لعبة تنصيب الدكتاتور وتمكينه وعائلته من التسلط والاضطهاد قديمة، لكن تطبيقاتها مستمرة في أنحاء العالم ولمنطقتنا النصيب الأوفر منها. يقول جون بيركنز مؤلف كتاب "الاغتيال الاقتصادي للأمم" إن ما نفعله هو تنصيب شخص على حكم البلد الذي نريد منه مصالح اقتصادية وسياسية...
لعبة تنصيب الدكتاتور وتمكينه وعائلته من التسلط والاضطهاد قديمة، لكن تطبيقاتها مستمرة في أنحاء العالم ولمنطقتنا النصيب الأوفر منها. يقول جون بيركنز مؤلف كتاب "الاغتيال الاقتصادي للأمم" إن ما نفعله هو تنصيب شخص على حكم البلد الذي نريد منه مصالح اقتصادية وسياسية، ونمكّن عائلته وأقرباءه من الهيمنة على أجهزة الدولة والمشاريع الاقتصادية وبعدها نبدأ بفرض شروطنا، نبلغه إننا غير مسؤولين عن حياته فيما لو تعرض لأي خطر وهو يفهم الرسالة.
يستمر الدكتاتور بتنفيذ ما يطلب منه من استنزاف لموارد البلاد، عبر امتيازات وتنازلات أو إقحامه في حروب للكبار فيها مصالح، ويتعاظم نفوذ الدكتاتور ويزداد بطشه لدرجة خنق المجتمع بالفقر وتكميم الافواه. يستمر الوضع على هذا المنوال، حتى ينتهي دوره ويصبح تماديه في الدكتاتورية عبئاً على داعميه، وربما يتمرد عليهم بعد أن يتصور أنه أصبح من القوة ما يحصنه من الاسقاط.
هنا تجري عملية الاسقاط بطرق شتى، بعدما يكون الشعب قد وصل مرحلة الانهيار والاستعداد للترحيب بأي تغيير قادم دون التفكير بطبيعته أو خطره على البلاد. المهم أن يتخلصوا من بطش الديكتاتور وسرقة عائلته وعشيرته للقمة عيشهم، وحريتهم، ولا يمكن لأحد القاء اللوم على هؤلاء.
هذا ما حدث كثيراً في أنحاء مختلفة من العالم، وفي منطقتنا العربية شهدنا نموذج صدام حسين، وبعده زين العابدين بن علي ثم القذافي وصولا الى بشار الأسد. يسقط الديكتاتور فتعم الفوضى وتنفتح الساحة أمام التدخلات الخارجية، ويذهب ما تبقى من السيادة من العهد السابق أدراج الرياح. بعض الدول مثل مصر، أخذ الجيش فيها زمام المبادرة وأعاد ضبط الأمور فيما سوريا اليوم بلا جيش ولا سلاح.
ما يحدث في سوريا بعد أيام من هروب الأسد وسقوط نظامه أمر عصي على التصديق. صحيح أن الفوضى الداخلية لم تحدث، على الأقل حتى الآن، إلّا أن سوريا تحولت خلال أيام الى بلد منزوع القوة العسكرية تماما، بعد مئات الغارات الإسرائيلية التي دمرت معسكرات ومعدات، بما فيها الطائرات العسكرية المقاتلة وغيرها. لم يكتف الكيان بهذا، بل توغلت قواته داخل الأراضي السورية، واحتلت مناطق استراتيجية وقرى بعدما شردت أهلها، ووصلت الى مشارف العاصمة دمشق.
كل هذا يجري دون أن نسمع موقفا أو نلاحظ تحركا من السلطة الجديدة سوى قولهم إننا "لسنا في وارد الصدام الآن". أما الدول العربية فلم تتحرك أبدا- باستثناء ادانة كلامية من الجامعة العربية- وكأنها مرحبة بما يجري من تغيير لخارطة القوى في المنطقة، التي لن يكون للساكت فيها نصيب سوى التبعية لسيد "الشرق الأوسط الجديد" الكيان الصهيوني.
واضح أن نتنياهو وبمساعدة من إدارة بايدن يحاول أن يفرض واقعاً جديداً في المنطقة، قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني القادم. حينذاك ستبدأ عملية التطبيع الشاملة التي وعد بها بايدن وغريمه ترامب أيضا، وهي الممهد للشرق الأوسط الجديد، الذي يبشر به نتنياهو والذي يعني هيمنة إسرائيلية على المنطقة، ليس بالاحتلال المباشر- على الأقل في هذه المرحلة من المشروع- إنما السعي الى تحقيق ما أمكن من إسرائيل التوراتية المزعومة، التي تضم عددا من دول المنطقة أو أجزاء منها، وإخضاع الباقي لنفوذها وسياساتها بشتى الطرق، بعد أن تخلصت إسرائيل – أو هكذا تتصور- من معرقلات التطبيع، وعلى رأسها وجود محور المقاومة.
واضح أن سوريا ستكون الخطوة الأولى في هذا المشروع. وليس واضحا ما إذا كانت هذه المحطة ستنجح بعد أن تنتهي سَكْرة التخلص من الدكتاتورية، وتتضح للسوريين ملامح العبودية الجديدة للهيمنة الإسرائيلية. لن تتضح بعد صورة الوضع السوري الداخلي ومدى تأثيره على المنطقة، وتحديدا مستقبل العلاقة بين منطقتي النفوذ الأميركي (منطقة قسد) والتركي التي وصلت الى العاصمة بعد هروب الأسد، وكذلك ووضع عناصر داعش وهم بعشرات الآلاف الموجودين في سجون قسد ومناطق سيطرة خارجة عنها، وسط أحاديث عن احتمال إعادة استخدام هؤلاء للضغط على الوضع الداخلي السوري أو دول مجاورة كالعراق، وهي مقولات، ومعها تحذيرات، تكفي لتبرير عدم انسحاب القوات الأميركية من العراق.
اضف تعليق