ما كان يميز علم الامام الرضا عن سائر العلوم ورجالاتها، أنه كان علماً خارج الصندوق، فهو ليس من صنوف العلوم النظرية الجامدة تضمها صفحات الكتب، وليست مجرد تجارب واستنتاجات لمسائل نظرية، إنها كانت علوم تهم الانسان في شخصيته الذاتية، وحياته الاجتماعية، فهي تفيده في كل شيء في الحياة الدنيا...

روى عبد السلام بن صالح الهروي عن الإمام الرضا أنه قال: 

"رحم الله عبداً أحيى أمرنا"، فقال: وكيف يُحيي أمركم؟ قال، عليه السلام: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فان الناس لو علموا محاسن علومنا لاتبعونا".

ما الفرق بين العلوم الدينية، والعلوم البشرية –إن جاز التعبير-؟ ولماذا الحكام، على مر التاريخ دعموا العلوم البشرية وقمعوا العلوم الدينية؟

على أعتاب حلول ذكرى مولد الامام علي بن موسى الرضا، عليهما السلام، يجد السؤالان خير مناسبة للبحث عن الجواب، او ربما الاجوبة الشافية، كون المناسبة عن مولد عالم آل محمد، كما سمّاه أباه؛ الامام موسى بن جعفر الكاظم، عليهما السلام.

علم الوعي والثقافة

ما كان يميز علم الامام الرضا عن سائر العلوم ورجالاتها، أنه كان علماً "خارج الصندوق"، كما يُطلق على بعض المناهج الفكرية اليوم، فهو ليس من صنوف العلوم النظرية الجامدة تضمها صفحات الكتب، وليس مجرد تجارب واستنتاجات لمسائل نظرية، ربما ترقى الى الابتكار والاختراع، إنها كانت علوم تهم الانسان في شخصيته الذاتية، وحياته الاجتماعية، فهي تفيده في كل شيء في الحياة الدنيا، وفي الحياة الآخرة ايضاً، وبكلمة؛ إنها علوم تحرك العقل وليس الذهن والدماغ البشري فقط، والعقل هو الذي يرشد الانسان الى الجسم المعدني الهائل الذي جعله يطير في الأعالي، بأن ينقل المسافرين من أماكن بعيدة خلال دقائق وساعات معدودة، لا أن تحمل القنابل وتلقيها على رؤوس الناس وتقتل وتدمر. 

والى هذا كان يدعو الانبياء والمرسلين، وخاتمهم؛ الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، ومن تلك الساعات الأولى للدعوة، بدأت محاربة العلوم التي تثير دفائن العقول، وعندما يعجز جهلة مكة عن مواجهة السيل العلمي الهادر والمدعوم من السماء، كانوا يلجأون الى تهمة السحر، لذا كانوا يوصون الناس بأن يضعوا أصابعهم في آذانهم، ويستغشون ثيابهم حتى لا يروا ولا يسمعوا كلام النبي، ويحدثنا القرآن الكريم عن هذا بالنصّ فيما يتعلق بعديد الانبياء وتجاربهم مع شعوبهم لأن "سيرة الطغاة طول التاريخ كانت محاربة العلم والعلماء، فانهم يعيشون على جهل الشعوب وعدم وعيهم، فاذا وعت الأمم وتثقفت فإنها لا تقبل بهؤلاء الظلمة ولا ترضخ لظلمهم". (من حياة الإمام الرضا،عليه السلام، المرجع الديني السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه-).

و يُعد علم العقائد من العلوم الباهرة والتأسيسية في حياة كل أمة ناهضة، وقد أولى الأئمة المعصومون في سيرة حياتهم مع مجتمعاتهم، هذا العلم أهمية بالغة لأمرين: الأول: حفاظاً على عقيدة الناس من الانحراف والتضليل، لاسيما ما يتعلق بالتوحيد، والمعاد، والعدل، والأمر الثاني: لحفظ العقيدة ذاتها من التأويل والتشويه والوضع بغير ما خلّفه رسول الله، صلى الله عليه وآله.

رجل مسلم من عامة المسلمين استغرق في التشكيك والإنكار لأحكام وقيم الدين، وفي جلسة واحدة مع الامام الرضا، استعاد بصيرته بفضل المحاججة العلمية للإمام، عليه السلام، وفي رواية مطولة نقتطف منها ما يفيد القارئ الكريم، أن هذا الرجل الجاحد دخل على الامام الرضا ذات يوم فقال له، عليه السلام: "إن كان القول قولكم –وليس هو كما تقولون- ألسنا وإياكم شرعاً سواء ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا أقررنا؟ فسكت. ثم قال له أبوالحسن الرضا: وإن يكن القول قولنا، وهو كما نقول، ألستم قد هلكتم ونجونا؟ فقال الرجل: رحمك الله، فأوجدني كيف هو؟ وأين هو؟ فأجاب الإمام: ويلك! إن الذي ذهبت به غلط، وهو أيّن الأين، وكان ولا أين، وكيّف الكيف، وكان لا كيف، لا يعرف بكيفوفته ولا بأينونية، ولا يُدرك بحاسة ولا يقاس بشيء، فقال الرجل: فإذن انه لا شيء، إذ لم يُدرك بحاسة من الحواس؟ أجابه الإمام: ويلك! لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن اذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنا أنه ربنا، وأنه شيء بخلاف الاشياء".

وفي شطر آخر من الرواية سأل الرجل الإمام الرضا، لماذا يحتجب الله عن عباده؟ فأجابه، عليه السلام: "إن الحجاب عن الخلق لكثرة ذنوبهم، فأما هو فلا يخفى عليه خلقه في آناء الليل والنهار، فسأله: فلم لا تدركه الابصار؟ قال، عليه السلام: للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الابصار، منهم ومن غيرهم، ثم هو أجلّ من أن يدركه بصر، او يحيط به وهم، أو يضبطه عقل، قال فحدّه لي: قال، عليه السلام: لا حدّ له، قال: ولِمَ؟ قال، عليه السلام: لأن كل محدود متناهٍ الى حدّ، واذا احتمل التحديد، احتمل الزيادة، واذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متناقص، ولا متجزئ ولا متوهم".

المأمون يستنجد بالفكر اليوناني والفارسي

إنها لحقيقة يُقرها كلّ ذي لُبّ، وهي؛ أن العلم لا ينكره إلا غير العالم، لأن حقائق العلم واحدة وثابتة للوجدان البشري، مثل؛ الجاذبية، وتمدد الحديد بالحرارة، ونتائج جدول الضرب، كما بشّر القرآن الكريم بحقائق علمية أخرى نورت الانسان بذاته، وبالحياة التي يعيشها، وأنه يولد ولا يحمل معه سوى الفطرة السليمة، ثم يكتسب العلوم والمعارف، ويعيش الى أجلٍ مسمّى، وأن الظلم لا يدوم، وأن العاقبة للمتقين، هذه الحقائق تقف بالضدّ من طموحات التسلّط عند شخص مثل المأمون المعاصر للإمام الرضا، عليه السلام، استقدمه من المدينة عنوةً لفرض سيطرته عليه، كما فعل أبوه هارون مع الامام الكاظم، فهذا استقدم الامام الكاظم الى بغداد، وذاك، استقدم الامام الرضا الى خراسان، متبعاً سياسة جديدة بخلاف سياسة أسلافه بالتنكيل والقمع ضد أئمة الحق، فاستنجد بالفكر الاجنبي لمواجهة علوم الاسلام، لسبب بسيط واحد، من جملة أسباب؛ أن هذه العلوم تبعث في المسلمين روح النهضة، والتحدي، والتغيير، والمطالبة بالعدل والحرية والمواساة التي بشّر بها الاسلام المحمدي الأصيل.

ويذكر المؤرخون أن المأمون الذي كان قريباً من الثقافة الفارسية القديمة، فرأى في الافكار التبريرية لملوك فارس البائدين، والقائمة على تخدير الناس وتمييعهم، خير وسيلة لنشر ثقافة الصمت أمام القوي، والطاعة للحاكم مقابل المال والغذاء، وأن "الله في السماء والشاهنشاه –ملك الملوك- في الأرض، ولا يعلم بمصلحة العباد والبلاد سوى الملوك"!

ثم لا ننسى حقيقة هامة في هذا السياق، أنه المأمون وسائر الحكام العباسيين، بل والأمويين ايضاً، سببوا من خلال سياساتهم الاجرامية والجائرة، نفور المسلمين عن دينهم وعقيدتهم، لاسيما في صفوف الموالي (المسلمون من غير العرب)، ورسم صورة مشوهة للإسلام وقيمه ومبادئه التي أرسى دعائمها رسول الله، ومن بعده أمير المؤمنين، ولتكون الأرضية صالحة لنشر تلكم الثقافات والافكار بين المسلمين، ليكون نداً للفكر الأسلامي الأصيل "عن طريق تطعيم الافكار والعقائد الاسلامية وعلم الكلام الاسلامي بأفكار أرسطو، وأفلاطون، وغيرهما، فكان أشبه بالانظمة التي ترتدي لباس الاسلام، و تسوّق الخمور ثم تعاقب من يتناوله، أو تقطع يد السارق الذي تدفعه سياسات التمييز والاحجاف لأن يسرق لسدّ رمقه". (التاريخ الاسلامي- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).

وينقل العلامة المجلس في بحاره: أن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى طلب منهم خزانة كتب اليونان، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فاستشار الملك خواصه في هذا، فقالوا بالرفض، إلا مطران واحد قال: جهزها اليهم، فهذه العلوم ما دخلت على دولة شرعية إلا افسدتها، وأوقعت الاختلاف بين علمائها".

وهذا ما أراده المأمون العباسي؛ نشر روح التشكيك في نفوس المسلمين بدعوى استجلاء الآراء الاخرى، وعدم الركون الى رأي واحد، او كما يُطلق عليه اليوم بـ "التطرّف"، وهو مصطلح انطلق بمفهومه من ذاك الزمان لمغالطة المنهج الاسلامي في التفكير والوصول الى الحقائق، ومن ثمّ؛ لا يقين، ولا ثبات، ولا التزام بفكرة او حقيقة علمية معينة، كل شيء خاضع للتغيير والتحوّل، وهذا الاسلوب "التمييعي" هو الذي يحيد الناس عن التفكير في ظلم الحاكم و جوره وسياساته الفاشلة، بدعوى أن الاسباب والعلل ليست فيه، وإنما في أمور اخرى، ويبقى الناس في دوامة البحث عن الحلول الى ما لانهاية.

اضف تعليق