في شهر فبراير الماضي، تزامنًا مع الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية، تواترت الأنباء عن أن القوات الروسية قامت بحفر خنادق في التربة المشعة في تشرنوبل، وسيّرت مركبات ثقيلة في المنطقة؛ الأمر الذي تسبب في إثارة الغبار الملوث بالإشعاع. فبعد مرور ستة وثلاثين عامًا على انفجار قلب المفاعل في محطة «تشرنوبل» Chernobyl النووية...
بقلم: ألكسندرا فيتزي
في شهر فبراير الماضي، تزامنًا مع الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية، تواترت الأنباء عن أن القوات الروسية قامت بحفر خنادق في التربة المشعة في تشرنوبل، وسيّرت مركبات ثقيلة في المنطقة؛ الأمر الذي تسبب في إثارة الغبار الملوث بالإشعاع. فبعد مرور ستة وثلاثين عامًا على انفجار قلب المفاعل في محطة «تشرنوبل» Chernobyl النووية، لا يزال الرماد الناتج عن أسوأ كارثة نووية شهدها العالم متغلغلًا في البيئة المحيطة. قد لا يرى البعض في الجهل بهذا الحدث التاريخي أمرًا ذا بال، قياسًا إلى الأعمال الوحشية التي ارتكبتها القوات الروسية أثناء هجومها على أوكرانيا؛ ولكن هذا الجهل يوضح لنا العواقب الوخيمة والمقيمة للكوارث النووية، وهي العواقب التضي غالبًا ما تُداهمنا على غير انتظار.
ُيُعَد سيرهي بلوخي، المؤرخ الأوكراني الذي وضع كتابًا تحت عنوان «شرنوبل» Chernobyl، نُشر في عام 2018، أحد أبرز مؤرخي هذا الكارثة النووية؛ ذلك أنه يُضمِّن كتابه عرضًا دقيقًا وجامعًا لأحداث ذلك اليوم المشؤوم من شهر أبريل عام 1986. أما في كتابه الصادر حديثًا بعنوان «ذرات ورماد» Atoms and Ashes، فإن بلوخي يتناول تاريخ هذه الكارثة من منظور عالمي أرحب، حيث يضعها ضمن ست حوادث نووية شهدها العالم على مدار تاريخه: من الانفجارات التي وقعت داخل محطات إنتاج البلوتونيوم، إلى حوادث الانصهار التي تعرَّضت لها محطات إنتاج الطاقة. وهكذا، فإن الكتاب يأخذنا في جولة تعريفية، تضعنا في مواجهة وقائع تتعلق بالطاقة النووية، هي من أفدح الوقائع التي مرَّت على تاريخ العالَم، وأكثرها ترويعًا. كما يمدنا الكتاب بمعلومات مفيدة، تثري النقاشات الدائرة اليوم بشأن الدور الذي يمكن أن تلعبه الطاقة النووية في خلق اقتصاد عالميٍّ خالٍ من الكربون.
الوجه الحربي للذرّة
بزغت الطاقة النووية في عصر الحروب، إذ يمكن تحديد ميلادها في أحد أيام شهر ديسمبر من العام 1942 في مدينة إلينوي بولاية شيكاغو الأمريكية، عندما تولدت الطاقة النووية لأول مرة في التاريخ عن أول تفاعل نووي اصطناعي، ذاتي التغذية، داخل كومة من كُتل الجرافيت واليورانيوم التي رُصَّت في طبقات مستطيلة الشكل. كان هذا الحدث إنجازًا مهمًا للمشروع البحثي الذي كان يُطلق عليه «مشروع مانهاتن» Manhattan Project ، والذي استطاع فيما بعد تطوير القنبلتين النوويتين اللتين دمّرتا مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين. وبذا خطّت نهاية الحرب العالمية الثانية من ناحية، وأشعلت سباق التسلح النووي الطاحن بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، ودفعت البلدين إلى تشييد ترسانتيهما النوويتين، من ناحيةٍ أخرى.
وبينما كانت النزاعات تحتدم بين القوى العظمى، كانت الدول النائية التي لا تتمتع بمكانة جيوسياسية كبيرة تعاني من آثار ذلك التسلح النووي على الصحة العامة. كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والمملكة المتحدة، قبل عقد اتفاقية حظر إجراء الاختبارات النووية داخل الغلاف الجوي في عام 1963، تتسبب في تشبع الهواء بالإشعاعات جرّاء الانفجارات التي تحدث أثناء إجراء تلك الاختبارات. وقد وقع أحد هذه الانفجارات المروعة خلال اختبار أجري في شهر مارس من عام 1954 في جزر مارشال، الواقعة في المحيط الهادي. أطلقت الولايات المتحدة على هذا الاختبار اسم «كاسل برافو»Castle Bravo ، وكان أول اختبار تجريه على قنبلة هيدروجينية باستخدام نوع جديد من الوقود، حيث أساء مصممو الاختبار تقدير حجم الانفجار الناتج. انفجرت القنبلة فوق جزر بيكيني أتول، المتاخمة لمنطقة كبيرة من الشعاب المرجانية، مخلفة 15 ميجاطن من مادة TNT المتفجرة، أي ما يفوق حجم الانفجار المتوقع بمرتين ونصف على وجه التقريب. كما أن التنبؤات الجوية بدورها أخطأت في توقع قوة الرياح في ذلك الوقت.
نجَم عن هذه الحادثة انتشار الإشعاع ليطال عدة جزر مأهولة، منها جزيرة رونجلاب الواقعة على مسافة 157 كيلومترًا من موقع الانفجار، والتي أفاد سكانها بتساقط مادة لونها ضارب إلى البياض، أشبه بالثلج، فوق رؤوسهم. ولم تكن تلك المادة إلا مرجانًا مشعًّا، فتّته التفجير إلى ما يشبه الغبار. وحيث لم تُذِع الحكومة الأمريكية أية تحذيرات أو نصائح في هذا الوقت، فقد استمر السكان في نشاطاتهم خارج المنازل، حتى بدأت جلودهم في الاحمرار والالتهاب، جراء تعرُّض المئات منهم للإشعاع.
وعامل المسافة في هذه الواقعة، الذي يجعل النشاط الإشعاعي يمتد إلى مسافات كبيرة خارج حدود موقع التفجير، أو المحطة النووية التي يُفترض إحكام عوامل الأمان فيها، من بين العوامل التي تجعل الحوادث النووية مروّعةً. كل شيء يبدو لنا تحت السيطرة حتى يفلت زمامه، ويخرج عن السيطرة؛ وهذا ما تجسَّد في حادثتي إنتاج البلوتونيوم اللتين وقعتا عام 1957.
فقد انفجر صهريج مخصص لحفظ المخلفات النووية داخل منشأة «كايشتم» Kyshtym لتكرير البلوتونيوم، التي كانت تقع في منطقة بالجزء السوفيتي من جبال الأورال، وأسفر الانفجار عن إطلاق سحابة إشعاعية انتشرت على مدًى واسع. ولم تمض عدة أيام إلا وشهدت منشأة «ويندسكيل» Windscale النووية، بالمملكة المتحدة، اشتعال آلاف الأطنان من الجرافيت، وإطلاقها مواد مشعة. وفي الحالتين، تسبب التأخر في تنفيذ عمليات الصيانة، التي تتطلب أعمالًا هندسية معقدة، إلى جانب التوتر الذي أصاب العاملين بالمنشأتين، في تتابع الإخفاقات وتسارع وتيرتها. كذلك، فقد عمدت الحكومتان إلى التكتُّم على حجم الكارثة في الحالتين
للذرة وجه سلميّ.. لم يَسلم من الكوارث
كل الكوارث آنفة الذكر وقعت داخل مشروعات عسكرية، تستخدم الذرّة لأغراض حربية. ولكن العالم شهد وقوع أخطاء مشابهة في مشروعات تستخدم الذرة لأغراض سلمية، وهي المشروعات التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي، واتجهت نحو توظيف الذرة لإنتاج الطاقة. يؤكد بلوخي أن "التمعن في دراسة أسباب هذه الحوادث، وطرق تعامل الحكومات والمؤسسات المشرفة على هذه الصناعة معها، هو الطريقة المثلى لفهم المخاطر التي ينطوي عليها اعتمادنا على الطاقة النووية".
في عام 1979، تَسبب عُطل بسيط في أحد الصمامات داخل محطة «ثري مايل آيلاند» Three Mile Island، في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، في تسرُّب سائل تبريد المفاعلات، ومع ارتفاع الحرارة أخذ أحد المفاعلات ينصهر. وسرعان ما بدأت مشغلات المحطة في تسريب كميات من الغازات النشطة إلى الهواء الخارجي. وصحيحٌ أن معدلات الإشعاع جاءت أقل من تلك التي شهدتها كارثة «كايشتم» بشكل ملحوظ، إلا أنها كانت كافية لإثارة فزعٍ كبير بين السكان. (هنا، يشي عرض بلوخي، كدأبه في الكتاب ككل، بشجاعة بالغة في محاولته عرض المخاطر الصحية والبيئية لهذه الكارثة، في الوقت الذي يحاول تقديم عرض دقيق لإحصاءات التعرض للنشاط الإشعاعي التي تستخدم وحدات قياس، مثل «rems» المستخدمة في قياس التعرض للإشعاع بصفة عامة، و«roentgens» المستخدمة في قياس التعرض للأشعة السينية وأشعة جاما، و«sieverts» المستخدمة في قياس جرعة الإشعاع المكافئة). وقد أقدم جيمي كارتر، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وقتذاك، والذي كان يعمل فيما سبق ضابطًا في البحرية الأمريكية، وله باعٌ في التعامل مع مفاعل متهالك في قرية تشوك ريفر الكندية، على الاضطلاع بمسؤولية الإشارات والرسائل في محطة «ثري مايل آيلاند»، ولكنه مع ذلك لم يُلق اللوم كاملًا على وكالة المراقبة النووية الأمريكية.
يمتاز بلوخي بمهارته في تحليل العوامل البشرية والمؤسسية التي تساهم في صُنع الكوارث النووية. فقد حدث الانفجار الكارثي في المفاعل رقم أربعة في محطة «تشرنوبل» نتيجة إجراء أحد الاختبارات بعد موعده المحدد بمدة طويلة، على أيدي عمال منهكين عند منتصف الليل. ومع ذلك، فإن تلك الحادثة، على فداحتها، لم توقف الدول الساعية إلى جعل الطاقة النووية جزءًا من برنامجها الاستراتيجي لإنتاج الطاقة، مثل اليابان.
ومن تشرنوبل إلى اليابان، حيث كانت مفاعلات محطة «فوكوشيما دايتشي» Fukushima Daiichi النووية تعمل بكفاءة في ظهيرة يوم الحادي عشر من مارس عام 2011، عندما وقعت هزة أرضية عنيفة بقوة تسع درجات، زلزلت ساحل اليابان الشرقي. وعلى الفور، بدأت مولدات الطوارئ في المحطة في العمل، لكي تحافظ على تدفق السائل المبرد للمفاعلات، ولكن موجات تسونامي التي عصفت بالمنطقة بعد ذلك مباشرة أغرقت تلك المولدات. كان مصممو المحطة النووية قد وضعوا الزلازل في حسبانهم عند تصميمها، ولكنهم لم يأخذوا موجات تسونامي العاتية بعين الاعتبار. أسفرت الحادثة عن انصهار ثلاثة مفاعلات.
تُعَد الطاقة النووية أحد أعقد الأنظمة التي تسعى البشرية لتسخيرها لخدمتها. ذلك أن المشروع، الذي يبدو في بادئ الأمر كأنه مجرد مشروع علمي وهندسي واضح المعالم، لا يلبث أن يتحول إلى ساحة متشابكة من المصالح التجارية والحكومية المتداخلة؛ ما يفتح الباب على مصراعيه أمام اتخاذ قرارات خاطئة. وهنا، تقدم لنا هذه الكوارث النووية الست مجتمعة قصةً تدقُّ ناقوس الخطر في وجه من يحاول أن يلعب بالنار النووية.
كما تثير هذه الوقائع بعض التساؤلات حول الدور الذي ينبغي أن تلعبه الطاقة النووية في خفض الانبعاثات الكربونية. هناك ما يقرُب من 10% من الاستهلاك العالمي للكهرباء، تُنتجها حوالي 440 محطة نووية موزَّعة حول العالم. وقد درَجَ كبار المسؤولين في قطاع الطاقة النووية، والمؤيدون لاستخدامها، على التنويه بالتاريخ الحافل لمعظم المحطات النووية، التي أثبتت جدارتها للثقة التي حازتها، والتأكيد على أهمية توليد الطاقة داخل كل دولة، بدلًا من استيراد أنواع الوقود الأحفوري من دول مثل روسيا.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن بلوخي يُبرز في كتابه الارتباط بين مسار قطاع الطاقة النووية، وتاريخ الكوارث النووية التي ألمَّت بالعالم. من ذلك، مثلًا، إشارته إلى أن العام 1979، وهو العام الذي حدثت فيه كارثة محطة «ثري مايل آيلاند»، شهد صعودًا غير مسبوق في أعداد المفاعلات التي كانت إذ ذاك قيد الإنشاء. أما العام 1985، الذي سبق وقوع كارثة «تشرنوبل» بعام واحد، فقد شهد قفزة غير مسبوقة في عدد المفاعلات التي بدأ العمل على إنشائها. على أنَّ بلوخي يستدرك موضحًا أن مجال الطاقة النووية يشهد بعض التراجع منذ وقوع كارثة «فوكوشيما».
اضف تعليق