ما إن انطلقت عمليات تحرير الموصول المسماة (قادمون يانينوى)، والتي أعلن عنها رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي، حتى اشتعل الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، وراح المحللون السياسيون والخبراء الأمنيون، يدلون بدلوهم مستنتجين رؤاهم السياسية والعسكرية حسب المعطيات على الأرض، وتداعيات هذه العملية التي ستجهز على مايبدو على آخر معاقل الإرهابيين الدواعش في العراق منذ احتلالهم لمدينة الموصل في التاسع من حزيران عام ٢٠١٤.
وبما إنَّ قضية هزيمة التنظيم الإرهابي مفروغٌ منها وباتت في حكم المؤكد، انشغلت الآراء السياسية بالحديث عن واقع المدينة المثيرة للجدل، والمتنوعة على الصعيد المكوناتي، وعن مستقبلها بعد تحريرها كلياً، فعلى المستوى المحلي يمكن تقسيم الرؤية السياسية إلى متفائلة من الجانب "الشيعي"، وقلقة من الجانب "السني"، خصوصاً بعد التحول الملحوظ في موقف الطرف الكردي، والذي كان وحتى وقت قريب متذبذباً بين مد وجزر في طبيعة العلاقة مع المركز سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، لدرجة التهديد ولمرات عديدة بالإنفصال وإعلان الدولة الكردية بهدف الضغط على بغداد، والحصول على مكاسب سياسية أكبر تعودوا على الحصول عليها بعد كل أزمة تعصف بواقع العملية السياسية التي أعقبت سقوط صدام حسين وانهيار نظام حزب البعث في العراق.
كان للتقارب والتنسيق العسكري بين قوات الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية، والذي وصف بالرائع من شأنه أن يسرّع وتيرة الحرب والحصول على نتائج أكثر من المتوقع على الصعيد العسكري، بعد تقارير كشفت عن حالة الذعر التي أصابت أفراد التنظيم الإرهابي الذين أحسوا عملياً بقرب نهايتهم، وانقلاب داخلي على (الخليفة) الهارب من مسرح الأحداث، وتشجع الأهالي على الإنتفاض بوجههم بعدما ذاقوا الأمرين خلال تواجدهم طيلة سنتين وأربعة أشهر، عابثين بحضارة المدينة وشواهدها الدينية والتأريخية ومكتباتها وإرثها الثقافي والمعرفي.
وأمام الإقتراب "الشيعي / الكردي" وقف ساسة المكون "السني" بين صمت مطبق عدا استثناءات لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة، وقلق وترقب لآخرين بانتظار انتفاضة وهابية من مساجد التفخيخ والتكفير، أو مواقف عنترية من وريث العنجهية العثمانية، وكلا الطرفين مثلا في الراهن السياسي أملاً في استعادة المكانة "السنية" التي فقدت بعد التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣.
الموقف العربي ولعبة تبادل الأدوار
وحظيت عملية تحرير الموصل بتأييد عربي يعكس مزاجاً يؤكد على ضرورة الإنفتاح على التجربة العراقية، والقناعة بلاجدوى معاداة نظام سياسي لدواع مذهبية، وهو الدور الذي لعبته أكثر الدول العربية منذ 2003، بعد أن تكشفت الوجوه الكالحة التي مثلت عمقاً مذهبياً معيناً بعد تكسر أقنعتها المتعددة. أهم المواقف العربية المؤيدة جاءت من مصر التي أعربت عبر المتحدث الرسمي باسم خارجيتها تضامن مصر مع حكومة وشعب دولة العراق، حيث جاء في بيانها الرسمي: "إنَّ تنظيم داعش الإرهابي، ومن يتضامن معه، او يتبنى إيديولوجيته، وسائر التنظيمات الإرهابية المنتشرة في مناطق عديدة من دول العالم، لايمكن لها أن تصمد أو تجد ملاذاً آمناً أمام إرادة الشعوب المحبة للسلام والإستقرار".
الموقف المصري يؤكد سعي مصر في استعادة دورها الريادي الذي تراجع لفترة معينة لصالح السعودية التي لعبت بمقدرات المنطقة بالمال والنفط والإقتصاد، لكن اليوم ليس كالأمس، فبعد خسارتها الفادحة في اليمن، وقناعة الولايات المتحدة الأمريكية بأنها لم تعد بتلك القوة، وقناعة العالم بأن السعودية هي مصدر الإرهاب والتهديد كونها الحاضنة الرسمية لفقه الموت والتكفير الوهابي، والذي تجلى بقصف الأبرياء في اليمن، باتت دولة آل سعود معزولة وليس لها دور على مسرح الأحداث، باستثناء تصريحات مكرورة باردة لوزير خارجيتها العازف على ذات الوتر المذهبي المشروخ، والتي لم تلق صدى سوى في الفضائيات المدعومة سعودياً.
عزلة السعودية وصلت حتى لمنطقة الخليج بعد خلافات مع الإمارات حول الملف اليمني، ومواقف صريحة لعمان بعدم تبني وجهة النظر السعودية، وقبل ذلك كانت الضربة الكبيرة على المستوى الفقهي خلال مؤتمر غروزني الأخير، والذي قضى على التمثيل الوهابي السعودي، عاداً الفكر الوهابي المتطرف خارج منظومة مايسمى بـ (أهل السنة والجماعة)، كل هذه التداعيات المتسارعة أنتجت عزلة سعودية خانقة.
تركيا والنفخ في الرماد المذهبي
بمجموعة من الخيالات الحالمة بالتوسعية العثمانية، طرح الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان)، والعائد للسلطة بعد تسويات معينة بعد عملية انقلاب كادت تطيح بعرشه وسلطانه، محامياً عن المكون "السني" في العراق، حيث أرسل قوات عسكرية تركية لتتمركز في مناطق بمدينة الموصل، وهو الأمر الذي أحدث ضجة كبيرة، واستنكار واسع مارسته الدبلوماسية العراقية رافضة هذا الإعتداء غير المبرر.
وبمنتهى الغرور، قابل أردوغان مطالبات العراق بسحب قواته بعبارات غير لائقة تعكس العنجهية التركية، حيث وصف رئيس الوزراء العراقي بأنه ليس ندّاً له و أنّه عليه أن يعرف حدوده ومع من يتحدث، ليأتي الرد العراقي بمثابة الصفعة غير المتوقعة، إذ أعلن نظيره العراقي (حيدر العبادي) أن الموصل ستتحرر بسواعد العراقيين وليس عبر (السكايب) في إشارة ساخرة لهروب أردوغان واختفائه أثناء عملية الإنقلاب، وتوجيه خطاب عبر السكايب للشعب التركي. الصفعة العراقية الأخرى جاءت أثناء بدء عمليات تحرير الموصل، حينما قامت قوات الفرقة القتالية الذهبية بعملية إنزال نوعية ومفاجئة في المكان الذي تتواجد فيه القوات التركية، ومحاصرتها وعزلها تماماً عن مسرح الأحداث، وجعلها في وضع لاتحسد عليه مطلقاً، ليجن جنون أنقرة السياسي من خلال مواقف متناقضة استمرت بالعنتريات الفارغة لأردوغان، في الوقت الذي أعلنت فيه الخارجية التركية إرسال وفد رسمي للتفاوض مع بغداد حول آلية انسحاب قواتها، بعد الموقف المحرج الذي وضعت فيه.
وزاد الهيجان التركي حين جاء التصريح الأميركي بضرورة موافقة العراق على اشتراك تركيا في عمليات التحرير، وهو ماعده مراقبون سقوط الورقة الأردوغانية من الخيارات الأميركية، وأنه لم يعد رقماً مهماً من ارقام تحالفاتها المستقبلية.
وبعد أن خرجت الطبقة السياسية "السنية" خالية الوفاض من رهانها على السعودية ؛ أعلنت نفسها بوقاً نشازاً لتركيا، فٱنبرى الساسة مدافعين عن الوجود التركي، محذرين من تداعيات معاداته أو الاصطدام به سياسياً وعسكرياً، وراح بعضهم يغرد خارج السرب الوطني، مطالباً بطرد منظمة حزب العمال الكردستاني pkk، وهو الحديث الذي لم يتجرأوا على التلميح له سابقاً يوم كانت العلاقات متوترة بين أربيل وبغداد، يومها كان التناغم مع الموقف الكردي حبلاً من حبال تقافز الطبقة السياسية التي صعدت على أكتاف المساكين من "السنة".
إنَّ الذي يبرر الهيجان التركي تجاه قضية تحرير الموصل، هو طرد وهزيمة تنظيم داعش الإرهابي الذي يمثل عملياً صنيعة تركية، بعد تهيئتها فقهياً بمنطق البداوة التكفيري السعودي، مايعكس اعتبارات إقليمية حول تنامي قوة العراق بنسخته "الشيعية" أمام تراجع الأدوار التي التي عملت على تخريب التجربة العراقية طيلة السنوات الماضية.
اضف تعليق