q

بيانات القيادات السعودية كالكتابات القديمة، لا يمكن فك رموزها الا بالاستعانة بما يوازيها ويزامنها من تسريبات، عرضية كانت ام متعمدة، او الرسائل التي قد تتقافز من تحت الطاولة او فوقها، والتي قد نجد صداها في تصريح هنا او بيان هناك.. فالمملكة التي استمرأت اشعال الازمات في المنطقة عن بعد لسنوات، والتي تتلمس للمرة الاولى معنى التوحل في اتونها خارج اشتراطات سياسة الصكوك والاعطيات، تجد من العسير عليها ان تخرج من الازمة التي دخلتها برجليها على وقع الدفوف والتهاليل، دون ان يكون في جعبتها بعض المبررات التي يمكن لها من خلالها تسليك خروجها دون الاضرار بالتوازنات الداخلية بالغة الهشاشة..

ومن هنا قد نحتاج الى الكثير من السطور لنبحث بينها عن بواطن اعلان قيادة قوات التحالف العربي الذي تقوده السعودية عن هدنة على الحدود اليمنية مع المملكة، استجابة لمبادرة "شخصيات قبلية واجتماعية يمنية سعت لإيجاد حالة من التهدئة على الحدود اليمنية المتاخمة للمملكة لإفساح المجال لإدخال مواد طبية وإغاثية للقرى اليمنية القريبة من مناطق العمليات" وترحيبها " باستمرار حالة التهدئة في إطار تطبيقها لخطة "إعادة الأمل" بما يسهم في الوصول إلى حل سياسي برعاية الأمم المتحدة وفق قرار مجلس الأمن رقم ( 2216 )".

فحتى لو تجاوزنا مفارقة ان تنطلق عملية سياسية برعاية الأمم المتحدة بناء على توسطات "شخصيات قبلية واجتماعية".. فقد يكون من الصعب ان نربط بين اعلان التحالف السعودي عن تلك المبادرة وسط كل تلك التسريبات الاعلامية الخليجية المتواترة التي كانت تلمح بصورة اقرب الى التصريح بأن الحسم اصبح قاب قوسين او ادنى من يد التحالف وان الحوثيون يريدون الاستسلام التام لقوات المملكة والبحث يتم في التفاصيل فقط.

وهذه المفارقة هي من تعلي من حظوظ الروايات الموازية التي تتحدث عن ان الاعلان كان تتويجا لمحادثات سرية بين وفد سعودي ووفد حوثي منذ مدة قريبة في منطقة حدودية بين البلدين بطلب من الرياض عن طريق طرف ثالث، وهو نفس ما اشارت له الرسالة السرية الموجهة من مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ أحمد إلى مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية جيفري فيلتمان، والتي سربت بتوقيت ذو دلالة الى بعض وسائل الاعلام، والتي اشار فيها الى امكانية استمرار المفاوضات في العاصمة الأردنية عمان.

وبغض النظر عن كون مثل هذه الخطوة بناء على ما وصفته بعض التقارير من كونه نابع من ادراك المملكة "فشل عدوانها في القضاء على المقاومة اليمنية، وأن حركة أنصار الله باتت لاعباً أساسياً في الساحة لا يمكن تجاهله"، او أن "الرياض أخفقت في السيطرة على جنوب اليمن وباتت تخشى تعاظم قوة القاعدة وداعش قرب حدودها". او ان وقف القصف قد يكون " بضغط أمريكي بسبب تزايد تمدد الجماعات التكفيرية في جنوب اليمن عما هو مسموح به أمريكياً". الا انه لن يكون من الحكمة تجاهل تأثير صراع الاجنحة داخل الحكم السعودي على اتخاذ مثل هذه الخطوة نتيجة التباين الواسع في المواقف تجاه ازمة اليمن بين طرفي النزاع داخل الاسرة الحاكمة في المملكة..

فحين يعتمد ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على هذه الحرب لتقديم نفسه بصورة " الرجل القوي القادر على حماية المملكة والتعامل بحزم مع من يحاول الاعتداء عليها" مما يجعله المرشح الاقرب الى خلافة والده على العرش، ويسوق اعلاميا على انه المسؤول عن "عقيدة الحزم" في السياسة السعودية والذي لا يرى الحل الا في "تدمير قوة الحوثيين والانتقام من شخص الرئيس السابق الذي تتهمه السعودية بعدم الوفاء"، نجد ان ولي العهد السعودي محمد بن نايف يرى "أن استمرار الحرب في اليمن سيتحول الى مصدر ارتزاق للقبائل، كما سيساعد على خلق بيئة أكثر ملائمة لأنشطة الجماعات الإرهابية وتغذية الصراع الطائفي في الخاصرة الجنوبية للمملكة"، وهو ما تدعمه الولايات المتحدة التي باتت تخشى القوة المتنامية للجماعات الإرهابية في اليمن وما لذلك من مخاطر على الأمن الإقليمي والدولي.. مما يجعل من التوجه الجديد للمملكة نوع من تراجع دور الجناح المتشدد الذي يقوده محمد بن سلمان لصالح الجناح المعتدل الذي يمثله محمد بن نايف، وهو ما قد يثير المخاوف في ردود افعال غير محسوبة للطرف الخاسر قد تؤثر على الآمال المعقودة على المبادرة في نهاية سريعة ومقبولة للنزاع الذي اهلك الحرث والنسل والبنى التحتية للجار الجنوبي الجريح..

والاهم من كل هذا هو هل ان هذه المعطيات الجديدة هي بداية مقاربة واقعية وعقلانية من قبل المملكة للازمات التي تعصف بالمنطقة او انه انسحاب تكتيكي من بعض الملفات دعما لاندفاعات متوقعة في ملفات اخرى في عملية ترتيب كبرى للأولويات تفرضه حسابات البيدر السوري العاصف..

تساؤلات كثيرة وعلامات استفهام اكثر يضج بها المشهد الامني والسياسي في المنطقة المثقلة بالمزيد من الازمات، قد تأتي الايام وفي جعبتها بعض الاجابات لها.. او قد تكون مقدمة لاختلالات اخرى لا نعلم لها من نهاية.. ولا نملك الا انتظار الضوء في آخر النفق الذي لا نعلم له مكانا..

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق