتغال بالملاهي وأمثالها. ومنها (الخوض في الباطل). ومنها (التكلم بما لا يعني وبالفضول) وضدهما الترك والصمت، أو بالتكلم بما يعني يقدر الضرورة.
وأما الرذائل والفضائل المتعلقة بالقوى الثلاث، أو باثنتين منها: فمنها (الحسد) وضده النصيحة. ومنها (الإيذاء والإهانة والاحتقار) وضدها كف الأذى والاكرام والتعظيم، والإيذاء قريب من الظلم بالمعنى الأخص أو أعم منه، وضد الظلم بالمعنى الأخص العدالة بالمعنى الأخص. ومنها (إخافة المسلم وإدخال الكرب في قلبه) وضدها إزالة الخوف والكرب عنه. ومنها (ترك إعانة المسلمين) وضده قضاء حوائجهم. ومنها (المداهنة) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضده السعي فيهما. ومنها (الهجرة والتباعد عن الأخوان) وضده التآلف والتزاور. ومنها (قطع الرحم) وضده الصلة.
ومنها (عقوق الوالدين) وضده البر إليهما. ومنها (تجسس العيوب) وضده الستر. ومنها (إفشاء السر) وضده الكتمان. ومنها (الافساد بين الناس) وضده الإصلاح بينهم. ومنها (الشماتة بمسلم). ومنها (المراء والجدال والخصومة) وضدهما طيب الكلام. ومنها (السخرية والاستهزاء) أو ضدهما المزاح. ومنها (الغيبة) وضدها المدح ودفع الذم. ومنها (الكذب) وضده الصدق، ولجميع آفات اللسان مما له ضد خاص، ومما ليس له ضد بخصوصه ضد عام هو الصمت. ومنها (حب الجاه والشهرة) وضده حب الخمول. ومنها (حب المدح وكراهة الذم) وضده مساواتهما.
ومنها (الريا) وضده الإخلاص. ومنها (النفاق) وضده استواء السر والعلانية. ومنها (الغرور) وضده الفطانة والعلم والزهد. ومنها (طول الأمل) وضده قصره. ومنها (مطلق العصيان) وضده الورع والتقوى بالمعنى الأعم. ومنها (الوقاحة) وضده الحياء. ومنها (الإصرار على المعصية) وضده التوبة، وأقصى مراتبها الإنابة والمحاسبة والمراقبة قريبة من التوبة في ضديتها للإصرار. ومنها (الغفلة) وضدها النية والإرادة.
ومنها (عدم الرغبة) وضده الشوق. ومنها (الكراهة) وضده الحب.
ومنها (الجفاء) وضده الوفاء وهو من تمام الحب. ومنها (البعد) وضده الأنس ومن لوازمه حب الخلوة والعزلة. ومنها (السخط) وضده الرضا، وقريب منه التسليم ويسمى تفويضا، بل هو فوق الرضا كما يأتي. ومنها (الحزن) وضده السرور. ومنها (ضعف الوثوق والاعتماد على الله) وضده التوكل. ومنها (الكفران) وضده الشكر. ومنها (الجزع والهلع) وضده الصبر. ومنها (الفسق) وهو الخروج عن طاعة الله وعبادته، وضده الطاعة والعبادة، وتندرج تحتها (العبادات الموظفة في الشرع) (13) من الطهارة، والصلاة، والذكر وتلاوة القرآن، والزكاة والخمس والصوم والحج والزيارات. ونحن نذكر الزكاة والخمس في وجوه الإنفاق، وما سواهما في العبادات.
(تنبيه)
إعلم أن إحصاء الفضائل والرذائل وضبطهما، وإدخال البعض في البعض، والإشارة إلى القوة الموجبة لها على ما فصلناه، مما لم يتعرض له علماء الأخلاق، بل إنما تعرضوا لبعضها، ويظهر من كلامهم في بعض المواضع المخالفة في الادخال.
والسر فيه أن كثيرا من الصفات لها جهات مختلفة كل منها يناسب قوة كما أشرنا إليه، فالاختلاف في الادخال لأجل اختلاف الاعتبار للجهات "وقد عرفت أن ما له جهات مختلفة يتعلق بالقوى المتعددة نحن نجعل مبدأه الجميع ونعده من رذائله أو فضائله، ولا نخصه بواحدة منها". ثم بعض الصفات ربما كان ببعض الاعتبارات معدودا من الرذائل، وذلك كالمحبة والخوف والرجاء، فإن الحب إن كان متعلقا بالدنيا ومتعلقاتها كان مذموما وإن كان متعلقا بالله وأوليائه كان محمودا معدودا من الفضائل. والخوف إن كان مما لا يخاف منه عقلا كان من رذائل قوة الغضب، وإن كان من المعاصي أو من عظمة الله كان من فضائلها، والرجاء إن لم يكن في موقعه كان من الرذائل، وإن كان في موقعه كان من الفضائل، وقس عليها غيرها مما له الاعتبارات المختلفة.
اضف تعليق