q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الإخلاص وطن والانتماء لله تعالى

المسلم بين الاعتدال والتطرف (12)

الإكراه فهو انسجام شكلي ورياء، والإخلاص هو رسوخ ونقاء في القلب، وتنقية وطهارة له، باختيار الإنسان من خلال تهذيبه لنفسه، وتزكيته لها، والتزامه بالعبادات والأعمال الصالحة والخيرة، والإكراه فإنه يجعل الإنسان في حالة شكلية من الالتزام بالعبادات والأعمال، فيكون عمله سطحيا، غير صحيح، وغير ناجح لأنه لا يرتبط بالله...

بعض من الناس يشعرون بالتيه في هذا الزمن، وعدم الانتماء إلى أي شيء، سواء إلى جغرافية أو وطن أو مكان أو بقعة أو جماعة، فهو يشعر بأنه ضائع وتائه في هذا العالم.

إنه يشعر بالضياع والقلق وعدم توفر الأمن، وعدم الاستقرار والخوف الدائم، فيبحث عن الانتماء الجغرافي، فيهاجر إلى مكان ثان بحثا عن وطن أو عن مورد اقتصادي، أو العثور على حرية ثقافية او شعور بالانتماء الاجتماعي، فالانتماء (1) حاجة أساسية للإنسان، لأن الانتماء يعطي الإنسان القوة والشعور بالأمان والاطمئنان النفسي، فهو حاجة وجودية أساسية.

لكم هل الانتماء إلى الوطن يكفي الإنسان، وهل الانتماء إلى الجغرافية يحقق له الاستقرار، وهل الانتماء إلى مكان آمن يكفيه؟

إن الانتماء الحقيقي الذي يعطي الاستقرار والأمن النفسي للإنسان، هو الانتماء لله سبحانه وتعالى فقط، فعندما ينتمي الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، انتماءً حقيقيا خالصا مخلصا، في عبوديته لله سبحانه وتعالى، سوف يشعر بالانتماء الحقيقي ويشعر بالاستقرار (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد 28.

دور الإخلاص في تحقيق الانتماء

هذا البحث في الإخلاص، يبيّن لنا أن الإخلاص من أهم القيم التي يحتاجها الإنسان حتى يحقق الانتماء في حياته، وخصوصا الانتماء لله سبحانه وتعالى، فالإخلاص بحد ذاته مفهوم فيه الكثير من معاني التقدم والإتقان والجودة، والانتصار في الحياة والنجاح فيها، فكيف إذا كان انتماء الإنسان لله سبحانه وتعالى؟

إن الانتماء لله سبحانه وتعالى هو الذي يحقق كل الانتماءات الأخرى، فالانتماء لله سبحانه وتعالى يحقق الانتماء إلى الوطن والجماعة، فهو فوق كل الانتماءات، وهو الانتماء الناجح الذي يحقق نجاح الانتماءات الأخرى، فلا انتماء حقيقي دون وجود الانتماء لله سبحانه وتعالى عبر تسليم الإنسان نفسه لله سبحانه وتعالى.

عندما ينتمي الإنسان لله ويكون خالصا له سبحانه وتعالى، يخرج من الظلمات إلى النور، يخرج من ذلك التيه، وذلك الضياع، وقد جاء في الآية القرآنية: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة 257.

فعندما يخرج الإنسان من الانتماء الإلهي والولاء لله سبحانه وتعالى وهو الولاء الحقيقي، فإنه يخرج من النور إلى الظلمات، إلى ظلمات الطاغوت، إلى ظلمات الأهواء والغرائز والأهواء التي تجعل الإنسان يعيش في نفق ظلامي.

استخلاص النفس من الشوائب

لذلك فإن الإخلاص قيمة أساسية في تربية الإنسان وتقدمه، وتحقيق التوازن والاعتدال في نفس الإنسان، لأن الإخلاص (2) يعني ان يستخلص الإنسان نفسه وقلبه من الشوائب التي تجعله مكدَّرا وملوَّثا. أي تنقية القلب من النوايا الغامضة والدوافع المزدوجة بأهداف متناقضة.

فهذا الاستخلاص عملية تربوية ذاتية يقوم بها الإنسان لبناء ذاته ومعنوياته الداخلية، وتهذيب نفسه وتشذيبها بطريقة تقدمية تصاعدية تراكمية، تؤدي به إلى النضج والرشد والتطور والتقدم، وبالتالي تحقيق الاستقرار النفسي، والاعتدال السلوكي في حياته.

فالإخلاص هو طريق لتكامل الإنسان، وتقدمه، وتخلصه، واستخلاص نفسه من السلبيات والمعوقات والملوثات، وأيضا استخلاص نفسه من الطغيان والظلامية، فكلما زاد الإخلاص في مجتمع ما أو في إنسان ما، يزداد تقدمه وتوازنه واستقامته واعتداله وعدله في الحياة، بل هو يسير في الطريق المستقيم الذي يضيئه له قلبه، ويضيئ الله سبحانه وتعالى له هذا الطريق خارج كل الملوثات الظلامية التي تحجب عنه نور الحقيقة.

الإخلاص طريق التنوير الذاتي

الإخلاص هو أن يكون الإنسان خالصا صافيا لا شوب فيه، وأن تكون الدوافع الإنسانية خالية من كل أنواع الشوائب والأكدار، فالإنسان يتصاعد كلما تصاعد إخلاصه لله سبحانه وتعالى، ويتصاعد هذا الإنسان ويتقدم، وتتقدم مراتبه كلما زاد إخلاصه، لأن الإخلاص هو طريق للتنوير الذاتي، وأعظم الإخلاص هو الإخلاص المطلق لله سبحانه وتعالى، لأنه يحقق كل معاني الإخلاص التي يحتاجها الإنسان في كل مكان وخطوة.

يحتاج الإخلاص في عائلته، ويحتاجه في مدرسته، والإخلاص في وظيفته، والإخلاص مع الناس، وبالأخص في عمله، ولكن المطلق هو الذي يحقق كل معاني الإخلاص التي يحتاجها الإنسان في حياته.

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (بالإخلاص تتفاضل مراتب المؤمنين) (3)، أي لكل مؤمن مرتبة، وهذه المرتبة مرتبطة بتطور الإخلاص عند هذا الإنسان، وخروجه من الكدر والشوائب التي قد تعتلي قلبه وتحجب قلبه، فتمنعه من التكامل والرشد.

وجه الله يكفيك كل الوجوه

اعمل لوجه الله سبحانه وتعالى، فيكفيك كل شيء في الحياة، ويعطيك كل ما تحتاجه، لأن التوجه الى الله سبحانه وتعالى بالإخلاص اليه فحسب هو رمز التقدم في السعادة والاستقرار وفي كل الأمور.

وهذا ما يوضحه الإمام الباقر (عليه السلام) في فيما روي عنه: (ما بين الحق والباطل إلا قلة العقل، قيل: وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ قال: إن العبد يعمل العمل الذي هو لله رضا فيريد به غير الله، فلو أنه أخلص لله لجاءه الذي يريد في أسرع من ذلك)(4)، فقمة العقل والرشد، عندما يكون الإنسان مخلصا لله سبحانه وتعالى.

أما الذي يبحث عن مصالح شخصية، من دون أن ينظر إلى الله سبحانه وتعالى، ويبحث بطريقة أنانية، ويمضي في هذا الطريق ليرضي صاحب العمل، ليرضي مسؤوله، أو ليرضي الناس كي يكسب الأرباح منهم من دون أن ينظر إلى الله سبحانه وتعالى، هذا الإنسان هو بعيد عن العقل والنضج، لا يعرف معنى الحياة الواقعية والأسباب السليمة للوصول الى الاهداف.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (ولابد للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون، إذ لو لم يكن بهذا المعنى يكون غافلا، والغافلون قد وصفهم الله بقوله -إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا-) (5).

الإخلاص المربح

الإنسان عندما يريد أن يربح في حياته، إذا نظر إلى الله سبحانه وتعالى، أعطاه الله كلّ شيء، من التقدم المالي، والرزق، والربح الكبير الذي يتمناه على أن يعمل بالحلال، ولكن عندما لا ينظر إلى الله سبحانه وتعالى، وينظر إلى الربح والأموال فقط، من دون أن يراعي الله سبحانه وتعالى، بحثا عن الربح السريع، فهذا الإنسان في الواقع لا يفهم ولايسترشد، وليس لديه عمق في الحياة لفهم الموازين وإدراك الأسباب والمسبّبات.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما أخلص عبد لله عز وجل أربعين صباحا إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)(6).

لذلك فإن أعظم ربح يمكن أن يحققه الإنسان، هو أن يكون مخلصا لله سبحانه وتعالى، فينال كل شيء يريده في حياته، وبسرعة يحصل على ذلك، فالإخلاص لله سبحانه وتعالى هو رمز التقدم في الحياة، ورمز التقدم في المجتمعات المزدهرة ولو نسبيا.

الإكراه يتناقض مع الإخلاص

في بحث موضوع لا إكراه في الدين ذكرنا بأن الاعتدال يوجد في (لا إكراه في الدين)، والدين لا ينسجم مع الإكراه لعدة أسباب طرحناها في ذلك، هنا نريد أن نسلط الضوء على نقطة جديدة حول إن الإكراه يتناقض مع الإخلاص.

لأن الإخلاص لله سبحانه وتعالى هو الدين، والدين لله، وإلا فإن هذا الإكراه الذي يأتي مع الدين، فهذا ليس فيه إخلاص، بل فيه شرك، لأن المكرِه يريد أن يُشرك مع الله سبحانه وتعالى نفسه، فيكون شريكا مع الله سبحانه وتعالى في فرض أجندة معينة، وسلوكيات معينة، أو طريقة معينة، على هذا الإنسان المكرَه الذي وقع عليه الإكراه، لذلك فإن الاعتدال يأتي مع الإخلاص، والتطرف يأتي مع الإكراه.

وهذا يعني إن الإكراه يتناقض مع الاعتدال، لأن الاعتدال هو الطريق المستقيم، والتطرف هو وضع الإنسان في غير الطريق المستقيم، بينما الإخلاص يضع الإنسان في الطريق المستقيم، وفي طريق الاعتدال، بعيدا عن الأهواء والشهوات والطغيان والطاغوت الذي يُكرِه ذلك الإنسان على أن يسير في ضمن شهواته وأهوائه الخاصة.

لذلك قيل في الإخلاص هو الطاعة، والطاعة تكون لله سبحانه وتعالى، ولا تكون تلك الطاعة إلا بالإخلاص، ولا يكون الإكراه في الإخلاص أبدا ومطلقا.

وعنه (صلى الله عليه وآله): (قال الله عز وجل: لا أطلع على قلب عبد فأعلم منه حب الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته)(7).

الإكراه يكونُ ذاتيا وغيريا

فأحد عوامل غياب الإخلاص، هو غياب قدرة الإنسان على الاختيار، ذاتيا وغيريا، ذاتيا يعني عندما تسيطر الأهواء والشهوات على هذا الإنسان، فيكون قلبه مُكرَها بصورة غير مباشرة وباختياره، وبالتالي يكون قلبه شائبا ملوثا.

بمعنى يكون قلبه غير نقي تجاه عمله أو باتجاه الله سبحانه وتعالى. فتستغله هذه الشهوات ويصبح عبدا ورهينا وأسيرا لها، ومكبلا بالتطلعات المزاجية والطموحات العمياء التي تجعله يسير في طريق بعيد عن الطريق المستقيم، لذلك فالإنسان هو بحد ذاته يسلب حقه في الاختيار، ويُكرِه نفسه من خلال اختيار الشهوات، وفي هذا الأمر تتنازل مرتبته بحسب قبوله للإكراه الذاتي.

كذلك هناك إكراه غيري يتعرض له الإنسان، أي هناك طرف آخر يكرهه على عمل معين، يكرهه على الصلاة مثلا، لكن الصلاة تحتاج إلى إخلاص كامل وتام ونقي لله سبحانه وتعالى، ولا يصح أن يصلي الإنسان رياءً، فالرياء يعني إشراك الغير في العبادة، وهذا يًبطل الصلاة، فلذلك يحتاج الإنسان إلى الإخلاص في صلاته.

أما الإنسان الذي يريد أن يرضي الناس أو المسؤول بصلاته، فيكون مرائيا وليس مخلصا فتكون صلاته وعبادته غير مقبولة.

لذلك تقول الآية القرآنية: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) الزمر 2، فالدين فقط لله سبحانه وتعالى عبر الإخلاص، والعبادة لا يأتي معها شريك، فهذا الشريك باطل وغير صحيح وغير سليم، (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ...) الزمر 3.

وقال تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) الزمر11، فهذا أمر، لأن العبادة في الدين تأتي فقط من خلال الإخلاص، ونقصد بها العبادة المخلصة لله سبحانه وتعالى، لله وحده هي الدين الحقيقي، والإكراه الذي يحدث في الصلاة ليس صحيحا، لأنه (لا إكراه في الدين)، فهنا تعبير كامل ومتكامل عن هذا المعنى، وارتباط عدم الإكراه بالإخلاص.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (الإخلاص غاية الدين)(8)، لأنه هو عملية تنقية ذاتية، وتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، فهذه هي غاية الدين، وإخراج الإنسان من الظلمات إلى النور، وإخراجه من ظلمات الطاغوت، إلى الحرية، إلى الاختيار، إلى التقدم في حياته، ونضجه ورشده.

وهنا نطرح بعض الارتباطات حول التناقض بين الإكراه والإخلاص، ونثبت بعض النقاط التي يمكن أن نلاحظها في ذلك:

اولا: الإخلاص ينبعث في القلب بالاختيار

أما الإكراه فهو انسجام شكلي، أي بمعنى هو رياء، والإخلاص هو رسوخ في القلب، ونقاء في القلب، وتنقية للقلب، وطهارة له، ويتم ذلك باختيار الإنسان من خلال تهذيبه لنفسه، وتزكيته لها، وعمله الصحيح المستمر، وابتعاده عن الشهوات، والتزامه بالعبادات والأعمال الصالحة والخيرة، حيث يقوم بعملية تنظيف قلبه وتنقيته وتطوير حالة الإخلاص في نفسه.

وحين يأتي الإكراه فإنه يجعل الإنسان في حالة شكلية من الالتزام بالعبادات والأعمال، فيكون عمله سطحيا، غير صحيح، وغير جوهري، ومن ثم عمل غير ناجح لأنه لا يرتبط بالله سبحانه وتعالى.

وهذه الحالة لا تجعل الإنسان يعيش حياة سعيدة مستقرة نفسيا، لأنها ليس فيها عمق، بل هي عبارة عن رؤية سطحية في الحياة، من دون أن يكون هناك غاية أو هدف في حياته.

وعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (وَمَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ وَفِعْلُهُ وَمَقَالَتُهُ فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَأَخْلَصَ الْعِبَادَةَ)(9)، هذا هو معنى أن يختار الإنسان بقلبه فيكون مخلصا لما اختاره، فيكون عمله ونيَّته واحدة، ولا اختلاف بينهما، ويكون سره وعلنه واحدا، أي أن سلوكه في السر هو نفس سلوكه في العلن، فعله وقوله واحد.

الخيانة حالة نفسية

هذا هو معنى الأمانة، أن يكون أمينا، فالأمين الحقيقي ليس هو الإنسان الذي يؤدي الأمانة للناس، هذه نتيجة الأمانة، والأمانة الحقيقية هي أن يكون الإنسان أمينا مع نفسه، وهنا سوف ينتج الأمانة مع الآخرين، وعندما لا يكون أمينا لنفسه، يكون خائنا لها، فإذا خان نفسه سوف يخون الأمانة مع الآخرين.

الخيانة هي حالة نفسية، لهذا يحتاج الإنسان إلى ممارسة نفسية واستقرار سلوكي، فلا تكون لديه حالة ازدواجية بين نفسه وبين غيره، بين داخله وخارجه، بين باطنه وظاهره، فيكون إنسانا واحدا في سره وعلانيته، وفعله وقوله، فيكون أمينا، وبالتالي يكون مخلصا في العبادة، وهذا هو معنى الإخلاص، وهو التساوي بين الداخل والخارج، وهذا يؤدي به إلى تحقيق الأمانة والإخلاص.

ثانيا: الإخلاص يهدف إلى نقاء القلب

الإكراه يؤدي إلى تلويث القلب بالرذائل، الإخلاص يؤدي إلى نقاء القلب واستقرار الفضائل في نفس الإنسان، ولكن عندما يكون الإنسان مكرَها، سوف يتولّد لديه رد فعل داخلي في ذاته وفي نفسه، فيرتد نحو الرذائل يمتلئ قلبه بالحرص على الدنيا والحسد والكراهية، والبخل والكذب، والخوف والخيانة.

لأن الاكراه بالنتيجة يسلب النقاء منه حيث ينتهي به إلى أن يكون كدرا متلونا يمارس الازدواجية، لأن تلوث القلب وعدم نقائه يجعل الإنسان متقلبا غير ثابت في سلوكه، فيكون منافقا، ولذلك قيل (إن الإخلاص رأس الفضائل).

الإخلاص راس الفضائل

فالإنسان عندما يكون نقي القلب، ويكون عابدا مخلصا لوجه الله سبحانه وتعالى، يمتلئ قلبه بالفضائل، بالصدق والأمانة والكرم، ومختلف الفضائل التي تأتي إلى الإنسان ويحصل عليها من خلال نفاء قلبه، ولكن تلوّث القلب من خلال عملية الإكراه، وعملية اتباع الشهوات وحب الدنيا والحرص عليها، يمتلئ قلبه بالرذائل، ويخرج عن دائرة الإخلاص والنقاء، ويصبح قلبه كدِرا ملوثا.

عن الإمام علي (عليه السلام): (الإخلاص شيمة أفاضل الناس)(10)، شيمة تعني الخلُق والسجية، خلق الإنسان و طبيعته، فالإخلاص يجعل الأخلاق الحسنة طبيعية في ذات الإنسان، ونظيفة في ذاته، لأن قلبه يكون نقيا بفضل الله سبحانه وتعالى. وقد ذكرنا بأن الفضائل تعني الاعتدال، وهو السير في الطريق المستقيم، وعدم التطرف، وعدم الإفراط ولا التفريط، فالتفريط هو نتيجة لتلوّث وتكدّر القلب بالرذائل.

ثالثا: الإخلاص يصنع الشجاعة

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (ان المؤمن يخشع له كل شيء ويهابه كل شيء، ثم قال: إذا كان مخلصا لله أخاف الله منه كل شيء حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء)(11)، فعندما يكون الإنسان مخلص القلب يكون شجاعا، والشجاعة من قيم الفضائل العليا عند الإنسان، وهذا الإخلاص هو الذي يصنع الشجاعة لأنه لا يخاف إلا من الله سبحانه وتعالى فقط.

فالإخلاص يؤدي إلى شجاعة الناس، فلا يخاف الإنسان المخلص من الطاغوت، ولا يهاب الظالم، بل حتى لا يخاف من السباع والحيوانات المتوحشة، فيكون شجاعا، لأن الشجاعة هي قوة ذاتية في نفس الإنسان، لأنه يكون قويا في نفسه وروحه وجسمه وعقله وفكره، فلا يهاب شيئا.

لكن الإنسان الذي لا يخشع لله سبحانه وتعالى ولا يكون مخلصا له، سوف يترسخ النفاق في قلبه ويكون خائفا، لأن المنافق أصبح منافقا لأنه ضعيف الشخصية بسبب خوفه، فهو يخاف من كل شيء، يخاف من أي صوت يسمعه، يخاف من الناس الذين حوله ومن كل شيء.

الإخلاص يجعل الإنسان منتميا لله

لذلك فإن الإنسان إذا أراد أن يجعل قلبه نقيا، لابد أن يدقّق في ماذا يفعل، وماذا يختار من سلوكيات، وماذا يقرر من هذه السلوكيات في حياته، هل يكون صادقا أم كاذبا، فإذا كان صادقا رفع الشائبة من قلبه، وإذا كان كاذبا جعل قلبه مكدّرا وملوثا، وضاعت منه نقطة من الإخلاص، لذلك لابد للإنسان أن يراكم مراتب الإخلاص من خلال ممارسة الفضائل باستمرار، وفي كل يوم عندما يمارس الفضائل عليه في نفس الوقت ان يبتعد عن الرذائل.

عندما يمارس الإنسان الفضائل، سوف تنمو فيه الخصائص والصفات الكريمة والنبيلة التي تؤدي إلى تقدم روحه ونفسه وازدهار ذاته، وتقدمه ونجاحه في الحياة، وسوف يشعر بالتكامل مع الحياة ويحبّها، من خلال هذا الإخلاص وهذه الفضائل، لأن الإنسان يكون في واقع الأمر كما ذكرنا في المقدمة، يكون تعيسا في حياته لأنه تائها في قلبه حيث ملأته الرذائل، لأنه لم يخلص لله سبحانه وتعالى.

الفضائل تقود القلب نحو الإخلاص وجعل الإنسان منتميا لله، حيث تهذب في الإنسان شخصيته فيكون مستعدا للإخلاص، وبالنتيجة تجعله قادرا ومستقيما معتدلا سائرا في طريق السلام والأمن والطمأنينة في حياته.

وللبحث تتمة...

.............................................
(1) الانتمائية هي حاجة عاطفية إنسانية لدى الفرد إلى شعوره بأنه عضو مقبول في مجموعة. يميل بعض الأفراد إلى امتلاك رغبة «متأصلة» في الانتماء والشعور بأنهم جزء هام من شيء أكبر منهم سواء تعلق الأمر بالعائلة، أو الأصدقاء، أو زملاء العمل، أو الدين أو أي شيء آخر. ينطوي هذا على علاقة أعظم من مجرد علاقات المعرفة أو الألفة. يمثل الانتماء أحد المشاعر القوية الموجودة في الطبيعة البشرية. يُعد الانتماء وعدم الانتماء تجربة ذاتية قابلة للتأثر بعدد من العوامل الموجودة داخلنا أو في بيئتنا المحيطة. ثبت أن امتلاك عضوية في مجموعة ما مرتبط بشكل سلبي وإيجابي على حد سواء مع المشكلات السلوكية.(ويكيبيديا)
(2) الإخلاص وحقيقته ضد الرياء وهو تجريد القصد من الشوائب كلها. فمن عمل طاعة رياء فهو مراء مطلق، ومن عملها وانضم إلى قصد القربة قصد غرض دنيوي انضماما غير مستقل فعله مشوب غير خالص، كقصد الانتفاع بالحمية من الصوم، فمتى كان باعث الطاعة هو التقرب ولكن انضافت إليه خطرة، خرج عمله من الإخلاص.
فالإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها، كثيرها وقليلها. والمخلص من يكون عمله لمحض التقرب إلى الله سبحانه، من دون قصد شيء آخر أصلا.
ثم أعلى مراتب الإخلاص. وهو الإخلاص المطلق وإخلاص الصديقين إرادة محض وجه الله سبحانه عن العمل، دون توقع غرض في الدارين.
وقد أشار سيد الرسل (ص) إلى حقيقة الإخلاص بقوله: "هو أن تقول ربي الله ثم تستقم كما أمرت تعمل لله، لا تحب أن تحمد عليه! أي لا تعبد هواك ونفسك، ولا تعبد إلا ربك، وتستقيم في عبادتك كما أمرت". (جامع السعادات - محمد مهدي النراقي - ج ٢ - الصفحة ٣١١).
(3) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، الجزء الثاني، ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري
(4) وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ١ - الصفحة ٦١.
(5) مصباح الشريعة - المنسوب للإمام الصادق (ع) - الصفحة ٥٣.
(6) عيون أخبار الرضا (ع) - الشيخ الصدوق - ج ١ - الصفحة ٧٤.
(7) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٨٢ - الصفحة ١٣٦.
(8) غُرَرُ الحِكم ودُرَرُ الكلِم، الشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، الحديث رقم: 1340.
(9) نهج البلاغة - كتب الإمام علي (ع)، كتاب رقم: 26.
(10) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٥٠.
(11) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٦٦ - الصفحة ٢٨٥.

اضف تعليق


التعليقات

زهراء
العراق
لبيك يا علي2023-09-02