q

هل يكفي الغني المادي للفرد او الجماعة او المجتمع، وهل يكفي ان تكون الدولة غنية لكي يُقال أنها دولة متقدمة، وهل يشعر صاحب المال بالثقة نفسها التي يحملها صاحب العقل الراجح والفكر الانساني الراسخ؟، هذه الأسئلة المتوالية لا نطرحها في جانبها الاخر او المثالي بطبيعة الحال، ولا نحصرها بشخصية او جماعة او دولة بعينها، إنما السؤال الواضح هنا، هل يكفي المال لترجيح كفة أحد على أحد؟، واذا كان الامر كذلك، لماذا انحدرت شخصيات غنية ودول غنية نحو الحضيض؟؟.

لماذا بات الغرب يعاني من ازمات اخلاقية اجتماعية فادحة على الرغم من غناه الكبير من بين شعوب الارض؟، ثم لماذا ينبهر كثيرون بما حققه الغرب من تطور كبير في التقانة والصناعات وما شابه، على الرغم من انها فعلا مكتشفات وابتكارات تستحق الانبهار، لاسيما ما يتعلق باكتشافات الفضاء او التطور الالكتروني والصناعي عموما، بيد أن غض الطرف عن جانب، والتركيز على جانب آخر، يدل على تغييب المعايير في الحكم على الغرب او على سواه، حتى في معايير المقارنة بين شخص وآخر وشعب آخر، لا ينبغي أن يكون الجانب المادي هو المعيار الوحيد، فحينما تكون متطورا ماديا في التكنولوجيا والصناعات كافة، ومتخلفا في الاخلاقيات والقيم الانسانية المتَّفق عليها، فإن هذا الامر يشكل دليلا واضحا على وجود خلل في تركيبة المجتمع الذي تنتمي اليه، بل وهو دليل قاطع على حالة الانحدار السريع نحو الضمور والتلاشي، لأن الاصل في الوجود الانساني ليس الصناعة والماديات، وانما الفكر والروح والعقل الذي يخطط ويفكر، ويضع البدائل النظرية المطلوبة، ومنها بل واهمها الاخلاقيات، وفي حال غياب الاخلاق، فإن الانحدار الحتمي سيكون مصير المجتمع، وهذا ما ادركه فلاسفة ومفكرو الغرب، حيث الضمور الاخلاقي مقابل الاستفحال المادي.

ولا شك أن المتابع المعني بأمر الغربيين سوف يلاحظ بوضوح ما يحدث الآن في الغرب، إذ أن هناك تركيزا كبيرا على الجانب المادي والتطور التقني والصناعي، فيما يعاني ذلك المجتمع من تراجع خطير في الجانب الاخلاقي وانتشار مظاهر التفسخ تحت مسمّى الحرية الفردية المكفولة حتى لو اساءت للآخر!، بحجة حماية الحريات، ولعل المراقب يستطيع بسهولة أن يكتشف انحدار الغرب نحو الانحلال والتفسخ الخلقي، حينما يطلع مثلا على تشريع الزواج المثلي في بعض الدول الاوربية، بحجة حماية الحريات الشخصية، وهو تبرير فاشل قطعا، لأن حماية الحرية الشخصية لا يعني ابدا تدمير البنية الاخلاقية للمجتمع، والتي تقوم على الفطرة الانسانية الأصيلة، وفطرة الانسان تدفعه الى الحيز المنطقي من السلوكيات الافكار التي تحمي المجتمع ولا تعيث به فسادا تحت وطأة الضغوط الداعية الى حرية فردية منفلتة.

وحتما أن هناك من يشعر بالخطر في الغرب من هذا الاندفاع الغريب نحو الماديات، واهمال الجانب الانساني الاخلاقي، لذلك هناك خلل كبير وواضح، بخصوص التعامل مع الحريات الشخصية، كذلك هناك خلل لدى الأشخاص المنبهرين بحرية الغرب، حينما يتصورون أن جوهر الحرية الانسانية تكمن في الاهتمام بالمادي على حساب المعنوي والاخلاقي، ولذلك فإن أي اندفاع غير محسوب في هذا الاطار لا يمكن أن يعبر عن وعي أعمق، ولا عن تطور يثير الرغبة لدى المجتمعات الاخرى بالسير على خطى الغرب، لسبب بسيط جدا أن مثل هذه الاجراءات والسلوكيات والتشريعات، تقف بالضد من الطبيعة البشرية التي تأسست على قواعد فطرية سليمة، تأخذ صحتها وشرعيتها من قوانين الطبيعة.

ولا نعرف لماذا بالضبط لما يهتم اصحاب القرار والمسرعون في المجتمع الغربي، بالجانب المادي على حساب الاخلاقي، ولماذا يندفع المفكرون والمشرعون لسن قوانين، تحمي من التجاوزات العامة، وتهمل بطريقة واضحة حريات مادية تنطوي على ظواهر اخلاقية شاذة وخطيرة، كالزواج المثلي على سبيل المثال، فإذا كانت مثل هذه الامور تشكل نسبة قليلة في الوقت الراهن، فإنها سوف تتضاعف كثيرا في القادم من السنوات والعقود، وسوف يغدو مثل هذا السلوك شائعا، وربما مستساغا من لدن الاكثرية في المجتمع الغربي عموما، وهو امر يشكل خطرا على الوجود البشري وأخلاقياته، من خلال التأثير الذي قد يطال الشعوب الاخرى، لاسيما ان عالمنا يعيش بين حاجته الى الانفتاح والاعلام الحر، وحاجته ايضا الى الاعراف التي تضبط ايقاع المجتمع من الناحية الروحية والمعنوية.

ولعل الخطر الأكبر يتمثل في التأثير الذي يتعرض له العالم البشري بمثل هذه الحالات من الانحطاط المادي، إذ من المعروف عن الدول الغربية انها تخطط دائما لتصدير ازماتها الى دول العالم الاخرى، لذا فإن معظم ما يعانيه العالم من ازمات غالبا ما يكون مصدرها الغرب، كما لاحظنا ما حدث في الازمة الاقتصادية التي ضربت العالم في 2008، فضلا عن الامراض الغريبة التي تظهر بين حين وآخر، مع ظهور العلاجات الملازمة لها فورا، الامر الذي يدل على انتاج المرض ونشره ثم انتاج العلاج لبيعه، من اجل الثراء وتحقيق الربح المادي، في ظل غياب تام للضمير الانساني، وهذه في الحقيقة هي بعض أزمات وملامح الغرب المتقدم علميا والمتردي اخلاقيا، ولعل المشكلة التي يعاني منها العالم اجمع، أن ازمات الغرب لا تبقى في حدود المجتمع الغربي، بل سرعان ما يتم تصديرها ونشرها الى بقاع العالم الاخرى، الامر الذي يستدعي تظافر دوليا اخلاقيا، يتابع هذه التجاوزات العابرة للحدود، والتي تتسبب في ظواهر خطيرة، تتمثل جميعا بالضمور القيمي الذي قد يصيب الجميع، وهذا وحده كفيل بتدمير الكيان البشري بأكمله.

اضف تعليق