وإذا أريد لهذا النسيج أن يستمر بهذه اللُحمة فليس أمام مكوناته إلا التمسك بتلك الثوابت الوطنية الحضارية الموروثة، والتي حافظت على هذه اللــُحمة، وقد تمثلت باحترام هذه التعددية وعدم التقاطع معها تحت أي مبرر أو ذريعة من قبل كل المكونات المجتمعية، وهذا ممكن بعد أن تسود لغة التسامح...
قد اختلفت التعريفات المتعلقة بالتعددية الثقافية، إذ يستخدم علماء الأنثروبولوجيا مفهوم التعددية الثقافية للدلالة على جماعات تختلف أنماط الحياة لدى كل منها اختلافاً شاسعاً عن غيرها. أما في الجانب السياسي فيستعمل هذا التعبير للدلالة على جماعات ذات فروقات ومميزات ملحوظة تعيش في مناطق جغرافية محددة وتشكل هذه المميزات الملحوظة قاعدة لقوتها السياسية.
يُعتبر مفهوم التنوع الثقافي أو التعددية الثقافية من المفاهيم المهمة في المجتمع الحديث، الذي بات يضم جماعات متنوعة ثقافياً، الأمر الذي يطرح إشكاليات حول مفهوم الوحدة في إطار هذا التنوع، والانسجام في سياق احترام الاختلاف.
ونظراً لأن مفهوم المواطنة يقدم لنا إطاراً قانونياً وثقافياً واجتماعياً للتعايش الإيجابي بين مواطنين متنوعين ثقافياً، فإن ذلك يطرح ضرورة لدراسة العلاقة بين المواطنة والتعددية الثقافية، تدعيماً للتنوع الثقافي في بناء المجتمع من ناحية، ودعماً لعلاقة الانتماء المشترك في الوطن الواحد من ناحية أخري.
ولعل أهم ما يميز المجتمعات البشرية في يومنا هذا هي اختلاف الثقافات وتنوعها، فكل ثقافة تختلف عن الأخرى بسبب مسارها التاريخي الخاص وميزاتها التي تجعل منها فريدة من نوعها.
وقد اختلفت التعريفات المتعلقة بالتعددية الثقافية، إذ يستخدم علماء الأنثروبولوجيا مفهوم التعددية الثقافية للدلالة على جماعات تختلف أنماط الحياة لدى كل منها اختلافاً شاسعاً عن غيرها.
أما في الجانب السياسي فيستعمل هذا التعبير للدلالة على جماعات ذات فروقات ومميزات ملحوظة تعيش في مناطق جغرافية محددة وتشكل هذه المميزات الملحوظة قاعدة لقوتها السياسية.
في حين يرى علماء الاجتماع في التعددية، رغبة بعض الجماعات في المحافظة على أوجه الشبه في ما بين أفرادها لاعتقادهم أن الصفات والقيم والمعتقدات المشتركة تشكل مصدر شعور الأفراد بالفخر والثقة بالنفس.
وضمن هذا الاتجاه لا يمكن فهم طبيعة أي مجتمع إلا من خلال تفحص الحقائق التاريخية المعبرة عن صيرورة المواطن في ذلك المجتمع، وعند التمعن بتلك الحقائق التاريخية نجد أن حالة التنوع الثقافي التي عرف بها المجتمع العراقي كانت السبب في تميز هذا المجتمع عبر التاريخ، وقد نتج عن ذلك جملة من الإبداعات والسوابق التاريخية التي تفرد بها إنسان هذا المجتمع.
ويمكن لنا أن نشبه هذا التكامل بدورة الحياة التي يشهدها جسم الأنسان، إذ لا يمكن لها أن تكتمل إلا من خلال اتصالها بالأجزاء الأخرى للجسم.
وقد أغنى هذا التنوع عبر العصور الحضارة العراقية الموغلة في القدم، ويمكننا أن نستعين ببعض الشواهد التاريخية الدالة على ذلك، من خلال مساهمة الموزائيك العراقي في أغناء حضارة العراق المادية والفكرية، وهذا ما بدا واضحاً في الإسهام الذي قام به مسيحيو العراق في إثراء الثقافة العربية الإسلامية من خلال نقل العلوم الإغريقية إلى العربية في بداية العصر العباسي الأول. وهكذا كان إسهام بقية المكونات، فالجميع قد وضع لبنة في بناء الصرح الحضاري للعراق.
وقد أستمر هذا النسيج بتلك اللُحمة عبر الحُقب التاريخية المتعاقبة عندما كان الأمر محصوراً بـ (عرقنة) هذا التلون، والأسس الاجتماعية والثقافية التي تؤطره، وكان احترام هذه الأسس من قبل جميع المكونات، هي التي جعلت من هذا المجتمع أن يعيش الحالة الطبيعية التي عاشها عبر تاريخه. أما ما شهده من هنات وتباين بين بعض المكونات خلال الظروف الصعبة التي مرّ بها فلا يعدو سببها إلى تهرء قد أصاب النسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي، إنما الأمر يكمن في الصدمة العنيفة والهول الكبير الذي تعرض له نتيجة للتحول التاريخي المفاجئ وطبيعة التناقض الذي حصل بين الحقبتين، ولكن بزوال تلك الآثار ورفع تلك التراكمات سوف يختفي هذا التباين. وبطبيعة الحال فإن الأمر مُتعلق بفلسفة النظام السياسي والقانوني للدولة، من خلال اعتماد عنصر المواطنة العنوان الأوحد لكل مكون دون إلغاء حالة التميز والخصوصية التي يتمتع بها كل طرف. ويمكن تلمس هذا الثراء الإنساني والغنى الثقافي اليوم من خلال قيام مكونات ولا أقول أقليات عراقية مهمة وأصيلة تمثل سكان العراق الأصليين، وملح ارض السواد بإحياء العديد من مناسباتها الدينية والقومية والثقافية، وقد تتزامن هذه المناسبات وهي مناسبات عزيزة على قلوب مُعتقديها في أوقات متقاربة، ولا شك أن في ذلك لعبرة. وقد توزعت هذه المناسبات بين احتفال الصابئة المندائيين بعيد الخليقة البرونايا، وهو من أهم المناسبات المقدسة لدى هذه الطائفة الكريمة والتي تعبر عن بداية الخلق العلوي وعوالم النور، وبين احتفال شريحة مهمة في هذا المجتمع بأعياد نوروز. كذلك أحياء أهل البلاد الأوائل من البابليين والآشوريين والأكديين بعيد (أكيدو) ورأس السنة البابلية والآشورية، بالتزامن مع إحياء الأخوة الإيزيديين لعيد رأس السنة الإيزيدية الذي يسمى عيد (الأربعاء الأحمر)، وذلك عبر إقامة طقوس خاصة في معبد لالش في نينوى.
إضافةً إلى إحياء شرائح عراقية أخرى لمناسبات دينية وقومية ووطنية. وقد عكست هذه المناسبات الطبيعة الفسيفسائية للمجتمع العراقي، ومدى تنوع وتعدد الثقافات والمعتقدات والخلفيات التي ينحدر منها سكان هذه البلاد، والتي حاول ويحاول البعض النفاذ من خلالها كثغرة لبث السموم العرقية والطائفية لتحقيق بعض المآرب الشيطانية، ولكن الحقائق التاريخية والجغرافية تقول، إن هذا التنوع الروحي والثقافي والمعرفي كان له القدح المُعلى في إثراء الحضارة العراقية وجعلها بهذه الصفة من التميز والتفرد، وهذا التنوع أيضا هو الذي ساهم في وضع اللبنات الأولى في صرح الحضارة الإنسانية التي ظهرت في بلاد الرافدين، لذا يجب أن يشعر المُكون الذي نشأ وترعرع على ضفاف دجلة والفرات بان له (حصة) ومساهمة في هذا البـُنيان الحضاري.
وما أحوجنا اليوم إلى التذكير بذلك التلاقح الحضاري الذي كان يجمع أوصال هذه البلاد بتلك الآصرة الوطنية.
وإذا أريد لهذا النسيج أن يستمر بهذه اللُحمة فليس أمام مكوناته إلا التمسك بتلك الثوابت الوطنية الحضارية الموروثة، والتي حافظت على هذه اللــُحمة، وقد تمثلت باحترام هذه التعددية وعدم التقاطع معها تحت أي مبرر أو ذريعة من قبل كل المكونات المجتمعية، وهذا بطبيعة الحال لن يتم، إلا بعد أن تسود لغة التسامح واحترام حرية المُعتقد والانتماء.
اضف تعليق