اقتصاداتنا على أعتاب انقلاب عظيم في وقت حيث أصبحت الحاجة إلى كوكب صالح للسكنى وموفور الصحة أمرا لا مفر منه. إن تجاهل أو حتى إنكار الواقع الاقتصادي الذي تفرضه حالة الطوارئ البيئية الحالية سيكون أشبه بالتعامي عن اعتماد الأنشطة البشرية الوثيق على بيئة مستقرة ومواتية. العمل مع الطبيعة...
بقلم: رومان تروبلي
باريس ــ في سبعينيات القرن العشرين، أصبحت مشكلة التلوث البحري بالمخلفات البلاستيكية ظاهرة بوضوح لأول مرة. وخلال نصف القرن الذي مضى منذ ذلك الحين، أصبحت المشكلة متزايدة الانتشار، كما أثبتت البعثات العلمية التي أدارتها مؤسسة تارا للمحيطات " Tara Ocean Foundation" (التي أشغل منصب مديرها التنفيذي).
تتمثل الأعراض الأشد وضوحا في قطع الحطام الضخمة، مثل شباك الصيد، وآثارها الكارثية على الحياة البحرية. تشير التقديرات إلى أن هذه النفايات تقتل أكثر من مليون طائر بحري وأكثر من 100 ألف من الثدييات البحرية سنويا، غالبا بسبب التشابك أو الاختناق، كما أنها تعزز نقل الأنواع الغازية، على نحو يؤدي إلى إشعال شرارة تأثير متتال يهدد النظم البيئية التي تضطلع فيها بدور محوري.
قد تكون المواد البلاستيكية الدقيقة أقل وضوحا، لكنها أكثر انتشارا، حيث يُـعثَـر عليها في أعمق أخاديد المحيطات وأنواع الحياة البحرية كافة. من الممكن أن تعمل المواد البلاستيكية الدقيقة، بين أمور أخرى، على تعديل المجتمعات البكتيرية والفيروسية ونشر سموم كيميائية في السلاسل الغذائية (غالبا بعد أن تبتلعها الكائنات البحرية). بعض هذه السموم، مثل الفثالات، ترتبط بكيمياء المواد البلاستيكية، في حين يمتص البلاستيك بعضها الآخر، مثل المبيدات الحشرية والمعادن الثقيلة، قبل أن تصل إلى المحيط وتدخل السلسلة الغذائية.
خضعت الكيفية التي تتفاعل بها هذه المواد السامة مع البلاستيك لكثير من الدراسات. يتألف البلاستيك من مونومرات (أحاديات القسيمة) جرى ربطها كيميائيا لتكوين سلاسل طويلة من البوليمرات ــ الإيثيلين، والستايرين، والبروبيلين لتصبح بولي إيثيلين، وبولي ستيرين، وبولي بروبيلين. لكن عملية البلمرة تكون غير كاملة غالبا، وتشكل بعض المونومرات غير المتبلمرة التي تبقى في البلاستيك، مثل الأنواع المختلفة من الستايرين وثنائي الفينول، مخاطر بيئية وصحية كبرى.
علاوة على ذلك، تُـدمَج إضافات كيميائية أخرى، بما في ذلك الملدنات، والمواد المالئة، والملونات، ومثبطات اللهب، ومضادات الأكسدة، في تركيبات البوليمر لتعديل خواصها. وترتبط مواد مضافة على نحو غير مقصود (NIAS) ــ شوائب، ومواد خام مستخدمة في التصنيع، والمنتجات الثانوية، ونواتج التحلل ــ بالبلاستيك النهائي.
في معظم الحالات، ولأن المونومرات الحرة، والمواد المضافة، والمواد المضافة على نحو غير مقصود، تكون عالقة ببساطة داخل سلاسل البوليمر المتشابكة، بدلا من أن ترتبط بها كيميائيا، فمن المرجح أن تتسرب أثناء إنتاج البلاستيك واستخدامه والتخلص منه، فتنتقل إلى السوائل، والغازات، والمواد الصلبة. حتى وقتنا هذا، جرى تحديد 16 ألفا من هذه الجزيئات، لكن التأثيرات التي تخلفها لا تزال غير معروفة بالكامل، وكذا سميتها، والتي قد تتغير اعتمادا على كيفية دمجها. ما نعرفه هو أن ربع الجزيئات المعروفة تشكل خطرا على صحة الإنسان أو البيئة من خلال تعطيل العمليات الكيميائية الحيوية في الكائنات الحية.
إن وقف تدفق الجزيئات البلاستيكية الدقيقة والملوثات السامة إلى المسطحات المائية في العالم مهمة شاقة. ومع ذلك، يحاول العلماء القضاء على هذه المشكلة. على سبيل المثال، أمضت بعثة تارا يوروبا (Tara Europa)، بالتنسيق مع مختبر البيولوجيا الجزيئية الأوروبي وأكثر من سبعين مؤسسة علمية في القارة، العامين الماضيين في التحقيق في الكيفية التي تشق بها هذه المواد الخطرة طريقها إلى البحار والمحيطات المتاخمة لأوروبا. وتعتزم البعثة مشاركة النتائج التي توصلت إليها قريبا.
لكن توليد النفايات السامة والحطام ليس الطريقة الوحيدة التي قد يلحق بها البلاستيك الضرر بصحة المحيطات. كانت صناعة البلاستيك محركا رئيسيا لتغير المناخ، حيث تمثل ما يقدر بنحو 3.4% من غازات الانحباس الحراري على مستوى العالم. وقد أصبح إنتاج البلاستيك على المسار إلى المساهمة في 15% من الانبعاثات من غازات الانحباس الحراري بحلول عام 2050، لتتفاقم ظاهرة الانحباس الحراري الكوكبي وبالتالي تتزايد المخاطر التي تهدد الحياة البحرية، الحساسة لارتفاع درجات حرارة المياه.
لأن البلاستيك يتسبب في تدهور المحيط الحيوي بأكمله، وليس المحيط البحري فحسب، فإن المشكلة ليست مشكلة نفايات يمكن حلها من خلال جهود إعادة التدوير التي يبذلها عدد قليل من المواطنين المهتمين بالاستدامة. إنها أزمة جهازية تتطلب حلا على مستوى الاقتصاد بالكامل. وهنا يتمثل نهج أفضل في فهم البلاستيك على أنه أحد "الكيانات الجديدة" التي يجوز لها أن تتسرب إلى البيئة، وهي وجهة النظر التي صيغت في مستهل الأمر في مركز ستوكهولم للمرونة (Stockholm Resilience Centre) في عمله حول الحدود الكوكبية، ثم أقرتها الأمم المتحدة في وقت لاحق. ومع التسليم باستحالة تحديد عتبة دقيقة للضرر، فإن هذا النهج يسلط الضوء على الحاجة إلى الحد بشكل كبير من استخدام البلاستيك.
تشير الأبحاث إلى أن خفض الإنتاج العالمي من البلاستيك إلى النصف، بتكلفة يكاد يكون من المؤكد أنها أقل من تكلفة التقاعس عن العمل، سيكون مجديا على المستوى الاقتصادي. ولكن، وفقا لدراسة حديثة أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، لن يكون حتى هذا الخفض كافيا للحد من الانحباس الحراري الكوكبي بما لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وهو الهدف الذي حددته اتفاقية باريس للمناخ. بدلا من ذلك، وجدوا أن تحقيق هذا الهدف يتطلب تخفيض إنتاج البلاستيك بنسبة 75% مقارنة بعام 2015، عندما أُقِـرَّت الاتفاقية.
تتطلب معالجة هذه الأزمة العالمية بالسرعة اللازمة حشد الاستثمارات والدعم للحد من إنتاج المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، وزيادة عمر الأشياء البلاستيكية من خلال التنظيم، وتشجيع إعادة الاستخدام والقابلية للإصلاح. في حين قد يكون من المغري الارتكان إلى حلول قصيرة الأجل، مثل الاستعاضة عن العبوات البلاستيكية بمواد أخرى يمكن التخلص منها مثل الورق، والكرتون، والألمنيوم، والصلب، والزجاج، فإن الهدف لا يجب أن يكون مجرد تخفيف أعراض المرض الأساسي.
إن اقتصاداتنا على أعتاب انقلاب عظيم في وقت حيث أصبحت الحاجة إلى كوكب صالح للسكنى وموفور الصحة أمرا لا مفر منه. إن تجاهل أو حتى إنكار الواقع الاقتصادي الذي تفرضه حالة الطوارئ البيئية الحالية سيكون أشبه بالتعامي عن اعتماد الأنشطة البشرية الوثيق على بيئة مستقرة ومواتية. الواقع أن العمل مع الطبيعة وليس ضدها يتطلب نقلة نوعية، وهذه النقلة تبدأ بالمواد البلاستيكية.
اضف تعليق