الذكاء الحقيقي الذي يلزم التعامل به مع هذه الحالة هو ذكاء الاعتدال والتعقل في محاورة الأفراد الذين وقعوا في شراك الانفتاح السلبي، فأي رد فعل سلبي سيجعل الذكاء في مهب الريح، الذكاء يكمن في محاورة الشخص من خلال جعله يشعر بالمسؤولية تجاه مجمل القضايا التي تمس الواقع الإنساني...
قد يكون الجواب التقليدي على الشق الأول من سؤال العنوان أعلاه هو: إن الذكاء يمثل قدرة الشخص الذكي على الإنجاز والابتكار في شتى ميادين العلم والمعرفة. لكنَّ تقليدية هذا الجواب في الحقيقة تبقى مرتهنة لظرف مرحلي ومحكومة به من دون الولوج لآفاق مستقبلية، وبالتالي تتلاشى صلاحية الابتكار الذي أنجزه فلان الذكي، والذي ابتدأ بنظرية، ثم تطبيق، ثم تظهر بوادر البون الشاسع بينهما، فيتم الاعلان الذي لابد منه عن نهاية المنجز، فنص بذلك لقناعة أننا كنا إزاء ذكاء وقتي لن يساعد في تقدم البشرية، بل على العكس من ذلك؛ فقد يكون للانبهار الأولي نتائج عكسية تؤدي إلى ردود أفعال، وتشظيات كما حدث مثلاً مع أكثر النظريات الفكرية والفلسفية التي أحدثت ضجة في بدايات ظهورها على مسرح الحياة، لكن سرعان ما فقدت مقومات بقائها بفعل التقادم الزمني، والتطورات العلمية.
نحو ذكاء مستقبلي
الحديث السابق عن الذكاء المرحلي؛ لا يعني بالضرورة رفض الأفكار والابتكارات، فطالما كانت حياة؛ كانت الحركة وكان التفكر والأرض لن تخلو من المبدعين والمبتكرين الأذكياء، لكن الأهم هو كيفية استثمار الابداع لما ينفع البشرية ومستقبلها، وأن تتم الاستفادة من التجارب الوقتية السابقة، والوقوف على الأخطاء التي وقع بها السابقون، وتشخيص مسبباتها؛ من أجل تلافيها، وبذلك يتحقق الذكاء المستقبلي الذي يمكث في الوجدان نافعاً الناس، ونضمن عدم ذهابه جفاء.
إذن، الذكاء الحقيقي هو الذي يستشرف المستقبل، هو الذي يفهم طبيعة المشكلة، وتكون له الرؤية الواضحة والعميقة لها، فضلاً عن استراتيجيات الحلول وليس الحل وهذا هو المفصل الأهم، فوضع استراتيجية لحلول متعددة كفيل بمنح مساحة للتحرك لحل المشاكل.
وفي منطقة مثل منطقتنا، وخصوصية مجتمعية كالخصوصية الموجودة لدينا؛ ينبغي أن يكون الذكاء فاعلاً في الوقوف بوجه التحديات، وأن يكون غلى جانبه الحدس والنباهة والاصرار، وأن يعرف الذكي كيف يقرر، ومتى يقرر، وكل ذلك طبعاً بما ينسجم مع المصلحة المجتمعية التي ينبغي على الشخص الذكي استشراف مستقبلها بعد تأملات عميقة وجادة، واستنفار هائل للطاقات والامكانيات. ولو أردنا تشخيص أهم المشاكل التي ينبغي علينا معالجتها بذكاء مستقبلي لا مرحلي؛ هي المشكلة المتعلقة بانحسار الأخلاق، وتدني قيم الاعتدال في التعامل، الأمر الذي يحتم علينا ما أسميه (الذكاء الأخلاقي) أو (ذكاء الاعتدال)؛ لأن التراكمات الكثيرة تاريخياً وثقافياً واقتصادياً أثرت كثيراً بشكل سلبي على قيمتي الأخلاق والاعتدال.
ولعل من المفارقات العجيبة في وضعنا الحالي؛ ذلك الانزياح الأخلاقي متمثلاً بالاستيراد العشوائي لأخلاق آخرين يبتعدون عنا بأميال. فبعد أن تخلصنا ــ أقولها على حذر ــ من مخلفات الارهاب الدموي، ومظاهر العنف، وما خلفته من فجوات قيمية أزاحت الاعتدال؛ ظهرت بوادر الانزياح الأخلاقي المخيف من خلال استيراد المتداول من مظاهر الحياة في المجتمعات الغربية، وهذا الاستيراد مدعوم بجهد اعلامي وتواصلي في هوس غريب عنوانه (الانفتاح) لكنه انفتاح متطرف متشدد في هوسه بإحلال ما هو مستورد من الأخلاقيات بديلاً عن الأخلاقيات الأصلية والراسخة من خلال برمجة تزيح الأخلاق، وتوهم الفرد بقصد إيقاعه في شراك الماديات التي تجعل منه كائناً غريباً في منتهى الأنانية.
والذكاء الحقيقي الذي يلزم التعامل به مع هذه الحالة هو ذكاء الاعتدال والتعقل في محاورة الأفراد الذين وقعوا في شراك الانفتاح السلبي، فأي رد فعل سلبي سيجعل الذكاء في مهب الريح.
الذكاء يكمن في محاورة الشخص من خلال جعله يشعر بالمسؤولية تجاه مجمل القضايا التي تمس الواقع الانساني، وتشجيعه على إيجاد حلقة وصل بين المستجدات وبين القيم، والتركيز كذلك على تنشئة الأجيال على مفاهيم الوسطية. إن الوصول لنقطة وسطية أصبح من الضرورات الملحة التي تجعل العالم الإنساني بمنأى عن أخطار التطرف الجهوي والفكري والفقهي، نقطةٌ تعمل على أفول كل ما يمت للتعصب وتقطع الطريق أمام إنشاء حضارة قائمة على أحادية الفكر والسلوك، نقطة تجعل العالم أكثر مرونة في التعاطي مع الآخر، وأقل عدائية تجاه المشاريع الفكرية والتنموية الناضجة، وذلك من خلال تهيئة متعددة الاتجاهات أهمها الثقافة بشقيها الفردي والجماعي، فضلاً عن عملية تقريب العلاقة بين المجتمعات على الأسس المشتركة مع احتفاظ كل مجتمع بهويته وتراثه وخصوصيته على صعيد المتبنيات الدينية أو الفكرية رغم صعوبة المهمة التي لا تعني استحالتها في حال آمنّا بذكائنا المستقبلي لا المرحلي.
اضف تعليق