بالرغم من السيل الهادر من التقنيات المتطورة في الاتصالات والنقل والانتاج وتوفر مستويات عالية من الرفاهية لإنسان اليوم، بيد ان الثمن الباهض لهذا التطور في الحياة، على اصعدة عدّة، من الصحة البدنية والنفسية، مروراً بارتفاع عدد العاطلين عن العمل، وليس انتهاءً بالعيش في دوامة أزمات اقتصادية واجتماعية مزدوجة، جعل الكثير في العالم يعيدون التفكير في أمر النظام الاقتصادي الذي يعيشون في ظله، فقد باتت الحياة المكانيكية تكشف بشكل تدريجي حقيقة تهميش وإلغاء دور الانسان، ليس في دفع عجلة الاقتصاد، وحسب، بل حتى في صنع لقمة الخبز التي يأكلها، فهو محظوظ إذا كان صامولة صغيرة في الماكنة الاقتصادية الكبيرة لهذا البلد او ذاك، او عاملاً او حتى مهندساً في هذا المصنع او ذاك. فهو يكد ليل نهار للإسهام في انتاج السلع الاستهلاكية والاطعمة المعلبة والملبوسات ووسائل الاتصال وغيرها، ثم يكون هو أول المستهلكين في الساعات الاخيرة من اليوم.
ومنذ عقود من الزمن، وعندما كانت عجلة الاقتصاد العالمي تطحن قدرات وطاقات البشرية، كان سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي – قدس سره- وفي عديد مؤلفاته الخاصة بالاقتصاد، وأخرى المتعلقة بمشروع النهضة والتغيير، يحكم العلاقة بين الاقتصاد والانسان، وتأكيده على أن الاقتصاد السليم والمثمر إنما يقوم على حق الانسان في العيش الكريم، قبل أي شيء آخر، وأي تطور في الاقتصاد، لابد أن يقترن بفائدة قصوى للانسان وانعكاس مباشر على طريقة عيشه، لا أن تكون هذه ثمناً لتطور الاقتصاد وهدفاً لزيادة الارباح وتطمين اصحاب الرساميل الضخمة. ولذا جاء تأكيد سماحته على العمل الدؤوب كقيمة حضارية، وعلى النشاط والحيوية في سياق التطور الانساني والاجتماعي مستلهماً الدروس من النصوص الدينية المشجعة على العمل والانتاج بالوسائل المشروعة، وايضاً من تجارب العهود الذهبية التي شهدتها الامة في تاريخها، لاسيما في عهد الامام علي، عليه السلام.
وفي بلد مثل العراق، يسعى لبناء اقتصاد جديد وناهض، تبدو الحاجة ملحّة لأن يخرج الانسان من أصر الآلة الانتاجية ليكون هو بنفسه منتجاً بما تتيسر لديه من قدرات مادية وذهنية، لاسيما في ظروف تكون الاحداث السياسية والامنية متحكّمة بلقمة عيشه واستقراره النفسي والاجتماعي نظراً لارتباط كل شيء بالعائدات النفطية، ثم تأتي بعض وسائل الاعلام الدفوعة الثمن لتزيد من حدّة التوتر النفسي وتشدّ الاعصاب لاسباب غير معلومة، فهو لن يكون فقط غير مستقر وغير آمن على حاضره ومستقبله، إنما يشعر أنه مكبل بأغلال اليأس والاحباط، تنكّل به مشاعر الخيبة من كل شيء.
ولكن؛ لمن يبحث عن القدرات الذهنية الخلاقة يجد العجاب – حقاً- حيث تصدر من شباب من طلبة المدارس والجامعات او من حرفيين وغيرهم، محاولات مبدعة للانتاج، وايضاً محاولات للتغلب على كل مشاعر الخيبة واليأس، كان آخرها ما قدمه حرفي من مدينة الديوانية يعمل في تصليح السيارات "فيتر"، حيث حول إطارات السيارات المستعملة والمتراكمة أمامه الى تشكيلات رائعة من المقاعد الوثيرة والمناضد من الصعب تصديق أن موادها الأولية مستخرجة من إطارات ممزقة ومستهلكة.
انه مثال بسيط على وجود قدرات كامنة تبحث عن أيادي للدعم والمساندة والتشجيع من مؤسسات حكومية وايضاً من منظمات المجتمع المدني وغيرها. في المقابل؛ ربما يقفز اعتراض او استفهام عن جدوائية هكذا أعمال، او عدّها بمنزلة الترف واللهو، بيد ان دراسة استقصائية لاقتصاديات الدول المتقدمة في العالم، نجد أنها قامت على هكذا مبادرات فردية وتفتق ذهني عن ابتكارات وابداعات في شتى المجالات، حتى وإن كانت آلة بسيطة للاستخدام المنزلي او ملبوسات او مقتنيات معينة، لأن هذه الابداعات هي التي تحولت فيما بعد الى نماذج ناجحة اقتصادياً في نظر الصناعيين، فتحولت الى عنوان كبير لمصانع ضخمة تدر على البلد مليارات الدولارات.
وفي كتابه "ممارسة التغيير" يشير سماحة الامام الشيرازي الى "أن تجمع القطرات تسبب تكون البحار... والذي يريد ممارسة التغيير عليه أن يجمع القطرات من اجل هدم الابنية السابقة وتشييد الابنية الجديدة مهما طال الزمن...".
إن خروج بلد مثل العراق او غيره من البلاد المنكوبة بالحروب والازمات الاقتصادية والاجتماعية المعقدة، لن يكون على بساط الريح، ولن يكون من خلال استنساخ التجارب الكبيرة لدول متقدمة، كمن يريد ان يصعد القطار في سرعة قصوى، فالقضية ليست منقطية بالمرة. نعم؛ ليكن التخطيط والبرمجة على المدى البعيد، ولتكن هنالك دراسة لتجارب اقتصادية لبلاد متقدمة من العالم الثالث مثل الهند وكوريا الجنوبية والصين وغيرها. فهذه تعطينا ليس فقط تجارب اقتصادية، بل وتعطي تجارب انسانية، والوقوف على كيفية تصرف الانسان هناك مع مشاريع التنمية وكيف وفق بين حياته الخاصة والاجتماعية وبين مسيرة التقدم الاقتصادي؟ وفي نفس الوقت يكون الحثّ والتشجيع على العمل و الانتاج الذي من شأنه إخراج البلاد تدريجياً من التبعية الاقتصادية، بمعاضدته للتجارب العلمية والخبرات التقنية.
وهذا يحتاج الى كفاح مرير وطويل تشترك فيه شرائح المجتمع كافة، حيث بامكانها ان تكون، بدلاً من سوق مرحبة للاستهلاك وهدر الاموال، عوامل انتاج وتطوير للاقتصاد المحلّي، من خلال تشيجع المنتج الوطني والتخلّي عن المستورد، مهما كانت الحاجة اليه، ومهما كانت عوامل الجذب. وهذا يصدق حالياً على المواد الغذائية والملبوسات والسلع المنزلية، التي تشكل رقماً هائلاً يستنزف من خزينة العراق ويتحول الى عملة صعبة تذهب الى جيوب اصحاب المصانع في الدول المجاورة والبعيدة.
اضف تعليق