يستغرب كثيرون من مواقف الجماهير العراقية في احتفالاتها بالفوز على أحد المنتخبات في كرة القدم، فهي احتفالات لا تقتصر على المسيرات او ابواق السيارات، بل تمتد لتشمل اطلاق العيارات النارية بكثافة، كثيرا ما تخلف ضحايا من الناس الأبرياء.
لا اريد في هذه السطور اصدار حكم قيمي او أخلاقي عن طبيعة هذه الاحتفالات، أحاول تقديم مقاربة تحليلية لها، من خلال بعض المواقف في رياضات أخرى لشعوب ومجتمعات لها مواقف معينة تجاه رياضات تجمعها بأعداء تاريخيين، مجاورين او مستعمرين في فترات سابقة.
والتعبير عن هذا الفرح وطرقه واساليبه، اختلف كثيرا خلال ثلاثة عقود او اكثر، تبعا لقوة النظام السياسي الذي حكم العراق طيلة هذه العقود (لا اقصد بالقوة هنا مجالها الطبيعي، حكم القانون او المؤسسات).. كان الفوز على فرق مثل الكويت او السعودية او قطر في بطولات الخليج العربي له مذاق خاص لدى الجماهير العراقية، وكذلك الحال على المنتخبات الإيرانية في البطولات الاسيوية.. وكثير من هذه الانتصارات لازالت ندية في الذاكرة.
بالمقابل نادرا ما تسترجع الذاكرة الجماهيرية الرياضية الفوز على منتخبات أسيوية أخرى، او حتى اوربية على ندرتها، ويعود ذلك برأي الكاتب الى الكثير من الشحن الأيديولوجي، سواء في عهد صدام حسين او بعد العام 2003، واقصد بالشحن الايديولوجي هنا، السياسي والديني، بصبغة قومية او طائفية.
لا تقتصر مثل هذه المواقف من قبل الجمهور على العراق، بل هي أيضا تشمل الكثير من الدول، فمباريات ايران مع أمريكا مثلا، تأخذ اهتماما يتعدى التغطية الرياضية للحدث، ليمتد الى السياسة أيضا، ويدخل مثل هذا اللقاء في مجالات التحليل السياسي للكثير من وسائل الاعلام، وأيضا لقاءات فرنسا وبريطانيا الكروية التي تعيد الى الذاكرة احداثا ووقائع سياسية بين البلدين.. ولا ننسى أيضا ذكر العديد من اللقاءات الكروية بين دول أمريكا اللاتينية وابعادها في الصراعات السياسية، وكذلك دول افريقيا الشمالية في لقاءاتها مع المنتخبات الإيطالية او الفرنسية.
كنت اظن ان مثل هذا الخلفيات تنطبق على الدول التي ذكرتها سابقا، الا ان مشاهدة الفلم الصيني (ip man ) بأجزائه الثلاثة يكشف ان حتى تلك الدول الاسيوية والتي تتمتع بثقافات مغايرة عن ثقافات بقية الدول العربية والأوربية والأمريكية، لها نفس الحظوظ من استرجاع التاريخ والوقائع السياسية في ما بينها في لقاءاتها الرياضية.
الفيلم الصيني، وهو الذي صدرت اجزاؤه في الأعوام 2008، و2010، و2015، على التوالي
يروي الفيلم تاريخ حياة مدرب فنون القتال آيب مان الذي كان يدرب أسلوب (وينغ شون)، والذي من بين تلاميذ هذا الرجل النجم الأكثر شهرة بروس لي.
يغطي الجزء الأول من الفيلم، حياة هذا المدرب في بلدته الصينية، الا ان الثيمة الأساسية لهذا الجزء والرسالة التي أراد ايصالها الى المشاهد، هي سنوات الاحتلال الياباني للصين بين الأعوام (1939 – 1945) وما عاناه المواطن الصيني تحت ظل هذا الاحتلال، وطرق المقاومة، وتصنيفات الخيانة، والاذلال والكرامة، الى غير ذلك من مضامين تثير التعاطف مع هذا المدرب لما يتمتع به من شخصية هادئة وصبورة وحكيمة، تعكس واقع المرجعيات الفكرية التي يؤمن بها، وكذلك واقع الأفكار التي يطرحها أسلوبه القتالي.. البعيد عن التفاخر والاستهانة بالخصم او العدو.
ينتهي الجزء الأول من الفيلم بتغلب هذا المقاتل على الجنرال الياباني آمر قوة الاحتلال في بلدته، والذي كان أيضا يهوى الفنون القتالية ويمارسها، لتشكل لحظة انتصار المقاتل الصيني ومحاولة اغتياله، نقطة فاصلة في اشعال الثورة ضد اليابانيين في تلك البلدة.
الجزء الثاني، والذي رافق حياة المقاتل الصيني في هجرته الى هونغ كونغ، وهي المدينة الصينية التي كانت تستأجرها بريطانيا لمدة 99 عاما، يتابع هذا الجزء التعالي الاستعماري وعقدة التفوق للبريطانيين تجاه الشعوب الأخرى وثقافاتها، من خلال ملاكم بريطاني يسخر من الفنون القتالية الصينية، ومن بعض الطقوس التي يقوم بها المقاتلون الصينيون في رياضاتهم القتالية، لينتهي هذا الجزء أيضا بتغلب المقاتل الصيني على الملاكم البريطاني، مع الدعوة الى احترام الاختلافات بين الناس، فلا فرق بين احد واخر.. الجزء الثالث يتابع صعود شخصية هذا المقاتل والذي اصبح رمزا صينيا وطنيا، وهذه المرة يصبح الخصم ملاكما أمريكيا يريد الاستحواذ على كل شيء، واحتلال المساحات التي توفر له المزيد من الأموال دون النظر الى مصالح الاخرين، وهو ما يعكس النظرة الأمريكية للاحتكار والاستحواذ على مجمل النشاط الاقتصادي والتجاري، الا ان الفلم في هذا الجزء يقدم نهاية أخرى لهذا الصراع على العكس من الجزئين السابقين، فالمواجهة التي تجمع بين المقاتل الصيني والملاكم الأمريكي لا تنتهي بتغلب احدهما على الاخر، بل تنتهي بالتعادل بعد قتال من ثلاث دقائق، وكأن ما يريد الفلم توصيله من رسالة هو ان الصين وامريكا يمكن لهما ان يشتركا في المنافع والامتيازات اذا احترم كل منهما قوة الاخر، فلا يمكن ان يكون بينهما غالب او مغلوب، لتساوي قوتيهما رغم اختلاف الأساليب والوسائل التي تعبر عنها هذا القوة.
الفلم باجزائه الثلاثة، أراد أيضا إيصال رسالة الى المشاهد، هي ان الرياضة يمكن لها ان تحقق الثأر من العدو، وتعيد بعض التوازن الى الروح او الهوية الوطنية المجروحة، على ان تحافظ تلك الرياضة على اخلاقياتها، وان لا يكون الثأر هو المحرك الرئيسي لمحاولة التغلب على العدو.
اضف تعليق