لم تكن الثورة الليبية مقدمة للإنتقال السياسي في ليبيا بقدر أنها تمثل عملية ترتيب شاملة خضعت لها المنطقة العربية ونظامها القائم على التوازن الهش، إذ كانت مقدمات التغيير في ليبيا قائمة على أساس تنامي الصراعات الداخلية والتي أصبحت نهاياتها مقلقة وغير معروفة بسبب إرتباطها بالمعطى العسكري والحرب بين الجماعات الإجتماعية، خصوصاً وأن الناتو الذي ساهم بشكل أساسي في إسقاط نظام القذافي لم يضع حلولاً مناسبة تحكم منطق المصالح السياسية المتعارضة كما فعلت في العراق وأفغانستان، مما جعل حاكمية المصالح اللامتجانسة هي التي تفرض حكمها على العلاقات الإجتماعية والسياسية في ليبيا بعد القذافي.
الحوار الوطني وتأجيل المصالح المتصارعة
إن إنعدام الثقة بين الجماعات الإجتماعية وضعف قدرة مؤسسات الدولة الشرعية في تقديم الحلول السياسية لتقاسم المصالح أدى إلى تزايد حدة الصراع بين مختلف الجماعات خصوصاً بعد أن إمتدت بعض الجماعات المتطرفة فكرياً إلى منطقة الصراع وإجبار الأطراف الإسلامية على البيعة لخليفة داعش، ووفقاً لذلك بدأت القوى السياسية بمحاولة ترميم السلم الأهلي الذي فقدته بسبب الصراع السياسي، الذي طال تأثيره معظم قدرات الدولة وشل قدرتها على إدارة مقتربات التفاهم والحوار المشترك.
ويقوم الحوار الوطني على محاولة تفتيت الخلافات السياسية وصياغة أنماط جديدة من السلوك تستهدف الإستقرار بشكل أساسي في حكم العلاقة بين الأطراف المتخاصمة، إذ يرى بهذا الجانب ممثل الأمين العام للأمم المتحدة للدعم في ليبيا طارق متري إن مبادرة الحوار الوطني تقوم على توفير الدعم لعمل الحكومة والمؤتمر الوطني العام ورفده بالتوافق السياسي للمصالح، وهذا من شأنه أن يمكن الأطراف المشاركة على إقدام التنوع الفكري وإحترامه والقبول به للمشاركة التعددية في توجيه أو إدارة السلطة.
إن إدارة الخلافات بالحوار حسب مبادرة الحوار الوطني تمثل حالة أو مرحلة من الوعي في التفكير السياسي، الذي أنتجته الرغبة في محاكاة قواعد الإستقرار والإنسجام السياسي، فضلاً عن إمكانية إعتباره مقدمة لإدارة التوافق السياسي والتي ستنشأ وفقا لقاعدة الإتفاق والتفاهم.
المبادرة الوطنية وخيارات المصالحة
تقوم المبادرة الوطنية للحوار في ليبيا على إمكانية إيجاد أجواء تهدف إلى تحقيق حوار وطني شامل ترتكز موضوعاته على الشأن العام، فضلاً عن أن أبرز أطرافه في التنسيق ستكون الحكومة والأمم المتحدة.
وفي ضوء التفاعلات والتهديدات التي تتعرض إليها ليبيا لاسيما بعد تمدد تنظيم داعش إليها، أصبحت هناك ضرورة لدى القوى السياسية في الإتصال بالمجتمع الدولي ضعيفة للغاية، وهذا مايمثل أحد مبررات الحوار الوطني، إذ يسود الدبلوماسيين قلق كبير في إمكانية البقاء لتمثيل دولهم فيها، خصوصاً وأن الأطراف المتصارعة وصلت إلى مرحلة اللاإتفاق بهذا الشأن. وبالتالي فإن صعوبة التعامل أو حماية المصالح في ظل هذه الأجواء تبدو في غاية التعقيد، لاسيما وغياب المحفزات الخاصة بالإستقرار السياسي.
ووفقاً لذلك بدأت محاولة الأطراف في ترتيب البيت السياسي الليبي ومحاولة طمأنة الوسط الدبلوماسي العالمي بإمكانية الإستمرار ودعم جهود ليبيا في هذا الجانب، الأمر الذي دفع بالحكومة وبعثة الأمم المتحدة إلى تبني هذه المبادرة، والتي تركز على جملة من القضايا وفي مقدمتها بناء الدولة والدستور والمصالحة الوطنية والتي من الممكن أن تنقل الوضع في ليبيا إلى معادلة سياسية جديدة.
المشاركة أساس الشرعية
تقوم المبادرة الوطنية للحوار الليبي على مبدئيين أساسيين: الأول يرتكز على المكاشفة بإعتبارها الركن الرئيسي لبناء الثقة المفقودة في ليبيا، إذ أن طبيعة النوايا التي تتحكم بالفعل السياسي جعلت إمكانية التفاوض والتفاهم بين القوى السياسية المتصارعة صعبة للغاية. أما المبدأ الثاني فهو يرتكز على المشاركة بإعتبارها أساس الشرعية للعمل السياسي، فالمشاركة تمكن مختلف القوى من التصدي وتفتح الباب للتفاقم وتقاسم الصلاحيات الحكومية.
وعلى الرغم من أن المشكلة الأساسية في الوضع الليبي هي تقبل هذه المبادرة من رفضها إلا أنها فتحت باب الحوار بين القوى التي خاضت الحرب فيما بينها لأجل السلطة، فإستمرار الحرب بين هذه الأطراف لسنتين قد يعزز خيارات القبول بالوضع واللجوء إلى التقسيم كما ذهب معظم الإحتمالات التي طرحتها مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية.
إن توظيف الحوار لإدارة قضايا الصراع داخل ليبيا قد يشكل أنموذج إستجابة للوعي الشعبي الرافض لهذه القوى والتي بدأت تتبناها حركات شبابية تهدف إلى معالجة مشكلة ليبيا بطريقة أكثر توافقاً من خلال تبني إسلوب الشراكة بدلاً من المواجهة العسكرية.
الحوار الليبي بين الممكنات والفشل
لم تحقق نتائج الإنتخابات التي جرت في عام 2014 قبولا سياسيا من جميع الأطراف المشاركة لاسيما ما يخص الإسلاميين، الذين لم يعترفوا بنتائج الإنتخابات ومنعوا من منع تشكيل الحكومة، فضلاً عن ضغط التهديد، وتشكيل حكومة خاصة بهم بعيداً عن أسس الشرعية الإنتخابية.
وإلى جانب ذلك فإن التحالفات السياسية الهشة بين المشاركين في الإنتخابات متناقضة من حيث الإدراك السياسي لمستقبل ليبيا، فحتى الحلفاء هم ليسوا على مستوى كاف من التجانس بهذا الجانب، لاسيما ما يخص العلاقة بين محاور الأقطاب السياسية كالتحالف بين جماعة حفتر والفدراليين، أو التحالف بين مصراته والمليشيات في طرابلس.
إن هذا اللاتجانس هو مدعاة للقلق بشأن إمكانية التوافق، فالمقدمات الفكرية والعقيدة التي تحكم المصالح في غاية التعقيد، الأمر الذي قد لايحقق مصالحة سياسية كافية لتجاوز المرحلة الإنتقالية التي تعج بالتناقضات.
إن إمكانية تحقيق الحوار الوطني سوف يخضع لطبيعة الوظيفة الإقليمية التي ستكون عليها ليبيا في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد تطبيق فكرة تنظيم داعش على نقل جرافيا الدولة الإسلامية إليها بعد أن تلقت ضربات موجعة في العراق وسوريا، الأمر الذي سيزيد من تعقيدات المشهد السياسي والأمني في ليبيا.
ومع ذلك تبقى جميع الإحتمالات السياسية في ليبيا ممكنة فالقلق من سيادة تنظيم داعش على المشهد قد يعجل بالحوار الوطني والقبول بخيارات الأمم المتحدة والحكومة والذي تبدو ملامحه مع بداية التفاهم السياسي والقبول بالتفاوض، الأمر الذي قد يجعل ليبيا أمام فرصة جديدة لتوزيع الأدوار السياسية بين مختلف القوى لأجل الوقوف بوجه طموحات تنظيم داعش القريبة منها، علاوةً على المساعي الدولية التي تهدف إلى دعم جهود الأمم المتحدة الهادفة إلى صياغة مسارات جديدة للأداء السياسي وبناء دولة دستورية في ليبيا.
اضف تعليق