لا جديد في قولنا أن الثقافة هي المجال الرحب والأوسع لتفاعل المكونات الحضارية، واستيعاب تنوعاتها، وأن أي خلل يصيبها أو يتسبب بتصدع لها، سيساهم في تغذية مشاعر الاحباط المرحلي لدى العالم الانساني، والخوف على مستقبله ووجوده؛ لأنها -الثقافة-المضمار الرئيس لسباق التحولات المعرفية، وهي التي تشكل ذاكرة المجتمعات وعاداتها وتقاليدها، وتعمل على إعادة انتاجها بما يتناسب ومظاهر التجدد.
والثقافة اليوم، وفي ظل التطورات التي تحصل في العالم، صارت صناعة لابد من الاهتمام والاجتهاد في تقديمها بجودة تساعد على انتشارها وفق أهميتها ومعطيات هذه الأهمية، حيث تشير بحوث إلى أن بعض الدول أصبحت تولي قضية الصناعة الثقافية اهتماماً يوازي اهتمامها بالاقتصاد والعلاقات الخارجية؛ وذلك لإيمان هذه الدول بتداخل الفعل الثقافي مع جميع هذه المفاصل، بل أنه ساهم من خلال تصدير الخصوصية في زيادة المدخولات كما في اوروبا مثلاً إذ يستفاد من الموسيقى بأنواعها كالجاز والبوب والروك، أو كما في الهند حين يتم استثمار السينما، وبحسب بعض الدراسات، صارت صناعة الفيلم (بولي وودBolly Wood) هي الأكبر في العالم من ناحية الانتاج. كما وتتم الاستفادة من استهلاك المجتمعات التي تعاني من رقابة السلطة على عطائها الثقافي، للمنتجات الثقافية القادمة كنوع من التعويض، او ردة فعل تجاه الرقابة السلطوية.
وفي قضية صناعة الثقافة، وعدّها قيمة مجتمعية وحضارية؛ يوجد رأيان متباينان، فبعض يرى أن هذه الصناعة يمكن لها التصدي لأمواج العولمة العاتية باعتبارها "فضاء جديد يحمل عناصر متناقضة"، بينما يذهب بعض آخر باتجاه عدم اعتبار الثقافة سلاحاً لمواجهة الواقع المُعَوْلم، ومثل هذا الرأي يدعو إلى التأكيد على ان العولمة حالة واقعية وموجودة ينبغي التعاطي معها، وصياغة مواقف جديدة منها، وعدم التوقف عند جزئية الرفض أو القبول، بل محاولة فهم المأزق المجتمعي والعمل بوعي على تجاوزه.
وفعل المجاوزة هنا لايعني تجاوز كامل الخصوصية الثقافية، انما تجاوز منطق التفرد بهذه الخصوصية بوصفها ثابتاً غير قابل للتغيرات، ولايتماهى مع التحولات، بحيث نكون في منطقة وسطى دافئة تسمح بالتعاطي مع المعاصر والجديد من القيم الثقافية التي اثبتت وجودها من خلال التقبل المجتمعي لها، وفي ذات الوقت لاينطبق عليها تعريف (بلقريز) للعولمة الثقافية بأنها: "اغتصاب ثقافي، وعدوان رمزي على سائر الثقافات، إنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف المسلح بالثقافة، فيهدد سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها عملية العولمة".
وهذا التعاطي سيقودنا إلى إمكانية التفكير بما يصطلح عليه (علي حرب) في كتابه المهم (تواطؤ الأضداد) حيث يطلق مصطلح (العقل التداولي) والذي جاء نتيجة انهماك وبحث في معطيات الثورة المعلوماتية فيقول :" إنَّ الحوار المنتج هو الذي يتوجه فيه كل طرف نحو الآخر، ينفتح عليه، وينصت إليه، لالكي يرد على الحجة بالحجة، أو لكي ينفي التهمة عن نفسه، بل لكي يأخذ بعين الاعتبار مخاوف الآخر وهواجسه، أو لكي يحسن التبادل معه، أو لكي يعرف كيف يستفيد منه على النحو الذي يؤدي إلى بناء الثقة المتبادلة، وذلك بخلق لغة مشتركة أو قواعد جامعة. ولذا فإن الحوار المجدي لاتطرح فيه الأفكار بصورة مطلقة أو نهائية، وإنما يطرح فيه ماهو قابل للصرف والتداول والتحول بقدر مايدار بلغة التواصل والتوسط".
التكامل في الصناعة الثقافية
أكثر عقبة تواجه مشروع الصناعة الثقافية، هي عملية الفصل غير الضروري بين الفعلين الثقافي والاعلامي. هذا الفصل صار تقليداً على مستوى البلدان التي تتبناه عبر إنشاء وزارتين مستقلتين رغم حالة التداخل الوظيفي بين العنوانين، فالأول الثقافي يمثل تعبيراً عن قضايا الإنسان بصور مختلفة، أما الثاني الاعلامي فهو واسطة انتشار هذا التعبير والحديث عنه وتعزيزه وتقييمه.
وطبعاً لاتتوقف الوظيفة الاعلامية على عملية نشر الفعل الثقافي، بل في تكاملها معه وصولاً لمرحلة التكامل الاجتماعي، والتي تبدأ من الفرد ثم الأسرة والمؤسسات التعليمية وهكذا حتى آخر السلالم المؤدية إلى المجتمع.
كما وينبغي السيطرة على عملية إخضاع الاعلام بصورة فوضوية لمؤسسات وشركات تمثل إيديولوجيات متصارعة؛ لأن ذلك سينعكس سلباً على الواقع المجتمعي، وقد يؤدي إلى انقسامه بصور لاتنتمي لقيم التسامح والتعايش، وتعزيز حالة العنف المُصَدَّر عبر نافذة ينبغي أن تكون سلمية معتدلة.
وهذا لايعني - بالضرورة - المطالبة بمركزية رسمية صارمة على الاعلام، انما وضع بعض الضوابط التي تجعل الاعلام ركناً أساسياً في قضية التكامل، والتي تمثل جوهر الصناعة الثقافية الإنسانية، وتشكيلها على أسس علمية ورصينة تدمج الداخلي بالخارجي بضوابط مقبولة.
إنَّ المنطقة الدافئة أو الوسطى التي نريد أن نكون عليها في عملية صناعتنا للثقافة لابد أن تضمن التفاعل مع نظريات الاقتصاد والسياسة والحقوق والتربية والاجتماع، مع التركيز على قضية الوضع الراهن ومتطلباته من الثقافة، ومقارنته بما بتوفر لها من مقدار فعلي، ثم نشرع بوضع الخطط الخاصة بالصناعة الثقافية الشاملة، والتي تبتعد عن منطق انفراد مصدر عن غيره بساحة الوعي الإنساني؛ لأن من أسباب تأخر الأمم عن ركب التطور والحضارة هو العشوائية وعدم التخطيط وفقدان الشعور بأهمية الثقافة وتعزيز الذهنية وتطويرها، وبذلك نكوّن رؤية تساعد على التقدم، وتمنح مقدمات التحضر والرقي وفق معايير الكفاءة والتخصص والمهنية، فنضمن الحركية المستمرة في استفزاز العقول وإيقاظ مداركها.
اضف تعليق