تبنينا للّعن، يحمّلنا مسؤولية نشر الثقافة الاسلامية التي من أجلها ضحى الامام الحسين وأهله بيته وأصحابه بأنفسهم، وضحى الأئمة المعصومون والأولياء الصالحون من أجل نشرها وإحيائها على مر الأجيال، فهي أكثر من رد فعل عاطفي، او تفريغ شحنات الغضب في مناسبات مختلفة...
عرفت للمعارك الكلامية ساحاتها منذ أمد بعيد بما للكلام من تأثير في النفوس يخترق الخطوط الدفاعية والخلفية، ويضرب في عمق المعنويات وما يستند عليه الطرف المقابل لخوض المواجهة، و أول تجربة لهذا النوع من المعارك، كانت ساحتها؛ جبهتي الرسالات الإلهية، والأقوام المتمردة على الحق، وعلى رسالات الانبياء والمرسلين على مر التاريخ البشري، وأول كلمة استخدمت لمواجهة رسالات التغيير؛ السحر، لوضع حاجز نفسي بين الانبياء و ابناء المجتمع آنذاك لئلا تتحول المعاجز الى طريق للإيمان يخترق القلوب فيظهر دين الله على الدين كله.
بالمقابل؛ يحدثنا القرآن الكريم عن تجارب الانبياء مع التكذيب والتسقيط من قبل الفئة المتمردة، وايضاً من قبل السلطات الحاكمة آنذاك، ولعل أبرزهم فرعون مصر الذي جعله القرآن في آيات وسور عديدة، ايقونة للظلم والطغيان، وايضاً؛ ايقونة للهزيمة أمام منطق الحق والعقل، فكان الجواب بما هو أمضى من التكذيب والتسقيط والاتهام بالسحر، بإطلاق حكم اللعن على مثل هؤلاء، كما جاء في سورة هود وهي تتحدث عن عاقبة قوم فرعون بعد تصديهم لرسالة نبي الله موسى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ}، بمعنى أن اللعنة ليست في الآخرة على شكل العذاب، وإنما في الدنيا ايضاً بما يجعلهم نموذجاً مذموماً يتحاشاه الانسان على مر الزمن، ولمن يراجع القرآن الكريم يجد آيات عديدة مماثلة أطلقت فيها رصاصة اللعنة على أقوام وقفوا بوجه مسيرة الحق والفضيلة بأن {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}.
فائدة اللعن
عندما نعرف أن اللعن لغوياً هو الإبعاد أو الطرد عن الرحمة الإلهية، يعني أنها مفردة خاصة بالذات الإلهية في جانبها العملي، والمضطهدين عندما لا يجدون ما يدافعون به عن انفسهم أمام بطش الطغاة والظلمة، فانهم يطلقون باتجاههم اللعنات، بأن "لعنة الله عليكم"! فهم يطلبون من الله طرد هؤلاء من رحمته وإنزال العذاب بهم، بما يبعد اللعن عن معنى "السبّ"، كما يتوهم البعض، وهي الصادرة من الانسان دائماً.
ومادامت المسألة متصلة بالسماء، فهذا يعني أننا أمام فرص لاستثمار هذه الوسيلة النافذة لتحقيق الغلبة على جبهة الباطل، وتحويل الضعف الى قوة من خلال البحث في فلسفة اللعن بالاساس، وما الذي يربطنا نحن كأصحاب قضايا كبرى في الحياة، بهذه المفردة الحساسة والعجيبة.
ثمة ثلاث اسباب يجعل اللعن ذا جدوى في ساحة المواجهة نقتبسها من كتاب؛ بحوث في العقيدة والسلوك، لمؤلفه؛ سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي:
السبب الأول:
"لإيجاد حاجز حديدي بين الجبهتين، وإلا غزت جيوش الظلام جحافل النور"، ويستشهد سماحة المؤلف برواية عن الامام الصادق في إطار التثقيف على قيم النهضة الحسينية، ومنها لعن من تسبب بعطش الإمام الحسين وأهل بيته، والحثّ على هذا اللعن بثواب جزيل يوم القيامة "من شرب الماء وذكر الحسين، عليه السلام، ولعن قاتليه، إلا كتب الله له مائة ألف حسنة".
وهذا يعني أن تبنينا للّعن، يحمّلنا مسؤولية نشر الثقافة الاسلامية التي من أجلها ضحى الامام الحسين وأهله بيته وأصحابه بأنفسهم، وضحى الأئمة المعصومون والأولياء الصالحون من أجل نشرها وإحيائها على مر الأجيال، فهي أكثر من رد فعل عاطفي، او تفريغ شحنات الغضب في مناسبات مختلفة.
السبب الثاني:
عندما ندعو الى إزاحة الطغاة والمستبدين والفاسدين من الساحة، لابد لنا من إيجاد البديل الصالح عنهم، "فإن إبعاد هؤلاء الأشرار من جهة، وإحلال الأخيار مكانهم من جهة ثانية، هما المزيج الذي لابد منه لكي {ليُظهِرَهُ على الدِينِ كُلّه}"، ويتحقق الوعد الإلهي بإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وانتصار المستضعفين وعودة الحقوق السليبة على أهلها.
ولا يقتصر الأمر على الاشخاص، بل وتشمل المناهج والظواهر في الاقتصاد والاجتماع، "فاللازم أن يتنحّى المنهج الاقتصادي السيئ، ويوضع محله منهج اقتصادي اسلامي سليم".
السبب الثالث:
أن يتحول اللعن الى طاقة تحرك ابناء الأمة نحو العمل لتغيير الواقع الفاسد، وإلا فان "فلسفة اللعن لا تحرك الانسان بمفردها، لأن الانسان بطبعه لا تُحركه الفلسفة كونها جامدة، والجامد لا يحرك الانسان، إنما الانسان تحركه العواطف السليمة من جهة، ويُحركه الثواب، ويردعه العقاب من جهة اخرى"، علماً أن علماء الدين متفقون على المعادلة المستخرجة من مفهوم التبري والتولّي، بأن اللعن شعار لمحاربة الظلام والظلم، ولايمكن إحلال الحق، والنور، والسلام، وكل المفاهيم والقيم الايجابية إلا بمحاربة كل ما يتعلق بالمفاهيم السلبية وإزاحتها عن الطريق، بيد أن التبري من أعداء الله وأعداء رسوله وأوليائه الصالحين، يفترض وجود استعداد كامل لتوليهم والانتماء الى صفوفهم والالتزام بمنهجهم في الحياة.
لمن تتوفر فيه الشروط الخاصة
صحيح أننا نلعن قتلة الامام الحسين، عليه السلام، في زيارة عاشوراء، وليس الاشخاص المباشرين بالقتل في ساحة المعركة فقط، وإنما من "ألجم، وأسرج، وتهيأ" من عامة الناس في الكوفة آنذاك لتوثيق الصلة الايمانية بالقضية الحسينية، كما نحن نلعن قتلة أمير المؤمنين في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، ضمن أعمال هذه الليلة الاولى من ليالي القدر، ونلعن من تسبب في استشهاد الصديقة الزهراء، وسائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، بيد أن مفهوم اللعن في أبعاده وآثاره الواسعة يتطلب شروطاً من اشخاص معينين، والآية الكريمة تؤكد هذا: {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ}، فهؤلاء الاشخاص "خالصون مُخلِصون، ولله مطيعون، أولئك الذين يتأسون بالله –تعالى- وبرسوله، فيلعنون كما لعن الله و رسوله والأئمة الاطهار، عليهم السلام".
وفي رواية يستشهد بها سماحة السيد مرتضى الشيرازي في هذا السياق بأن رسول الله، صلى الله عليه وآله، رأى جماعة نصبوا دجاجة حيّة، وثبتوها في الجدار بمسامير ليرشقوها بالسهام! فكان الموقف الحازم والسريع منه، صلى الله عليه وآله: بأن "ما لهم لعنهم الله".
إن لعن الظالمين ممن هم في مزابل التاريخ، او لعن الحكام الفاسدين والظلمة في الوقت الحاضر لن يغيّر من الواقع السيئ والفاسد أي شيء اذا لم يصحبه تحرك جادّ وتحمل شجاع للمسؤولية لايجاد البديل الصالح والحضاري للأمة بما يجعل اللعن صفعة قوية تطيح بأكبر رأس في السلطة.
في سوح المواجهة بين جبهتين متضادتين، يتخيّر الطرفان أشد الأسلحة فتكاً وأكثرها تأثيراً في الجانب المادي والمعنوي لتحقيق الغلبة.
اضف تعليق