مازالت المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تمتد على رقعة الوجود البشري، حتى صارت على رأس قائمة العولمة المهيمنة على العالم، والموجهة لبوصلته أنى شاءت، وفي أي اتجاه.
وبالتالي " لسنا استثناءً صارخاً.. العالم من حولنا مبقَّع بمناطق فوضى واضطراب. بقع رمادية وسود تشير إلى مشكلات بعضها غدا بفعل التقادم في حكم المستعصية؛ الفقر، التصحر، كوارث الطبيعة، تمرد الجماعات، تكوّن المافيات، ضعف سلطة الدولة، اتساع مساحة الاقتصاد غير المشروع، الفساد، الارهاب، الحروب، الخ..، وهذا لايسوغ الحال، بل يمنحنا فرصة النظر إليها من زاوية تضعها في سياقها الإقليمي والكوني الصحيح.. مشكلاتنا ليست محلية كلها، لكن بيئتنا الاجتماعية والسياسية صالحة، في مواضع منها، للأسف، لاستيراد المشكلات من خارج الحدود واستثمارها بشكل ضار "1.
على الصعيد العراقي، تبدو رؤية استيراد المشكلات من المحيط الخارجي واقعية، خصوصاً مع رياح الأحداث التي هبّت بشكل متسارع، بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية، حيث لعبت الورقة الاقتصادية لعبتها في استفزاز النظام البعثي لارتكاب حماقة غزو الكويت، والتي جرّت الويلات على العراق، وأنهكته اقتصادياً عبر فرض الحصار التسعيني الخانق، ثم إسقاط النظام بتدخل عسكري دولي، وإشاعة الفوضى من خلال حل المؤسسات المهمة بشكل ينتمي إلى العشوائية الممنهجة، ثم اللعب بورقة الاقتتال الطائفي والتي - وإن تركت آثاراً سلبية ورماداً على مفهوم التعايش السلمي - تم إجهاضها بفعل الحكمة الهائلة لمراجع الدين الشيعة المؤثرين في صناعة الوعي، وقفت بوجه تكالب إرهابي مذهبي، يستهدف التجربة الجديدة على علّاتها.
وإذا كانت معطيات غزو الكويت في 1990، وإسقاط النظام في العراق عام 2003 معطيات سياسية بظلال اقتصادية؛ فإنَّ عملية صناعة الارهاب وسط ركام الفوضى الذي خلّفه الغزو الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، تؤكد المضي في نظرية (الفوضى الخلاقة) وإن كنا نجد أن هذا المفهوم تطور إلى ما يمكن أن نصطلح عليه بـ (تجاور الفوضى)، وبالتالي فرض الهيمنة الاستعمارية.
ويمكن تقسيم نظرية تجاور الفوضى وفق الرؤية أعلاه إلى قسمين:
1 القسم الأول : هو ما يرتبط بالعقائد، ومن خلاله يتم استيراد الأفراد الذين ينفذون أعمالاً ارهابية بدافع عقائدي، بعد أن يتم تدريبهم وإخضاعهم لعملية (format) في الوعي، تمارسها مؤسسات ترتبط بأجندات مذهبية سلفية، وغالبية هؤلاء يتم استقدامهم من الدول العربية والإسلامية التي يغلب عليها الطابع المذهبي المتشدد، كالسعودية، والأردن، وفلسطين، والجزائر، والمغرب، وتونس، وتركيا، وباكستان، وأفغانستان، واندنوسيا، وبعض دول أفريقيا، الأمر الذي جعل بعض أنظمة تلك الدول تقع في حرج شديد ؛ لعدم استطاعتها إنكار النفوذ المتطرف داخلياً، أو من خلال الخارج لدواع اقتصادية، فضلاً عن المذهبية بطبيعة الحال.
2 القسم الثاني: يتعلق بالمشكلات النفسية التي يعاني منها الأفراد في مجتمعات تغلب عليها القوانين، ولاعلاقة لها بمنظومة العقائد والأديان، فهي دول علمانية بٱمتياز، ومع ذلك نجد أنَّ كثيراً من شبان وشابات تلك الدول، تأتي للانضمام للجماعات الأصولية المتشددة ؛ لأسباب تتعلق بالفقر والبطالة، وهو مايتنافى مع ادعاءات دولهم في التقدم بمجال حقوق الإنسان على الغير ؛ وأسباب أخرى تتعلق بتفكك المنظومة الأسرية حتى مع تحقق متطلبات العيش الرغيد، حيث يأتي الفتيان والفتيات من السويد وفرنسا لممارسة أعمال خاصة بالتنظيمات الارهابية، وقد تكون بعيدة عن العنف المباشر كاستخدام تقنيات التواصل والاتصال أو الترجمة، فضلاً عن قيام الفتيات بتأدية أدوار (جهاد النكاح)، أو ممكن القيام بأعمال عنفية مباشرة بطريقة دراماتيكية كما حدث مع الشاب التركي الذي نفذ عملية اغتيال السفير الروسي قبل أشهر.
الفوضى بين الدولة والمؤسسات
تعريفات كثيرة من مفكرين وباحثين تطرّقت لمفهوم الدولة، مثلاً: عرّفها الفرنسي بارثلي بأنها مؤسسة سياسية يرتبط بها الأفراد من خلال تنظيمات متطورة، بينما يرى مواطنه كاري دي مالبيرج أنها مجموعة من الأفراد تستقر على إقليم معين، تحت تنظيم خاص يعطي جماعة معينة فيه سلطة عليها، تتمتع بالأمر والإكراه.
ومع تعريف كاري دي مالبيرج، تماهى عدد من الكتاب والمفكرين العرب، منهم: بطرس غالي وكمال العالي ومحسن خليل.
وإذا عرفنا بأن الدولة مجموعة من الأفراد التي تمارس سلطة قانونية على مكان معين، نقول من الطبيعي أن تتسلل الفوضى بشقّيها المتأصل والمتجاور، في حال أساء هؤلاء الأفراد استخدام سلطتهم، والإساءة لو حصلت ؛ فإن النتيجة ستكون خسارة الدولة لامتيازات مهمة، تعد من دعامات قوتها، ممثلة بالمؤسسات والتنظيمات المتطورة بحسب تعريف بارثلي.
من جانب آخر، قد تلعب المؤسسات ذاتها دوراً في إشاعة الفوضى ؛ لدواع تنافسية - وهذا ملحوظ في تجربتنا العراقية الماثلة - تقلص من إمكانات السلطة النظامية بأجندات مذهبية وعشائرية.
وهنا لابد أن يكون للضابط القانوني الدور الفصل في الحد من هذا التداعي على صعيد المؤسسات، حتى وإن سمح القانون العام بحرية تشكيلها، وممارستها للأدوار المجتمعية، لكن المهم، هو انسجامها مع الإطار العام للدولة.
في تجربتنا العراقية، تقنّعت الفوضى المؤسساتية بقناع سياسي / مدني، فنرى بعض السياسيين سواء كانوا حكوميين أو برلمانيين، يؤسسون منظمات وتجمعات تتعنون بعناوين مختلفة، والسؤال هنا : هل أن انشاء هذه التجمعات والمنظمات لتدعيم عمل الدولة ؟ وإذا كان كذلك، مالذي يمنع هؤلاء السياسيين من ممارسة ذات الأدوار، منطلقين من وظيفتهم التنفيذية أو التشريعية؟.
أما إذا كانت رؤيتهم بوجود خلل في العمل التنفيذي والتشريعي، ويجب إصلاحه من خلال المنظمات المدنية، مالذي يدعوهم إلى البقاء والاستمرار في الأماكن التي تم تأشير الخلل فيها؟.
اضف تعليق