هذه المدة التي تمر على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين فإنها لعدم اتحاد المسلمين، ففي كل ليلة وعندما تستمع إلى نشرات الأخبار تجد أن أكثر البلدان العربية والإسلامية منشغلة بالنزاعات التافهة والمعارك الكلامية فيما بينها، يلقي بعضهم باللوم على البعض الآخر، من دون أن يخطو الخطوات اللازمة والحقيقية لإرجاع حق...
من سلبيات عدم التعاون والعمل الجاد هو سيطرة الأعداء على الأمة، وأوضح مصداق لذلك القضية الفلسطينية.
إن المسلمين والعرب لو اتفقوا وتراصوا مع بعضهم البعض واتحدوا، وعملوا بإخلاص لأجل تحرير فلسطين من اليهود والصهاينة، فإن إسرائيل لا يمكن لها أن تبقى حتى فترة قصيرة في الوجود.
أما هذه المدة التي تمر على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين فإنها لعدم اتحاد المسلمين، ففي كل ليلة وعندما تستمع إلى نشرات الأخبار تجد أن أكثر البلدان العربية والإسلامية منشغلة بالنزاعات التافهة والمعارك الكلامية فيما بينها، يلقي بعضهم باللوم على البعض الآخر، من دون أن يخطو الخطوات اللازمة والحقيقية لإرجاع حق المسلمين في فلسطين، بل إن البعض إتجه بصورة مباشرة ليتفق مع إسرائيل(1)، والبعض الآخر يقدّم أفضل الخدمات لها بممارساته الظلم والاستبداد بالنسبة إلى الشعوب الإسلامية وقمع الكفاءات فيها مما يوجه الضربات القاسية على المسلمين وينهك قواهم.
هذا ولا يخفى أن الإسلام كان أول من حذّر العرب والمسلمين قبل أربعة عشر قرناً من الزمان من الخطر اليهودي، وأول من تحدث عن بغضهم وحقدهم لكلّ ما يمت إلى الإسلام بصلة، حيث قال تبارك تعالى في كتابه الحكيم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ...)(2).
فقد وصف اللّه تعالى اليهود والمشركين بأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، لأن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين، مع أن المسلمين يؤمنون بنبوة موسى (عليه السلام) والتوراة الصحيح التي أتى بها، فكان المفروض أن يكون اليهود إلى من وافقهم في الإيمان بنبيهم وكتابهم أقرب، ولكنهم ظاهروا المشركين حسداً لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) (3).
وهكذا نجد اليوم ممارسات إسرائيل المعادية للإسلام والمسلمين تجسّد هذه العداوة التي أشارت لها الآية الكريمة وبكل حقد، ولكن بعض المسلمين لم يستوعبوا هذا الأمر وتشاغلوا عنه بخلافاتهم وفرقتهم التي لا تخدم سوى أعداء الإسلام.
لذا يلزم علينا في المرحلة الأولى أن نتعاون مع بعض ثم نعمل بإخلاص، ولا ندع الأعداء يستفيدون من تفرقنا وتشرذمنا، ومن الواضح أن الشرق والغرب يخافون أشد الخوف من وحدتنا؛ لأنها تعني إنهاء سيطرتهم وتحكّمهم ببلادنا، أما تفرقنا فلا يخدم سوى مصالح عدونا.
وبهذا الصدد كان المرحوم كاشف الغطاء(4) وهو أحد العلماء الكبار ـ وكان في منتهى الشجاعة ـ يقول: بني الإسلام على أساسين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ولعل هذه هي خلاصة رسالة الإسلام في الحياة، ومع ذلك تركناها نحن وتمسك بها أعداؤنا، فتأخرنا وهوينا في مزالق مظلمة بينما تقدم العدو علينا.
الوحدة شعار الأنبياء (عليهم السلام)
يروى أن رجلاً مرّ بالمدينة المنورة في عهد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ثم ذهب منها إلى بلاد الروم، فسأله ملك الروم: من هذا النبي (صلى الله عليه وآله) الذي بُعث في الحجاز؟ وما هي أبرز مواقفه وأعماله؟
فقال الرجل: عندما اجتزت المدينة، سمعت أن قبيلتين فيها تسمى الأوس والخزرج(5) نشبت بينهما حرب طاحنة دامت مائة سنة، ولكن بجهود هذا النبي (صلى الله عليه وآله) تم الصلح بينهما، بل وآخى بينهما.
فقال ملك الروم: إن هذا لنبي حقاً.
إن من عمل الأنبياء (عليهم السلام) دائماً التوحيد والتأليف بين الناس، ومن عمل السلاطين والملوك هو التفرقة والمباعدة بين الناس، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله تعالى: (إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا)(6)، وفي آية أخرى: (إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ)(7).
وهكذا عرف ملك الروم وقال: إنه نبي لأنه أصلح بين قبيلتي الأوس والخزرج بعد مائة عام من الحرب. لأنه يعرف أخلاق الملوك وأنهم غالباً متسلطون على رقاب الناس ويعملون على إيجاد التفرقة وإيجاد التباغض بينهم، ويعرف أن الأنبياء (عليهم السلام) صادقون؛ ويعملون ليل نهار في سبيل إيجاد روح المحبة والوئام، والوحدة والوفاق، ويستثمرون وحدة الناس لصالح الناس وسوقهم نحو الخير والفضيلة.
إذاً الوحدة والتعاون من أهم الأسس التي نحن بأمس الحاجة إليها في هذا الزمان المشحون بالحروب والأحقاد والضغائن.
إسلام الأوس والخزرج
روي أنه قدم أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب، وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بُغاث(8)، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم، ولنا شغل لا نتفرغ لشيء.
قال: وما شغلتكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟
قال له عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول اللّه، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق جماعتنا.
فقال له أسعد: من هو منكم؟
قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً.
وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم ـ النظير وقريظة وقينقاع ـ أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب.
فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، قال: فأين هو؟
قال: جالس في الحِجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع منه ولاتكلمه؛ فإنه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.
فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر، لابد لي أن أطوف بالبيت؟ فقال: ضع في أذنيك القطن.
فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله) جالس في الحِجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني، أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم؟ ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله): أنعم صباحاً. فرفع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) رأسه إليه، وقال: «قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم».
فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟
قــال: «إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأني رسول اللّه، وأدعوكم (أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ * وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ)(9)».
فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأنك رسول اللّه، يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك. واللّه يا رسول اللّه، لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد للّه الذي ساقني إليك، واللّه ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا اللّه بأفضل مما أتيت له.
ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول اللّه الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم وأسلم، فأسلم ذكوان، ثم قالا: يارسول اللّه، ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، فأمره رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلّم من القرآن كثيراً، فخرج هو مع أسعد إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير، وقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم ويطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث، وكان عبد اللّه بن أُبيّ شريفاً في الخزرج، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعت على أن يملّكوه عليهم لشرفه وسخائه، وقد كانوا اتخذوا له إكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بغاث ولم يعن على الأوس، وقال: هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم، فرضيت به الأوس والخزرج، فلما قدم أسعد كره عبد اللّه ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره.
فقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فإن دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا، فهلم نأتي محلتهم، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ، فقعد على بئر من آبارهم، واجتمع إليه قوم من أحداثهم، وهو يقرأ عليهم القرآن، فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير وكان من أشرافهم: بلغني أن أبا أمامة أسعد بن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا، فأته وانهه عن ذلك.
فجاء أسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب بن عمير: إن هذا الرجل شريف، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا، فأصدق اللّه فيه. فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا أمامة، يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا، ولا تفسد شباننا، واحذر الأوس على نفسك.
فقال مصعب: أو تجلس فنعرض عليك أمراً، فإن أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه. فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن. فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟
قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلي ركعتين. فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر، ثم خرج وعصر ثوبه، ثم قال: أعرض عليّ، فعرض عليه شهادة أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فقالها، ثم صلى ركعتين، ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك.
فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: أقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا، فأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب: (حمٓ * تَنزِيلٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ)(10) فلما سمعها، قال مصعب: واللّه، لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين، ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه وقال: أظهر أمرك ولا تهابنّ أحداً. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح: يا بني عمرو بن عوف، لايبقينّ رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلّا أن يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب.
فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم؟
قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا، ولا نرد لك أمراً، فمرنا بما شئت.
فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم عليَّ حرام حتى تشهدوا: أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، والحمد للّه الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به. فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلّا وفيها مسلم أو مسلمة، وحول مصعب بن عمير إليه وقال له: أظهر أمرك وادع الناس علانية. وأشاع الإسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود.
وبلغ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أن الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام، وكتب إليه مصعب بذلك، وكان كل من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه، فكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يأمرهم بالخروج إلى المدينة، وكانوا يتسللون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم...(11).
اعتصموا بحبل اللّه
إن اللّه تعالى أمرنا في كتابه الحكيم بالتعاون والعمل، حيث قال عزّ وجلّ: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ)(12) وقال تعالى: (وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ)(13).
كما أمرنا اللّه بالاتحاد والتآخي، ونهانا عن التفرقة ومعاداة بعضنا البعض؛ لذا علينا كمسلمين امتثال ذلك، فمن يخالف ويتخذ سياسة التفرقة والمعاداة بدل الاتحاد والتآخي، فليس هو من الإسلام في شيء، وعلى المسلمين معرفة ذلك كي لا تلتبس عليهم الأمور، فيخطط الأعداء لتمزيقهم وتشتيتهم.
قال اللّه سبحانه وتعالى: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا)(14).
قوله عزّ وجلّ: (وَٱعۡتَصِمُواْ) أي: تمسكوا (بِحَبۡلِ ٱللَّهِ) أي: دينه وقرآنه، شُبّه بالحبل لمناسبة أن من يتمسك بالحبل لا بدّ وأن يرتفع به للأعلى، وكذلك من يتمسك بالإيمان يصعد به في الدنيا إلى المراتب الراقية، وفي الآخرة إلى جنات خالدة، وفي بعض الروايات أن حبل اللّه هم أهل البيت (عليهم السلام) (جَمِيعٗا) أي: جميعكم لا بعضكم دون بعض (وَلَا تَفَرَّقُواْۚ) بأن يتمسك البعض بحبل اللّه، والبعض بحبل الشيطان، وهذا تأكيد لقوله: (جَمِيعاً)، (وَٱذۡكُرُواْ) أي: تذكروا (نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ) قبل الإسلام يعادي بعضكم بعضاً (فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ) جعلها قريبة بعضها إلى بعض، حيث أدخل الإيمان فيها فخرج ما كان فيها من الضغينة والإحن والحسد والعداوة (فَأَصۡبَحۡتُم) أيها المسلمون (بِنِعۡمَتِهِۦٓ) أي: بسبب نعمة الألفة التي وهبها اللّه إليكم (إِخۡوَٰنٗا) أحدكم أخ الآخر في الإيمان، له ما لأخيه وعليه ما عليه. وإن هذه النعمة قد خرقت المقاييس الجاهلية القبلية والعشائرية والعرقية والقومية وما أشبهها. وما ورد في بعض الأحاديث أن المراد من حبل اللّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أو الأئمة (عليهم السلام) أو القرآن، فإنما هي مصاديق جلية(15).
ورد عن ابن يزيد قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قوله: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا)؟ قال: «علي بن أبي طالب حبل اللّه المتين»(16).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «آل محمد (عليهم السلام) هم حبل اللّه الذي أمرنا بالاعتصام به، فقال: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ)»(17).
وفي (مجمع البيان) في تفسير الآية المباركة: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ) قال: أي تمسكوا به، وقيل: امتنعوا به من غيره، وقيل في معنى حبل اللّه أقوال: أحدها أنه القرآن، عن أبي سعيد الخدري وعبد اللّه وقتادة والسدي.
وثانيها: إنه دين اللّه الإسلام.
وثالثها: ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: «نحن حبل اللّه الذي قال: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا).
والأَولى حمله على الجميع، والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «أيها الناس، إني قد تركت فيكم حبلين، إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». (وَلَا تَفَرَّقُواْۚ) معناه: ولا تتفرقوا عن دين اللّه الذي أمركم فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة، واثبتوا عليه. وقيل: معناه لا تتفرقوا عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله). وقيل: عن القرآن بترك العمل به. (وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ) قيل: أراد ما كان بين الأوس والخزرج، من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألّف اللّه بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد. وقيل: هو ما كان بين مشركي العرب من الطوائل.
والمعنى: احفظوا نعمة اللّه ومنته عليكم بالإسلام وبالائتلاف، ورفع ما كان بينكم من التنازع والاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم في العاجل، مع ما أعدّ لكم من الثواب الجزيل في الآجل؛ إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم بجمعكم على الإسلام، ورفع البغضاء والشحناء عن قلوبكم.
(فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ) أي: بنعمة اللّه (إِخۡوَٰنٗا) متواصلين، وأحباباً متحابين بعد أن كنتم متحاربين متعادين، وصرتم بحيث يقصد كل واحد منكم مراد الآخرين، لأن أصل الأخ من توخيت الشيء: إذا قصدته وطلبته. (وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ) أي: وكنتم يا أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) على طرف حفرة من جهنم، لم يكن بينها وبينكم إلّا الموت، فأنقذكم اللّه منها بأن أرسل إليكم رسولاً، وهداكم للإيمان، ودعاكم إليه، فنجوتم بإجابته من النار. وإنما قال: (فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ) وإن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها، من حيث كانوا مستحقين لدخولها(18).
اضف تعليق