جاءت فكرتا "الاندماج" و"الترابط المجتمعي" كمسميات بديلة لمفهوم التعددية الثقافية الخاص بالأقليات واللاجئين لأوروبا، وذلك بعد ردود الفعل الكبيرة والمضادة لهذا المفهوم مع الحديث عن فشل هذه الأقليات في الاندماج داخل بنية المجتمع الأوروبي. ويرى (علي راتانسي) أن الاندماج يقود إلى سؤال مفاده : "الاندماج في ماذا بالضبط؟" وهل يعني أنه يتم عبر "المستويات المكانية (على سبيل المثال: الأنماط السكانية) والمستويات الهيكلية (على سبيل المثال: في مجال التعليم وسوق العمل) والمستويات الثقافية (على سبيل المثال: التمسك بالقيم المشتركة)".
وحتى هذه المستويات الثلاثة، ليست كافية لتأكيد فكرة الاندماج، فقد لاتوجد مشتركات علائقية بينها، إذ ليس بالضرورة أن تكون الأنماط المكانية قابلة للاندماج الكلي، فيمكن للسكان أن يعيشوا في مكان واحد بينما يحتفظ كلٌّ بقيمه وخصوصيته وكذا بالنسبة للمستويين الباقيين؛ وكان هذا المعطى سبباً - بحسب راتانسي - في تسارع وتيرة الخطاب المتبني لفكرة "الترابط المجتمعي".
ويحيل مفهوم الترابط المجتمعي إلى إشكالية تعريف المجتمع، والتي ظلت مبهمة مضببة من دون إيضاح أو توصيف محدد له خصائص يمكن الاستدلال بها عليه.
وهنا قد تأخذنا الإفرازات الرقمية التي تتيحها العولمة إلى استفهامات بخصوص هذا الترابط، وهي : هل يمكن من خلال تلك الإفرازات إطلاق صفة المجتمع على المجموعات المتكونة إلكترونياً؟ وهل يمكن تحقيق الترابط المجتمعي لهذه المجموعات التي صارت تلتقي لساعات طويلة في اليوم الواحد، عبر مواقع بمسميات متعددة ومنتجة لخطابات متنوعة؟
والجواب هو أن ماانطبق على المستويات التي لم تحقق فكرة الاندماج، فهذه المجموعات المتحدة الكترونياً لن تحقق ترابطاً، ليس لأنها مختلفة الخطاب؛ بل لغياب الخصوصية والهوية التي تتلاشى في هذه المجموعات المُعَوْلمة رقمياً.
وأمام هذه المعطيات، يمكن لنا الحديث بصوت عال عن خيار التعددية الثقافية الذي تم التصدي له ومواجهته بردود أفعال شديدة؛ لبطلان أدلة تحقيق الاندماج والترابط، ومن خلالها بطلان الادعاءات القائلة بأن التعددية تفتت الهويات الوطنية،بل العكس هو الصحيح، فقد تكون عامل قوة ودافعاً باتجاه تعزيز قيم التسامح وقبول الآخر وفق المنطلقات الحضارية، مع التأكيد على عدم فرص الخيارات الفردية التي تتعالى على المبادئ الأخلاقية والأساسية لحقوق الإنسان، وإلا فإنها لن تختلف عن اشكاليتي الاندماج والترابط، وتكون متزينة بـ "قشرة رقيقة من النزعة المجتمعية" على حد تعبير (ستيورات هول) حين أكد على عدم جواز فرض المعايير الاجتماعية على الأفراد دون توسيع نطاق الحق الإنساني في قبولها أو رفضها في حال عدم انسجامها مع توجهاته وتطلعاته لطريقة للعيش يفضلها. وجاء في قاموس (هاربر كولينز) لعلم الاجتماع عام 1919 في توضيح او توصيف معنى التعددية الثقافية الخاص باللاجئين والأقليات المهاجرة لبلدان أخرى: "إن التعددية الثقافية تحتفي بالتنوع الثقافي، وتسعى إلى تعزيزه، على سبيل المثال: تشجيع لغات الأقليات، وهي تركز في الوقت ذاته على العلاقة غير المتكافئة بين الأقلية والثقافة السائدة.
إنَّ أكثر عقبة تواجه التعددية الثقافية هي الرؤية المتباينة حول الموقف من الدين، والإسلام بشكل خاص، إذ تلعب الأحداث الساخنة على الساحة السياسية الدولية دوراً في إذكاء النعرات المتطرفة عبر العناوين الدينية، وهذا ماتجلى فعلياً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، حيث تم وبشكل ممنهج تعميم فكرة "الإسلام الإرهابي" وهو ماأدى إلى معاناة كثير من الجاليات المسلمة في البلدان الغربية، حتى مع استنكارها للأعمال الإرهابية التي تستهدف الأبرياء باسم الدين ومعطياته وقيمه.
وقد شهدت بعض بلدان اوروبا صدور قرارات تتعارض مع الاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان، كتطبيق عملي لمنهجية تصدير فكرة "الإرهاب الإسلامي"، كما حدث في سويسرا مثلاً حين تم اجراء استفتاء لحظر بناء المآذن الإسلامية في البلاد. مايعني أن مبادئ الحرية واحترام المعتقدات ماهي إلا قناع يخفي خلفه نسقاً شديد الكراهية والعداء للمعتقدات الدينية، وشيئاً فشيئاً، ومع تسارع وتيرة الأحداث بدأ يظهر الوجه الحقيقي الغربي، ليحل صراع الأديان والمذاهب الفرعية، محل صراع الحضارات، ليكون الورقة الرابحة في تنفيذ السياسات العالمية حتى وإن صارت البشرية وقوداً جاهزاً لها.
ولكن، كيف ستنظر العولمة إلى الإسلام، في ظل صعود تيارات مايعرف بالإسلام السياسي إلى الحكم بعد ثورات "الربيع العربي"؟
وهل سيرتدي الغرب قناعاً جديداً يخفي محبةً حذرة انطلاقاً من واقعية الصعود الإسلامي من جهة، وتشتت السفن الليبرالية وتمزق أشرعتها بفعل الأمواج المتناقضة من جهة أخرى؟
لقد أثبتت الأحداث التي أنتجت تيارات التكفير والتطرف والعنف، التداخل الغريب والالتحام المضطرب للعلاقات بين المتناقضات على المستوى الفكري والإيديولوجي؛ لذلك صار من الشائع والمألوف غي هذه المرحلة الملتهبة بالصراع، أن نشاهد ليبراليين وعلمانيين يجنحون لأقصى درجات التشدد، مبررين السلوكيات العنفية، والأعمال الإجرامية التي طالت الأبرياء من قبل الجماعات الإرهابية، ونجد في بعض مفاصل المعارضة السورية، وبعض أقطاب السياسة في العراق، أنموذجاً لهذا التداخل الهجين والمريب في ذات الوقت، مع تقارير عن تورط عن تورط أجهزة مخابراتية دولية في التعاون مع التنظيمات المتطرفة ودعمها، وهي التي تعد من الدول الداعمة لفصل الدين، وهنا تحقق فعلاً اندماج متقاطع انطبق عليه قول تودوروف : " لانملك هوية ثقافية واحدة، بل هويات متعددة، قادرة على الاندماج، أو الظهور في مجموعات متقاطعة"!.
اضف تعليق