قد يكون من الصعب على العديد من المراقبين مقاومة اغراءات الوقوع امام سحر الدعوة الى الحوار كونه من متطلبات الحياة في المجتمع المعاصر كفعل مناهض للانغلاق والانعزالية ومسار آمن –وقليل الكلفة- للتفكير الجماعي والنقد الفكري الذي يؤدي إلى توليد الأفكار والبعد عن الجمود وسوء الفهم والتقوقع والتعسف.
ولكن هذه النوايا الطيبة –بل وحتى السذاجة– ليست بالقدر الكافي لتجعلنا نتغاضى عن كون اغلب الدعوات للحوار في مجتمعاتنا –وخاصة تلك الدعوات ذات النوايا المبيتة– لا تعدو كونها وسيلة لتحقيق اهداف ومتبنيات قد يتعسر الوصول اليها بطريق واضح وسلس.. او هي مجرد تغطية يتظلل من خلالها من يريد التهرب من اتخاذ موقف محدد من قضايا قد تمس المصالح الشخصية –او الفئوية- لهذا السياسي او ذاك..
فالدعوة الى الحوار التي تكرر الحديث عنها في الخطاب الاعلامي والسياسي للقوى الكردية المتصدية للحكم في الاقليم وبعض العناوين المتعاطفة مع توجهاتهم الاخيرة، والتي تصاعدت بعد الاستفتاء على انفصال اقليم كردستان عن العراق، تتجاهل عدم امكانية تقبل الحكومة الاتحادية للعرض بسبب اهم عامل يميز الحوار عن غيره من وسائل الاتصال بين الجماعات الا وهو كونه يشترط مسبقا الاعتراف بوجود مناظر يتحصل على مشروعية افتراضية لطروحاته وآراءه مما يجعل له الحق في التعبير عن افكاره ومتبنياته موضوع الحوار..
اي ان مجرد استجابة الحكومة العراقية لهذا الطرح المفخخ قد تجعلها تخسر العديد من اوراق الضغط المتوفرة بسخاء في ايديها في هذه الحالة– دون تحقيق اي مكاسب من حوار تبدو مقدماته كأنها اقرار بأمر واقع اكثر من كونه مسار لحل قضايا مختلف عليها بين الاطراف المتنازعة، وهذا ما يبدو ان القوى الكردية منتبهة له بصورة كبيرة..
كما ان الحوار يشترط قبل كل شيء التفاهم على توصيف محدد –نوعا ما– على المشاكل مدار البحث، وكلما كان هذا التوصيف اقرب الى التوافق -وكذلك المصداقية– كانت مدخلات الحوار اسهل واكثر سلاسة ومؤدية بالضرورة الى نتائج ومخرجات متفق عليها وقابلة للحياة.. وهذا ما لا يتوفر، وبصورة لافتة، في حالة الاستفتاء الكردي العتيد..
فالأكراد ينطلقون بدعوتهم للحوار من منطلق حق تاريخي مفترض بتقرير المصير استنادا على مبادئ ولسن، ممزوجة بتفسير مغرق بالأحادية لمحطات منتقاة –بتعسف– من احداث تاريخية ملتبسة السياق، وكل ذلك وسط استثمار ظرف تاريخي دقيق نشأ من استيلاء "داعش" على مساحات من الاراضي العراقية ومحاولة وضعه في اطار الواقع المستجد في المنطقة الذي يستدعي ترتيبات وحدود وعلاقات جديدة..
مضافا اليه غض نظر – اقرب الى خداع الذات –لحقائق ومسارات وشرائع اتخذت صفة الرسوخ والثبات نتيجة للشرعية الدولية والقانونية والاعتبارية ومنذ مدد ليست بالقصيرة، اي اننا امام عملية تصفير من طرف واحد للمسار التكويني التاريخي للدولة العراقية والاعتراف الدولي المطلق بوجودها وسيادتها ووحدتها الترابية والشعبية.. واعادة الزمن الى بدايات القرن العشرين وظروف تفكك الدولة العثمانية.. والاهم من كل هذا.. هو ان الاكراد يقدمون خرائط وحدود مقننة بدقة لكيان افتراضي باسم كردستان دون العناية بتوضيح الزمن الذي كانت هناك دولة او نظام او امارة بهذا الاسم ومتى كانت لها هذه الحدود..
كما ان الطروحات الكردية المتعلقة بالغبن الذي الحقته اتفاقيات سايكس بيكو بالأمة الكردية يلغي تماما امكانية الحوار مع الحكومة الاتحادية بسبب كون هذه المسألة ذات بعد اقليمي ودولي وقانوني مما يجعل من الاجحاف حصرها ضمن الاراضي العراقية دون غيرها..
وزبدة القول.. هو ان مقدمات الاستفتاء والعناد الذي ابدته القوى الكردية تجاه الرفض المحلي والدولي الواسع، وضرب قرارات مجلس النواب والمحكمة الاتحادية و الحكومة العراقية عرض حائط العناد والمكابرة هو مما ينسف اي امكانية للحوار –بل اي شكل من اشكال التواصل – مع الدولة العراقية بكل مؤسساتها وتنظيماتها الرسمية وقواها الشعبية.. فعملية الاستفتاء لا يجب التعامل معها الا على اساس كونها تمرد سياسي وامني على الدستور والقوانين السائدة باستخدام القوة المسلحة والنهب المنظم لمقدرات المنطقة مما يجعل القوى المعلية من شعار الاستفتاء لا تتحصل على الصفة التي تؤهلها للحوار مع الدولة، وان الدفع بان الاستفتاء حق دستوري وقانوني للكرد هو عامل مضاف لتقليل امكانية التوصل الى ارضية مشتركة مع العراقيين، بل ومع العالم برمته..
ان الحوار المطلوب هو عن البحث عن السبل التي تعلي من مفهوم المواطنة وصيغ العيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد وقد يكون من صيغ التدفع السلمي الهادف الحفاظ على التنوع الفكري والعَقَدي والسياسي في المجتمع الواحد.. اما "الحوار" المؤدي –بالضرورة- الى التشظي والتشرذم تحت قرقعة السلاح والتحريض القومي والعنصري فهو مما لا حاجة للعراقيين به ولا بما قد يأتي من وراءه..
للأخوة الكرد الحق في التفكير.. وكذلك الحوار.. ولكن كل ذلك كان من الممكن ان يكون قبل عملية لي الاذرع السياسي على وقف الهتافات والدبكات، اما الان فكل الدلائل تشير الى ان الكرسي المقابل للقوى الكردية في طاولة الحوار، سيبقى شاغرا.. ولمدة طويلة جدا..
اضف تعليق