أكثر سؤال ينبغي أن تسأله شعوبنا في الشرق هو: لماذا بعد فترات قصيرة من اندلاع الاحتجاجات المطالبة بالحقوق، والصارخة بوجه الأنظمة الديكتاتورية، نرى أن اللاشيء نتيجةً حتميةً للحراك الاحتجاجي؟ وقناعة اللاشيء هذه أكدت حضورها الأمثل من خلال الأحداث التي شهدتها بلداننا في الموجة \"الربيعية\" الاحتجاجية...
أكثر سؤال ينبغي أن تسأله شعوبنا في الشرق هو: لماذا بعد فترات قصيرة من اندلاع الاحتجاجات المطالبة بالحقوق، والصارخة بوجه الأنظمة الديكتاتورية، نرى أن اللاشيء نتيجةً حتميةً للحراك الاحتجاجي؟ وقناعة اللاشيء هذه أكدت حضورها الأمثل من خلال الأحداث التي شهدتها بلداننا في الموجة "الربيعية" الاحتجاجية، حيث بدأنا نلمس التذمر المتدحرج مثل كرة الثلج لدى الذين انتفضوا واحتجوا وصرخوا، فما كان من صراخهم إلاّ أن ينتج أنظمةً شاحبةَ الملامح، بدون أية مشاريع أو تصورات للمستقبل، فبدأوا ــ المحتجون ــ يراجعون شرارة احتجاجاتهم؛ ليقفوا على أسباب خفوت توهجها من خلال النتائج المتحصلة، فهل كانوا حالمين؟ هل كانوا انفعاليين؟ والشيء المخيف الأكثر الذي يتبادر إلى أذهان هؤلاء المحتجين، هو شعورهم أنهم كانوا ضحية إرادات ساعدتهم، بل دفعتهم بقوة للمطالبة بحقوقهم، والحصول على أنظمة تلائم متطلبات مرحلتهم المتسارعة التغييرات، حتى وصلوا إلى أن هذه الإرادات تريد أن تشل أية فكرة للتغيير بسلاح التغيير نفسه!
وبمراجعة بسيطة لمخرجات الواقع الاحتجاجي في بلدان مثل تونس ومصر وليبيا؛ نلحظ شيئاً من الحنين الارتدادي لأزمنةٍ تم الصراخ بوجه ديكتاتوريتها وتسلطها، وهو حنين يكاد يكون النقطة المشتركة الوحيدة التي تجمع محتجي هذه البلدان حتى مع اختلاف الظروف التي مروا بها، لكن قناعة أن الجحيم هو المشترك الذي وصلوا إليه بمطالبتهم بالحياة الجميلة والحرة هي التي رسخت.
هل دخلت الإيديولوجيا على الخط؟
نعم ، وكل من ينفي هذه الحقيقة يبتعد عن الواقع المر بمسافات شاسعة، فنحن وإن كانت مطالباتنا بالتغيير حقيقية وعادلة؛ إلا أننا لا يمكن أن نخفي انفعالاتنا، وعدم قراءاتنا الموضوعية للمعطيات السياسية والفكرية والاقتصادية من حولنا. هذا الانفعال، وعدم القراءة يسهلان بشكل كبير نفاذ الإرادات الإيديولوجية إلى قناعاتنا بشكل غير مباشر، أو بصورة مباشرة في بعض الأحيان يتم غض النظر عنها؛ لأنها تتعلق بقناعات مذهبية تجعل من الصعوبة، أو قل من الاستحالة رفضها، أو حتى مناقشة أسباب دخولها على الخط. وهذا هو الذي حصل فعلاً في الاحتجاجات التي شهدتها سوريا منذ سنوات، إذ سرعان ما تحولت المطالبات الاحتجاجية إلى قناعات طائفية ومذهبية دخلت في صراع الأضداد السياسية بين القوى الإقليمية الكبرى. وقد رأينا كيف أن هذا الصراع أدى إلى نشوب الحرب التدميرية بين أقطاب الصراع على الأرض السورية التي ذاق شعبها مرارة هذا الانقسام المر في ثنائية مؤيد/ معارض.
إنَّ الأنموذج السوري كان الأشد سطوعاً من غيره في قضية حضور الأدلجة المكثف في حركات الاحتجاج، فبعيداً عن صراع القوى الكبرى بين أميركا وروسيا، مروراً بإيران وتركيا، كان للإيديولوجيا الناعمة حضورها أيضاً من خلال تدخل دول تمثل عمقاً مذهبياً معيناً أرادت فرض الإرادة الطائفية على الواقع السوري، فقد دفعت دول مثل الإمارات والسعودية الأموال الطائلة، وجندت كافة الإمكانيات من أجل التغيير وفق المزاج المذهبي، في رأينا أن هاتين الدولتين وقفتا بشكل قطعي بالضد من الحركات الاحتجاجية في البلدان العربية الأخرى، وهو ما يؤكد المزاج المذهبي المنتقى في التعامل مع الأصوات الاحتجاجية المطالبة بالتغيير.
فما كان من الشعوب المسكينة إلا أن تقع ضحية هذا المزاج، لتجد نفسها داخلة في لعبة القط والفأر، لاعبةً بالنار التي لن تحرق سوى آمالها وتطلعاتها. وكلنا يشاهد المزاج المذهبي المؤدلج للدول التي اجتهدت في دعم المحتجين، وحركات المعارضة السورية القائمة أصلاً على النسق المذهبي في أكثريتها، نشاهده يعود مرة أخرى بعد فشل إراداته إلى فتح السفارات في البلد الذي أرادوا إسقاط نظامه، وهاهم يعودون للاعتراف به دبلوماسياً. لكن ماهو مصير الذين سقطوا في هذه الحرب العبثية؟ هل سأل المحتجون مثل هذا السؤال؟
لابد لنا قبل كل شيء من مصارحة ذواتنا المتناقضة، فليس من المعقول أن نؤسس حركات احتجاجية، ونرتمي في أحضان دول تمدنا بالسلاح والمال، ثم نعود لنرمي السلاح مقتنعين بالذي قمنا بالثورة ضده، ثم بعد ذلك نشاهد الدول التي دعمتنا تحذو حذونا وتفتح سفاراتها وكأن شيئاً لم يكن خلال هذه السنوات المريرة.
لابد لنا من الوقوف على حقيقة أننا أمام لعبة دولية، بإشراف قوى كبرى تتحكم بالمصائر، غاية ما تريده إيصال رسائل للأنظمة السياسية بأننا نستطيع متى شئنا قلب الطاولة عليكم وعلى أحزابكم ومصالحكم، وفي الوقت ذاته نستطيع أن نبقيكم في أماكنكم حتى مع الأصوات الصارخة بالتغيير، فهذه الأصوات يمكن إسكاتها بذات الحناجر التي تصدح بها طالما تمكنّا من مهارة اللعب بأوراق الاقتصاد والسلاح والعقائد.
وكلما وقفنا أمام هذه الحقائق، وواجهنا قناعاتنا نقدياً بمصارحة ومكاشفة؛ يمكن لنا حينها أن نفكر بالمخرج الموضوعي من نفق أزماتنا المعتم.
اضف تعليق