تعاني ثقافة الحياة اليوم من خطر يهدد عناصرها الرئيسة، ما يعني أن الإنسان بات في عزلة تحول دون إحساسه بالمعنى والجمال وهما من أبرز عناصرها، خصوصاً بالمفهوم المعاصر والحديث للثقافة والذي يجعل الثقافة ترتبط من مفهوم الكياسة، فتكون مرادفة لمفهوم الحضارة. ولابد من ملاحقة مسببات انحدار الفعل الثقافي بحيث تكون من أولويات الوظيفة الإنسانية في زمننا الراهن، ومن دون أي تفريق تنظيري يشطر الثقافة لنخبوية نوعية، وشعبية اجتماعية، فالنوعان يرتبطان -أولاً وأخيراً -بالإنسان، ولكل دلالاته وخصائصه التي تشكل عنصري المعنى والجمال معاً بصورة أو بأخرى.
واقعنا اليوم يشي بأننا إزاء ثقافة متدنّية رائدها فقدان المعايير وسوء الذوق وانعدام الإحساس بالحياة، وكأن الإنسان يعيش هذا الفقدان المعياري وظيفياً وميكانيكياً بشكل ممل، ويغيب في داخله هاجس احترامه لذاته ولقيمته الوجودية الكبرى، فيصير السوء شائعاً وطبيعياً، والصحيح الجمالي بدعة واغتراباً، وهنا تكمن أشد حالات النكوص الحضاري؛ لأن الذي يهدد الثقافة اليوم هو ذلك التعاطي الغريب مع الزمن بآليات المعايير المفقودة التي تنتج لنا السيء من الآداب والفنون والنظريات الفلسفية.
والأخطر من ذلك هو أن يتحول فقدان المعايير إلى صناعة ممنهجة تصدر بضاعتها..فتنتشر في الأوساط المجتمعية انتشار النار في الهشيم حسب منطق (الموضة)، خصوصاً مع توفر السلطة الداعمة لهذه الصناعة بدراية أو بدونها لتكون تحصيلاً حاصلاً يرسخ القبول بـ (نظرية المؤامرة) التي كثيرا ما نسمع بعدم الاعتراف بوجودها وهي - أمام هذه المعطيات - تبدو واقعية بنسبة كبيرة ومخيفة.
ومن الطبيعي أن يحظى انعدام المعايير؛ بدعم سلطوي؛ لأنه سيعزز من فرص البقاء على رأس الهرم السلطوي والتمتع بالامتيازات التي توفرها السلطة عبر تنميط المجتمع وتدجينه، فتختفي محفزات الرغبة بالحياة عند البسطاء المغلوبين على أمرهم.
تعزيز المناخ العنفي
وعادة ما تنتعش حالة انعدام المعايير في المناخات المضطربة سياسياً واجتماعياً، وتتداخل في هذه المناخات عدة صور من عشوائية التقييم وضبابيته، وبالتالي يمكن أن يساهم المعيار المفقود في زيادة مساحة العنف على الخريطة البشرية، ويعيد انتاج نفسه مستغلاً سحب الفوضى وخرق المنطق وممارسات فوضوية غير سوية..تشترك فيها منظمات وأحزاب ومؤسسات تندمج في هذه الإشكالية بأنساق مختلفة، وكأن المعيار النفقود مرض مُعْدٍ يصيب كل من تقرب للمصاب به ، وهكذا حتى اعتلال المفاصل الإنسانية.
والعنف الذي يفرزه المعيار المفقود؛ ليس بالضرورة عنفاً بمعناه الحالي والمتعارف عليه من خلال الجماعات المتشددة، وإن كان لنشوء هذه الجماعات ارتباط بفقدان المعيار لكنه ارتباط أوسع. غير اننا نجنح للارتباط الآخر لنشوء العنف من المعيار الغائب ومن أصدق تمظهراته معيارية تقديم المرأة بغير صورتها الفطرية الإنسانية بصور أتاحتها المُسَلَّمات المربكة لمسميات الحداثة والعصرنة والعولمة وغيرها حتى صارت المرأة مجرد بضاعة للاستهلاك طبعت على أكياسها شعارات وعناوين براقة خدعت الأجيال الحالية ايما خدعة؛ بسبب التسارع الهائل في عالم الاتصالات، والبرامج الفضائية التي تقدم المرأة بصورة الابتذال المزخرف بالألوان عبر برامج هابطة المعنى متلاشية الأهداف فيكون عنصر المعنى الرئيس من عناصر الثقافة غائباً، بينما يتوارى العنصر الثاني (الجمال) خلف ديكورات هذه البرامج، فيختلط القبح بالدهشة اللحظوية التي لا تفضي إلى شيء.
كل هذه المعطيات المتناسلة من معيار مفقود يغيّب الثقافة؛ أنتج عنفاً مفاهيمياً سينتج ثقافة أنثوية مضطربة متعلقة بشكليات لا استمرارية لها ولا قيمة. لذلك تحتاج ثقافتنا اليوم ان تعيد تهذيب المعايير بعد استعادتها طبعاً من الفقدان وهو أس المشكلة الثقافية الإنسانية عموماً.
ومطالبتنا بتهذيب ثقافي لا يعني فرض رؤية ثقافية معينة على أمزجة قد لا يكون لتهذيبنا المنشود حجة عليها، لكن على الأقل نتحدث عن تهذيب على مستوى رقعتنا الجغرافية الإسلامية والعربية، وذلك من خلال إعادة انتاج المفاهيم الإسلامية المضيئة التي تنظر للمرأة من زاويتها الإنسانية التي كُرِّمت بها بالنص القرآني وأحاديث الرسول وأهل بيته "صلوات الله عليهم أجمعين" كما جاء مثلاً في قول الإمام الصادق "عليه السلام" في الجزء الثاني من وسائل الشيعة ص24 : "أكثر الخير في النساء"، هذا الخير المتوزع بين الأم والأخت والزوجة والبنت. والتفحص في المنظور الإسلامي العميق للمرأة، وبجهد فكري حقيقي وجاد؛ سيسهم فيما نصبو إليه من تهذيب لمعيار يُستعاد.
حوار التفاعل الحضاري
يعد الحوار الهادئ والمبني على أسس القبول بالأخر من أهم مميزات الثقافة السِلْمية التي تعتمد معايير الموضوعية والنقد البناء، وبالحوار ستنتج حالة من التفاعل الحضاري عبر مقاربات معرفية، والتفاعل هنا يكون من زاويته الإيجابية؛ لأن التفاعل له نوعان إيجابي وسلبي، وبذلك نبدأ بعملية تنوير الأفكار والعقول وصولاً للحداثة المنشودة بوصفها "نسقاً كلياً وصيرورة تاريخية" يعتقد كثيرون أنها اكتملت في الغرب، بينما لاتزال تحبو في عالمنا.
والحوار الخلاق يبدأ من النظام التعليمي الذي يضع أسساً له من خلال تنمية القابليات الذهنية، وتشجيع الاستعداد على الانفتاح على كل ما يسهم برفد المعرفة بالجديد النابض، فضلاً عن دعم الجهود التعليمية بوضع خطط واستراتيجيات من قبل الدولة، تعمل على تحقيقها عبر مؤسساتها الفاعلة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتشرع لها القوانين، كل هذه الأشياء تنتج تقارباً حضارياً تؤدي بنا إلى ثقافة بمعايير تقف على أرضية صلبة للحضور، متصالحة مع حضورها بعيداً عن محنة الفقدان.
اضف تعليق