يُعرف محمد عابد الجابري الإشكالية بأنها النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها فهي توتر ونزوع نحو النظرية، أي نحو الإستقراء الفكري). ولو أسقطنا هذا التعريف على سلوكيات المثقفين العرب، لوجدنا أنفسنا أمام كم هائل من المتراكمات المفاهيمية المتراوحة بين سرديات سلفية عتيقة لاقيمة لها أمام المنطق والمعرفة، وتمرد غير محسوب على كل محددات وثوابت عبر تبني المصطلحات الوافدة.
ومابين التقليدية السلفية والحداثوية الفوضوية؛ نشأ جيل من المثقفين الإشكاليين الممارسين لآليات نقدية يمكن كشف قناعها بسهولة إن وُضِعت - الآليات - على طاولة نقدية فاحصة.
وثمة اعتقاد سائد لدى بعض الكتاب الحداثويين أن المثقف الإشكالي هو الحر البعيد عن الإنتهازية التي تلازم سلوكيات المثقف التقليدي، وهو اعتقاد مبالغ فيه، إذ ليس كل أسئلة متحررة وغير عقلانية تحت يافطة (خالف تعرف) تعقبها سلوكيات مستهجنة معناها التمرد الإيجابي، بل من السذاجة اتخاذها منهجاً يحتذى به ويُبَشَّر به.
مشكلة أكثر مثقفينا اليوم هو عدم استيعابهم لإفرازات اتصال الشرق بالغرب حضارياً، والذي أنتج ثلاث فئات من المثقفين، فيهم المحافظون المسكونون بالأفكار القديمة، المأسورون بسياقاتها، أما الفئة الثانية فهي فئة المثقفين العلمانيين والليبراليين الذين ذابوا في الحضارة الغربية، وأصروا على تبنيها بوصفها المخلص الحقيقي لمعضلة الوجود البشري، بينما شملت الفئة الثالثة المثقفين الإصلاحيين الذين حاولوا الجمع بين الموروث والحداثة، لكن للأسف هذه الفئة الأخيرة هي الأقل قياساً بالفئتين السابقتين.
أنموذج يوسف زيدان
يمثل الروائي والكاتب المصري يوسف زيدان أنموذجاً صريحاً لسلوكيات وتناقضات المثقف الإشكالي، ومن المهم إحاطة القارئ العزيز علماً أن الخوض في سلوك هذا الكاتب لايعني بالضرورة اتخاذ موقف شخصي منه، الأمر الذي نحرص على تجنبه هنا في شبكة النبأ ؛ لأن الموضوع الذي نناقشه يؤشر إلى ظاهرة يمكن أن تدعم ببعض الشواهد دون الإنتقاص من قيمتها الأدبية والفكرية لاستكمال الرؤية لاأكثر.
والكاتب يوسف زيدان أديب وروائي لامع، تحصلت روايته الأشهر (عزازيل) على جائزة البوكر للرواية العالمية رغم بعض الإشكالات التقنية التي لسنا بصددها هنا، كانت له مؤخراً تصريحات أثارت الجدل أثناء مشاركته بمهرجان (ثويزا) في مدينة طنجة المغربية، نسف فيها كل مايتعلق بالحضارة في الجزيرة العربية نافياً ظهور اللغة العربية فيها، وكان قد شكك قبل ذلك بموقع المسجد الأقصى أو الدليل على وجوده أو قدسيته، كما له بعض الآراء تجاه الإسلام، والتي تعد من أكبر دلائل قلقه وعدم ثبوته على منهج معين.
وحتى ننأى - كما أكدنا - عن الشخصنة، نأتي إلى مناقشة مايتعلق بسلوكياته كمثقف إشكالي، فبعد تصريحاته المثيرة للجدل حول جذور اللغة العربية والحضارة في منطقة الجزيرة العربية والتي عبّرت عن فقر واضح في المعلومات، قام في الندوة بإشعال سيجارة أمام استغراب الحاضرين، وعندما طلب منه مقدم الجلسة إطفاءها كونها تخالف السياقات والذوق العام أجابه زيدان بالسؤال : هل يوجد نص ديني يحرم السيجارة ؟
نعتقد أن هناك نسقاً مضمراً ظهر بشكل يصعب إخفاؤه حول حقيقة موقف المثقف الليبرالي من الدين حتى وإن بدا محترماً لمعتقدات الآخرين ومتبنياتهم الدينية، وإلاّ مالداعي لإقحام موضوعة النص الديني في قضية تتعلق بالذوق العام الذي ينبغي أن يلتزم به المثقف قبل غيره ؟ الغريب أن زيدان غادر غاضباً وهو مستمر بالتدخين متحدياً قبل أن يعود للقاعة مشترطاً زيادة أجره مقابل الرجوع لفعاليات المهرجان رغم أنه نفى موضوع زيادة أجوره جملة وتفصيلا.
هل من المعقول أن يلوذ كاتب ومفكر بسيجارة مخالفة من أجل زيادة الأجر مقحماً الدين ونصوصه في الموضوع ؟
وهل من المعقول التنكر للمسجد الأقصى والتشكيك بهويته من أجل مغازلة مؤسسة تشرف على أهم جوائز الأدب العالمي وهي جائزة نوبل ؟!
المثقف والرصد السلبي
لعل غياب الضوابط والمعايير عند إطلاق التسميات والتوصيفات ومنها تسمية (المثقف)، تجعل من ادعاء هذه الصفة أمراً شائعاً في المجتمعات التي تغيب عنها المعايير التي تحدثنا عنها، أو لاتقيم لها وزناً في حال وُجدت.
لقد صارت قضية ادعاء الثقافة من أكثر وأهم مشكلاتنا اليوم، خصوصاً مع غياب شبه تام لمن بيدهم مقاليد الأمور في إدارة الدولة، فهم مشغولون بصراعاتهم السياسية، وهوسهم بتعزيز السلطة والنفوذ، هذا من جانب، ومن جانب آخر يتحمل المثقفون - بنرجسيتهم المفرطة - مسؤولية كبرى في الإنحدار الثقافي بحيث يوظفون إمكانياتهم لأغراض تتعارض مع المقصد الأخلاقي للفعل الثقافي. ويمكن ملاحظة هذه الإشكالية في الكثير من المؤتمرات والفعاليات الثقافية حيث توجه الدعوات لأنصاف المثقفين من الذين لادور لهم ولامنجز إبداعي يمكن أن يشار إليه، أو أحدث نقلة نوعية في مجاله الإبداعي والفكري، بل أن أغلب الدعوات صارت قائمة على علاقات افتراضية في مواقع التواصل الإجتماعي في محاولة لتحويل الإفتراض إلى واقع ولو على حساب الفعل الثقافي.
هذا الإحتشاد (الثقافي) البائس، يجب أن تكون إزاءه وقفة جادة ومحللة له ولتداعياته الخطيرة،ولاينبغي التوقف عند المراقبة السلبية من دون إنتاج فعل يمكن أن يعيد للثقافة وجهها وصورتها الحضارية الناصعة، فعل يتصدى بجرأة وشجاعة لهذه العشوائية والضجيج بدلاً من الركون للصمت والإنزواء وممارسة الشكوى في دوائر ضيقة كالمقاهي أو الجلسات الخاصة، فالرصد إذا ماتحول إلى شكوى فقط سيكون رصداً سلبياً لاقيمة له، ولانتائج ترتجى منه. حالة اغتراب المثقف لايجب أن تنتقل من دائرة الذات إلى الشيوع الذي يفصل المثقفين عن واقعهم المتلاطم الأمواج فيتعزز بذلك الشعور بلاجدوى الثقافة والمثقف معاً.
بين غرامشي والنسق القرآني
كتب الإيطالي انطونيو غرامشي في سجنه " إنَّ جميع الناس مفكرون، ومن ثم نستطيع أن نقول : ولكن وظيفة المثقف أو المفكر لايقوم بها كل الناس ".
هذه الرؤية تضعنا أمام نمطين : الأول نمط التفكير التقليدي الذي يشمل جميع الأفراد، وهنا ليس لنا إلاّ إضافة صفة (التقليدي) لتجاور لفظة (التفكير).
ومن المسلم به أن المهمة الحقيقية للمثقف أو المفكر هي غير تقليدية، وهو ماأشار إليه إدوارد سعيد في كتابه المهم (المثقف والسلطة) حين استشهد بتعريف (جوليان بندا) للمثقفين بأنهم (عصبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة الذين يشكلون ضمير البشرية).
بهذا التعريف لباندا ومن قبله الرؤية الغرامشية نعرف أهمية الدور الذي يضطلع به المثقف الحقيقي، والرسالة الهادفة التي تنهض بالمجتمع الإنساني، ومحاولة وضع تصورات من شأنها تقليص مشكلاته، وهو دور غير المداهن، يحدد الهدف بحرفية تضمن عدم تسلط الطارئين للعب هذا الدور الحيوي.
من جانب آخر، نجد أن القرآن الكريم حدد نسقاً مكثف الرؤية عرّف المثقف وفق معايير قائمة على الإيمان والإدراك والتفكر، فالمثقف هو الفاعل ذاتياً ومجتمعياً، كذلك في التفكير بعلاقة الإنسان والوجود، يعبر عن ذلك بقوله : " الذين يَذكرون اللهَ قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماواتِ والأرض ربّنا ماخلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار / آل عمران :191 ".
هذا النسق القرآني جعل المتفكر في حالة اطمئنان واستقرار نفسي تبعده عن كل السلوكيات الإشكالية ؛ لتسلحه بفطرة الإيمان والتدبر في شؤون الكون والمخلوقات، وبهذه العوامل ينأى بنفسه عن المتناقضات، ويكون له دوره المحوري في إنتاج المعنى ذي الحجة والبرهان القويين.
اضف تعليق