عقود طويلة من السنوات، عانى فيها المجتمع العراقي من الأمية المتفشية؛ كنتيجة طبيعية للاستبداد والجهل والتخلف والفقر، فضلاً عن طغيان المنطق القبلي القائم على صراعات عشائرية خاضعة لمفاهيم الثأر.
لذلك لم يكن سهلاً على أي عملية تغيير تحصل في العراق.. أن تتخلص من ظلال القبلية وعقلية الغالب والمغلوب. وحتى مع عملية تشكيل الدولة على أسس جديدة، وهي العملية التي تبدو معقدة، وتشتبك فيها خيوط كثيرة؛ سيكون لهذه الظلال حضور واسع.
في العهد العثماني، كانت محاولات إصلاحية، حيث أوجد مؤسسة تعليمية، أنتجت فيما بعد رجالا لعبوا دوراً مهماً في الحياة السياسية والعسكرية، وكان منهم من ثار على السلطة - بدافع بريطاني -، ومنهم من ساهم في تشييد الدعائم الأولى للدولة العراقية عام 1921.
الملاحظ على هذه الطبقة من السياسيين والعسكريين، أنهم وعلى الرغم من توجهاتهم المائلة لنزعة قومية علمانية، كانوا نتاج مناخ تركي، خصوصاً وأن بعضهم من أصول تركية، فبدت التجربة غير خالصة الخصوصية، وبهوية تشظت بين بُعدين عراقي وتركي.. فٱنعكس ذلك على التجربة العلمانية العراقية، والناشئة في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، لتصبح تجربة مستعارة بامتياز.
ضباب قومي كثيف
ليس جديداً الحديث عن غموض الليبرالية العالمية بشكل عام، ومن الطبيعي أن يلف ضباب الغموض التجربة الليبرالية العراقية، مع اتخاذه الراديكالية لوناً مضافاً، وإن لم يكن في العراق وحده، إلا أننا ملزمون هنا بالحديث عن النسق الراديكالي لتجربة الليبرالية العراقية، وهو النسق الذي ظهر بسبب استلهام الأفكار الوافدة من الغرب، وذلك عبر البوابة التركية، في الوقت الذي ضربت بعرض الحائط بعض التوجهات النهضوية العربية المازجة بين الأصالة والرغبة في التجديد.
وبسبب هذه القطيعة مع المحيطين العربي والإسلامي، والإصرار على الغرب كرهان، نشأت حركات أخرى تقاطعت مع الليبرالية، غير أنها تشابهت معها في الضباب الذي يعيق الوصول لفكرة محددة، كالحركات الماركسية، فصارت الصراعات على إثبات الوجود هي الطاغية بدلاً من أن يكون الصراع على عملية بناء وتنمية مستقبلية. وأيضاً تعززت الحركات القومية المرتدية للقميص الملون بشعارات وحدة الدم والمصير المشترك وغيرها، فتكرست ثقافة توهم متبنوها أنها رهان النهضة، وتفاعلت معها النخب الفكرية والثقافية، لتتسرب هذه المعطيات للكتابات الصحفية والقصائد الشعرية والدراسات النقدية والفكرية، وعلى خشبات المسارح.
الحساسية المجتمعية
لم تلتفت النخب الفكرية المتبنية للفكر الليبرالي، إلى الحساسية الاجتماعية تجاه المسميات الوافدة ومتبنياتها، فقد صار المجتمع في واد، والنخب في واد آخر.
أما المثقف الذي يميل إلى خصوصياته فهو محكومٌ عليه بالرجعية والكلاسيكية، بينما لم يُلتفت إلى قضية المعايير المزدوجة في التعامل.
ولعل التاريخ يحدثنا عن الصراع الهائل بين القوميين والشيوعيين أبان فترة حكم عبد الكريم قاسم، وكيف أن صور المرجع الراحل السيد محسن الحكيم (رحمه الله).. قد انتشرت في المناطق التي يغلب على سكانها الإنتماء القومي، وذلك بعد إصداره لفتواه الشهيرة (الشيوعية كفر وإلحاد) في عام 1959، بعد ممارسات الشيوعيين العراقيين آنذاك، والتي تسببت بموجة سخط مجتمعي كبير.
إنَّ الانتكاس الذي حصل في الليبرالية العراقية، جاء نتيجة التصورات المبنية على افتراضات مخيالية - إذا جاز لنا الوصف -، ولا تعكس واقعية ولو بنسبة قليلة، وهو ذات الانتكاس الذي تعرضت له حركات مماثلة، فالماركسيون في العراق، بُنِيت تصوراتهم على مايتوافق مع النسخة السوفيتية. أما القوميون، فإن تصوراتهم المنحازة لمنطق تعنصر من بوابة اللغة، جعلتهم سابحين في وهم التاريخ برومانسية حالمة هائلة، فصاروا أسرى الغشاوة التي تمنع النظر عن الواقع وتحولاته ومتناقضاته، مصدقين بيت صفي الدين الحلي : " سَلي الرماحَ العوالي عن مواضينا / واستشهدي البيضَ هل خاب الرجا فينا "، فكانت معاني هذه الكلمات الشاعرة بديلاً عن أية رؤية تحليلية، حتى نزلت عليهم الصاعقة الحزيرانية وهو ماجعل الشاعر أحمد مطر يسخر من أحاديتهم وانقيادهم للغرب بصور عديدة بقوله : " سَلوا بيوتَ الغواني عن مخازينا / واستشهدوا الغرب هل خاب الرجا فينا ".
مع كل هذه المعطيات، والانكسارات المتوالية، صار من الطبيعي أن تزداد الحساسية المجتمعية تجاه الموجات الفكرية المفرطة في راديكاليتها..وتمسكها بالرؤى الحزبية التي تولدت من هذه الموجات، مما تسبب بتصدع كبير في الجدار الفكري.
ما هو الحل؟
طرحت موجات الإسلام السياسي شعار (الإسلام هو الحل)، وهو الشعار الذي تبنته جماعة الأخوان المسلمين في ثمانينيات القرن العشرين الماضي ؛ على اعتبار أن الفشل الذي صاحب الحركات الليبرالية والعلمانية، انما جاء لأنها لم تنسجم مع واقع مجتمعاتها، وخصوصاً في ميولها للمعتقدات الدينية.
لكن هل نجح هذا الشعار ؟ وهل مثّل الإسلام - بثيابه الأخوانية - حلاًّ كما في الشعار ؟
وقد تبيّن مع التجارب الكثيرة لمتبني هذا الشعار، البون الشاسع بين الرؤية للإسلام على انه قيم ومقاصد تُناقش وفق الأطر المرتبطة مع النصوص الشرعية، وبين رؤية يتبناها حزب سياسي أو تجمع دعوي يحكم بعنوان إسلامي.
كلامنا هذا لايعني أننا من المنادين بالفصل كما نادى الليبراليون والعلمانيون، بل ندعو إلى نقودات فاحصة تشخص الخلل الحقيقي لتسلل الراديكالية إلى النماذج الإسلامية الحاكمة، كونها تبنت أنموذجاً خاطئاً تم اعتماده مباشرة بعد رحيل نبي الإسلام (ص)، حيث بدأت نظرية " الاجتهاد مقابل النص "، وهي التي مثلت بداية السُلّم المؤدي لمزيد من الانحرافات الفكرية والعقائدية، ومزيد من العتمات التي أطفأت الوهج الحقيقي لرسالة الإسلام، ومنها بدأت أولى بوادر الراديكالية المتشددة، والتي انتعش التطرف بانتمائه إليها.
وإذا علمنا أن أصحاب شعار (الإسلام هو الحل) هم من مريدي مقولة (الاجتهاد مقابل النص)،
يمكن لنا أن نقيس تجربتهم على أساس مايتبنونه من أفكار وتصورات، غير أن المشكلة الرئيسة تكمن في غياب شجاعة الاعتراف بأن الفشل يمتد لهذه المقولة، إذ يجتهد الباحثون والمحللون في إيجاد المبررات التي تبعد السائل عن هذه الحقيقة ؛ حتى لاتتولد عنده قناعة أن الإسلام - بهذه الصيغة - هو المشكلة، بل المشكلة الكبرى وليس الحل، وهو ماجعلنا أمام نمط من النقاد والمفكرين الإسلاميين الراديكاليين.
نعم، الإسلام هو الحل، لكن بالعودة إلى منابعه الأصلية المتمثلة بالقرآن والعترة المتفردة بتقديمه للعالم البشري بصورته الناصعة.
اضف تعليق