q

ترتبط العملية الإصلاحية لواقع تعيَّن فساده، بضرورة الوعي التام بآليات الإصلاح، وقد يتخذ الوعي أشكالاً متعددة؛ ليؤدي غرضاً إصلاحياً منشوداً. والذي يتصدى للإصلاح لابد ان تكون له المنطلقات والمعطيات الواقعية ليبدأ بمشروعه.. وإلا فقد المشروع أهميته مفتقراً للنضج.

وليس للمصلح في البلدان الإسلامية غير التسلح الواعي بمعطيات القرآن الكريم التي تحث على التغيير للأفضل، جاء في كتاب الله عز وجل: "هُوَ الذي بَعَثَ في الأُمِّيينَ رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِهِ وَيُزَكِّيهم وَيُعَلِّمُهُمْ الحكمةَ وإنْ كانوا من قَبْلُ لفي ضلالٍ مُبين/الجمعة 28". وقد يتخذ الإصلاح شكلاً مرحلياً؛ لافتقاره لجذور الوعي الإصلاحي، أو لوقوع المصلح أسيراً لمفاهيم ترتدي الإصلاح قميصاً؛ ليغطّي جسداً مليئاً بأشكال الفساد، وهذا هو أخطر أنواع الإصلاح؛ كونه يمثل التفلّت من القيم الأصيلة، والتنكر لها.

الضمور الحضاري

يرفض الرأي العام في عالمنا الإسلامي اليوم مقولة أن البلاد الإسلامية تعاني من (الضمور الحضاري)، على اعتبار أن المسلمين هم خير الأمم كما جاء في القرآن الكريم: " كنتم خيرَ أمة أخرجت للناس تأمرونَ بالمعروف وتنهونَ عن المنكر وتؤمنونَ بالله / آل عمران 110 ".

إننا نعتقد أن السبب الجوهري لإطلاق الغرب صفة (الضمور الحضاري)، وغيرها من الصفات كالتخلف،والجهل، والظلامية، إنما أُطلقت لرفض المنطق الإسلامي لثيمة الحضارة التي تهيمن المادة عليها، فأكثر شيء يمكن أن يجهض أحلام الغربيين، ويضع العصي في دواليب تطلعاتهم الماشية باتجاه الهيمنة على العالم ثقافياً واقتصادياً، هو منطق الإسلام المرتكز على قيم وأخلاقيات هي خارج الحسابات المادية بالكامل.

ولكن، هل نستطيع مناقشة وصف (الضمور الإصلاحي) الذي نُتَّهَمُ به، بقليل من الهدوء مبتعدينَ عن شعاراتنا وظواهرنا الصوتية؟، نحن المسلمين نستشهد دائماً بآيات القرآن الكريم فهل وصلنا لها فعلاً؟، وهل أن شرح المضامين الواردة في كتاب الله كان شرحاً موفقاً لينتج لنا طالبان، والقاعدة، وداعش، وغيرها من المسميات التي نشرت الرعب في كل بقعة من بقاع الوجود البشري التواق للسلم والتعايش الحضاري؟، ما سر هذا الإنقسام التأويلي لكتاب يمثل أمة يصفها ذات الكتاب بخير الأمم؟.

تحدثنا في دراسة سابقة عن إشكالية التأويل ومقصدية الإلغاء، عن نظرية المعنى الأحادي، وأنساق التأويل الراكدة في ظرفها الزمني والمكاني غير آبهة بالمتغيرات المتسارعة في العالم. وهذا -في الحقيقة- هو سر مشكلتنا نحن المسلمين، والتي تسببت بتصدع منظومتنا الفكرية وظهورها للآخر بغير حقيقتها، فالنظرة الأحادية الإنفعالية، والإجماع عليها، خلقت حالة من اللاوعي التأريخي والحضاري لأكثرية مسلمي العالم، وبالتالي سنصل إلى إصلاح - في حال التفكير به - فاقد لجذور الوعي ولن ينتج شيئاً. أما الحلول الناجعة للعبور لضفة الوعي، فهي تكمن في المصارحة مع الذات، والإيمان بفشل المكوث في نسق تأويلي ضيق، ومثل هذا التصور، ليس له أن يحدث مالم تكن هناك ثورة ثقافية ومعرفية تؤمن بدور الثقافة في إصلاح القيم المتبعثرة.

يقول سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي (دام ظله): "إنَّ مسألة الثقافة من أهم المسائل في كل أمة وحضارة، وقد يصح ما يقال بأنَّ العالم يدور على عجلة الإقتصاد والسياسة، لكنَّ الأصح من ذلك هو القول بأنَّ الثقافة هي التي توجه الإقتصاد والسياسة. فبقدر مايحمل الفرد من ثقافة وعلم في كلا المجالين، فإنه لا يخسر ولا يُغلب. تغيير المواقف والعقائد والإعلان عنه ليس بالأمر الهيّن، فهو يغيّر تاريخه، بل ونوعية وجوده، لكنَّ الفكرة النيّرة تهز الإنسان - المنصف الواعي - وتدفعه إلى مزيد من البحث وصولاً للحقيقة الكاملة. أما مانراه اليوم في عامة الناس من عدم الإهتداء إلى نور الحق هو التعصب الناشئ من الجهل وعدم انكشاف البيّنة ".

إذن، لابد للفرد أن يسعى لاكتشاف الحقيقة ويؤسس وعيه، ثم ينطلق في تأدية رسالته الإصلاحية؛ لأن الإصلاح يبدأ من الذات أولاً، جاء في الحديث الشريف: " إنَّ الله لايغيَّر مابقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم"، فيستلزم لذلك التحرك المستمر؛ لاكتشاف وعيه بالتاريخ والحضارة حتى يكون محصناً، ويقف بوجه التحديات التي تريد إشاعة الفوضى الفكرية في المجتمعات، وضرب العقائد بعضها ببعض، وبالتالي يتزعزع السلم والتعايش.

وهذا ماأكدته الأحداث العالمية في العقدين الأخيرين، حيث أشيع في العالم مصطلح (الفوضى الخلاقة)، والذي تم الإشتغال عليه بعناية فائقة من قبل أجندات غربية، ومراكز دراسات متخصصة، في ظل سبات فكري غريب نشأ من استحسان المكوث في الركود الثقافي، والإنقياد المخيف - عدا استثناءات قليلة - للشروحات الأحادية المتعلقة بالعقيدة، واتخاذها كمُسَلَّمة ناطقة باسم الحقيقة، وعدم الإجتهاد والسعي في رمي حصى واحدة - على الأقل - ؛ لتحريك هذا الساكن الراكد.

نستنتج مما تقدم، أنَّ ممارسات فصل المنطق الحضاري عن المنطق التاريخي؛ لن تقدم بالنتيجة وعياً بقدر ما ستزيد من ضبابية وقع تحت تأثيرها - بقصد أو بدون قصد - كُتّابٌ ومثقفون، ممارسين قفزاً ساذجاً على خصوصيات تتفاعل حتى في منازلهم ! فصاروا مادة للتندّر والسخرية من هذه الشيزوفرينيا الهائلة.

ولاندري فعلاً متى يفكر المشتغلون بحقلي النقد والفكر جدياً بصياغة مناهج حقيقية منسجمة ومترابطة؟ متى يتم الكف عن استنساخ وتقليد التجربة الأدونوسية التي اعترف صاحبها بعدم جرأته على ممارسة مانظّر له فعلياً، مثلما اعتقد بعدم جرأة أي عربي آخر على ممارسته؟، الإصلاح يحتاج لمتاهج تربوية تُنمّي المواهب، وتصقل الشخصيات، وتعدها لمواجهة أنماط الأفكار السابحة في بركة اللاوعي، والمُضَخِّمة لمنطق اللاعقل.

اضف تعليق