مشهد من الاهانات عاشه معلم في احدى مدراس محافظة الموصل، وهو يقف بين يدي المحافظ مطأطئا رأسه، يوبخه المحافظ بقسوة منقطعة النظير يستدعي حرسه ليجلبوا له ما يطلق عليه \"المطركة\" ليضربه ضربا مبرحا، يطرده من مكتبه فينفذ المعلم الأوامر، يصرخ به المحافظ من اجل العودة...
مشهد من الاهانات عاشه معلم في احدى مدراس محافظة الموصل، وهو يقف بين يدي المحافظ مطأطئا رأسه، يوبخه المحافظ بقسوة منقطعة النظير يستدعي حرسه ليجلبوا له ما يطلق عليه "المطركة" ليضربه ضربا مبرحا، يطرده من مكتبه فينفذ المعلم الأوامر، يصرخ به المحافظ من اجل العودة، فلا العودة مسموحة ولا المغادرة، كل ما عليك الوقوف امامي لاشبعك اهانات رغم عدم صدور امر قضائي بهذا الامر، والمحافظ يفترض انه السلطة الحامية للقوانين.
المشهد صوره الفريق الإعلامي لمحافظ الموصل ونشره على مواقع التواصل الاجتماعي، موضحا ان سبب قيام المحافظ بهذا الاجراء المهين معاقبة انية للمعلم لقيامه بضرب الطلاب بطريقة غير رحيمة، فالاخير خلع احذية الطلبة ووضعهم على الكراسي وضربهم بالعصا على اقدامهم العارية، بينما يصرخ الأطفال بقوة وكانهم في غرف التعذيب في سجن أبو غريب. نعم المشهد شبيه بالسجون التي تقيمها الأنظمة الديكتاتورية.
ما بين المحافظ والمعلم علاقة اتفقا فيها على خرق القانون، فالمعلم لا يحق له اخذ دور الجلاد، وليس من حقه ان يتجاوز الحدود العامة لوظيفته، حيث التربية والتعليم، تربية الأطفال ليندمجوا مع النظام الاجتماعي، وتنشئتهم بالقيم الرفيعة وتقديمهم كمواطنين تقع على عاتقهم مهمة الاستمرار في بناء ما اجتهد عليه الإباء.
هذه المهمة الوظيفية للمعلم تضعه امام التزامات شتى تصب في النهاية بمطلب اجتماعي يتمثل بضرورة نجاحه في تقديم مواطنين صالحين، ولكن المعلم قد يتعرض لضغوطات من قبل السلطات الإدارية تصل الى حد العقوبات اذا لم يحقق نسب نجاح عالية، ومع عدم توفير متطلبات النجاح مثل المدراس النموذجية، وتوفير ابسط مستلزمات التدريس، وتقسيم بعض المدارس الى دوام مزدوج او ثلاثي، (صباحي وظهري، وعصري)، والراتب لا يكفي لسد لقمة العيش ما يضطره للعمل في مهن أخرى لا تتناسب مع وضعه، مثل اشتغاله بالتكسي، ولك ان تتخيل احد الطلبة يقوم بتاجير المعلم ليوصله الى البيت!
هذه الضغوطات تدفع المعلم الى استخدام أساليب عنيفة من اجل الحفاظ على نسب النجاح للطلبة، فهم لا يستجيبون لتعليماته، وكيف لهم الاستجابة وهم يرونه يتسكع في الشوارع يبحث عن لقمة عيشه، انه ذلك الانسان الضعيف الذي لا يمكن له ان يكون انموذجا لهم، الا انه يحاول بطريقته ان يكون نموذجا مخيفا، ذلك النموذج الذي روجت له الأنظمة الديكتاتورية.
لا يزال كبار السن يتحدثون عن ما ينسميه اليوم بـ"المعلم المخيف"، فهم يتفاخرون انهم كانوا في السابق يهربون عندما يشاهدون المعلم في الشارع او في السوق، او في أي مكان عام، لانهم يتوقعون ان يوبخهم او يضربهم في أي لحظة ومن دون سبب، الا لانه المعلم الذي يحق له فعل ما يشاء مع طلابه، هكذا توارثت الأجيال صورة المعلم، وهذا الأخير يعتقد ان عليه تطبيق هذا المبدأ.
ربما يكون نموذج "المعلم المخيف" انعكاسا لنظام الحكم آنذاك، فالخوف هو القيمة الأكثر أهمية بالنسبة للنظام الديكتاتوري الذي حكم العراق بالحديد والنار والسجون والقتل والاعدامات بدون محاكمة، او مع محاكمات صورية، لانه لا يضمن استمراره الا مع هذه السياسة الجوفاء.
ومع ولادة نظام ديمقراطي تعددي لا يخشى أي انسان ان يعلن رفضه للظلم والاضطهاد من أي شخص مهما كانت وظيفته، يمكن للمعلم المخيف ان ينقرض، فالاطفال اصبحوا مع مواقع التواصل الاجتماعي اكثر وعيا بحقوقهم، ولديهم من البدائل ما يجعل المدرسة مكانا ثانويا، والتهرب منها سهل جدا، فطرق تحصيل العلم واكتساب قيم اجتماعية لا تنحصر بين اركان الصف الدراسي.
على المعلم ان يعي هذه الحقيقة، وان لا يزاحم الجلادين في وظائفهم، فهو يتربع على اقدس وظيفة اوجدتها الحضارة الإنسانية، انه القدوة الصالحة التي يقتدي بها الطلاب، وهم يعكسون ما يتعلمونه في المدرسة على سلوكهم الاجتماعي، ومنهم من يكون طبيبا او مهندسا، وربما يكون احدهم محافظاً سيعيد الاهانات التي تلقاها يوما ما على مدرسه.
ان استخدام الأسلوب العنيف في المدارس يولد لنا جيلا من الموظيفين والشرطة ورجال الجيش والقضاء والاعلام والمعلمين وأساتذة الجامعات ممن لا يجدون الا العنف كوسيلة للتواصل مع الاخرين. ولا يمكن حل هذه الإشكاليات الا بتحكيم القانون واعتماد النظام المؤسساتي فهو الحل لترسبات المراحل السابقة التي لا تزال تنخر جسد الوطن وتزيده عنفا.
اضف تعليق