تنفتح مفردة السلم -بكسر السين- على عدة معان؛ وذلك بسبب طابع الإتساع الذي تتفرد به اللغة العربية، فتارة تأتي بمعنى السلامة أي البراءة، وأخرى بمعنى المسالم (أنا سلمٌ لمن سالمكم)، كما يأتي بمعنى الإسلام، أي التسليم لله تعالى. ومن السلم يأتي السلام، "ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة".
وقال ابن منظور في لسان العرب: "السلام اسم الله تعالى؛ لسلامته من العيب والنقص والفناء".
والسلم أو السلام لفظ شائع في المنظمات الدولية، تحث عليه كل القوانين والدساتير وتؤكد على أهميته؛ كونه يمثل - إصطلاحاً - انه ضد مظاهر العنف والحروب، وماتخلفه هذه المظاهر على البشرية من دمار وويلات قد تمتد آثارها لسنين أو ربما قرون. والسلام اليوم ركيزة أساسية لازدهار الدول، وترسيخ قيم التعايش وقبول الآخر غير ملتفت للدين والعرق.
وطبقاً لهذه المعطيات، وتركيز القوانين الوضعية على السلم، كان من الطبيعي جداً أن يكون لدلالات هذه المفردة وقيمتها اهتمام مسبق من القوانين والشرائع السماوية التي شرعها الله تعالى، بالأنبياء الذين أرسلهم بالرسالات التي خُتمت برسالة الإسلام العظيم، والتي حثت على السلم وأكدت على أن يكون مع الفرد والجماعة.
وقد صار السلم محوراً ثابتاً تدور عليه أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك من خلال الإندماج مع مفهوم العدالة، فتحقيق العدالة شرط رئيس من شرائط تحقيق السلم، وأن أي خلل يتصدع به جدار العدل؛ سيؤدي إلى خلل أكيد في بنية السلم.
ويتميز المنطق الإسلامي بهذه الثقافة التي جاءت استكمالاً للرسالات التي سبقته، وذلك عبر منهج إلهي متكامل بدأ بغيث البلاغة الهاطل على صدر نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله)، والذي حوّله إلى لآليات عمل وسياقات أخلاقية ضمنت الرخاء والتقدم للعالم الإنساني.
ثم أكمل رسالته بإعلانه ماتم تبليغه به، وأخبر الأمة بأن المسيرة متواصلة حتى في حال مضى لربه. فصارت الثنائية المتلازمة ممثلة بكتاب الله وعترة أهل البيت (صلوات الله عليهم) الضامن الحقيقي لاستمرار المنهج المحمدي العظيم.
ويأتي تركيز الإسلام على السلم؛ لأنه يمثل عامل طمأنينة للنفس البشرية، والإنسان في الإسلام هو القيمة العليا بين كل مخلوقات الله، وأن كل شيء في الوجود مُسَخر له " ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير مِمَّن خلقنا تفضيلا ".
هذا التأكيد القرآني على أفضلية الإنسان يُحتِّم أن تتحقق له كل مقومات وركائز العيش الكريم، والسلم - طبعاً - في مقدمتها.
النبي المسالم
سأل شمعون بن لاوي بن يهودا وهو راهب من حواريِّ عيسى عليه السلام رسولَنا الكريم (صلى الله عليه وآله) عن الرؤية الإسلامية لبعض الأمور ومنها العقل، فقال: " إنَّ العقل عقالٌ مِنَ الجهل، والنفس من أخبث الدواب فإن لم تعقل حارت، فالعقل عقال من الجهل، وإن الله خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر فأدبر، فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ماخلقت خلقاً أعظم منك ولاأطوع منك، بك أبدأ وبك أعيد، لك الثواب وعليك العقاب، فتشعب من العقل الحلم ومن الحلم العلم ومن العلم الرشد ومن الرشد العفاف ومن العفاف الصيانة ومن الصيانة الحياء ومن الحياء الرزانة ومن الرزانة المداومة على فعل الخير ومن المداومة على فعل الخير كراهية الشر "1.
لو تأملنا بهذه الإنسيابية الرائعة من البلاغة والوصف؛ لوجدنا أن السؤال كان عن العقل فكان جواب المصطفى (صلى الله عليه وآله) متسلسلاً بمجموعة من القيم الإنسانية الرفيعة وصولاً إلى قيمة السلم التي صارت مرتبطة بالإدراك (العقل). فالعاقل والراشد هو الذي يكون عقله (عقالاً من الجهل) وقمة الجهل أن يكون الإنسان متمرداً على العقل الذي بدأ الله به ويعيد.
إنَّ التفريط بالعقل يفتح الأبواب على مصاريعها لدخول الأضداد التي لا تتوافق مع قيمة السلم كالغضب والعصبية والعنف، فيكون الإنسان حينها مجرد هيكل آدمي خال من قيمته التي ميزه الله بها على سائر خلقه.
والسلم في جوهر الفكر الإسلامي مفهوم شامل، يمتد إلى كل الموجودات، جاء في كتاب (اللاعنف في الإسلام) للمجدد الثاني السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): " من خلال تأكيد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) قبل كل حرب كان يخوضها المسلمون يتجلى واضحاً أن الإسلام العزيز يحرص بشدة على البيئة وعدم تلويثها عبر الأعمال العنفية غرار إلقاء السموم في المياه أو قلع الأشجار أو غيرها من الأمور المؤثرة في تلويث البيئة ".
وهنا نلاحظ أن التأكيد على قيمة اللاعنف يعد من المفاتيح الرئيسة لتحقيق السلم، بحيث لا تقتصر على لاعنف الإنسان مع نظيره، بل ينفتح على كل شيء موجود. ولو أجرينا مقارنة بسيطة على المستوى الزمني، بين قوانين الإسلام وما نعيشه اليوم في عالمنا المعاصر، سيتضح لنا البون الشاسع بين فكر ينبع من عدالة السماء، وآخر يعتمد الماديات على حساب الإنسان، هذا فقط لو صار لنا شيء من شجاعة الإعتراف، وكنا منصفين.
اضف تعليق