الإرهاب لا هوية له، فهو يتشرب بمختلف الأفكار والمعتقدات، التي قد تكون دينية أو فلسفية أو سياسية أو غير ذلك، إلا أن شقا عظيما من الخطاب الإعلامي والفكري الغربي عادة ما يربط اليوم ظاهرة الإرهاب بالإسلام، وهو يغض الطرف عن العديد من أشكال الإرهاب التي تمارس من قبل غير المسلمين، أو يطلق عليها مسميات ومصطلحات مغايرة توحي بأنها ليست إرهابا، وإنما سلوكات بشرية طارئة وغير مخططة، يمكن لها أن تحصل من حين إلى آخر.
وهو يسقط بذلك في مطب الازدواجية الفكرية أو النفاق بالمفهوم الديني والأخلاقي، لأنه يعتبر كل سلوك عنيف يصدر من المسلمين إرهابا غير مقبول ينبغي الوقوف له بالمرصاد، في حين يعتبر العدوان الصهيوني على فلسطين أمرا جد طبيعي يجب دعمه بالقانون والمال والسلاح من أجل حماية الشعب اليهودي الأبي، وتتم تغطية الأزمة الأوكرانية على أنها مشكلة سياسية وليست حربا شرسة ضد المصالح الأوروبية، حيث يكشر الدب الروسي عن أنيابه وهو يزرع الإرهاب في نفوس الشعب البريء.
إن الإرهاب قبل أن يلصق بأي إيديولوجية دينية أو سياسية فهو يحيل لغويا على دلالات الخوف والتخويف والتوجس، وهذا يعني أن أي ممارسة أو سلوك يؤدي إلى الخوف أو يولد الفزع في النفوس يعتبر شكلا من أشكال الإرهاب، فالتخويف باسم الدين كما يفعل تنظيم الدولة في العراق وسوريا لا يختلف في الأصل عن التخويف الذي قد تسببه مافيات المخدرات أو السرقة في العديد من أحياء المدن والعواصم الكبرى. فكلاهما إرهاب منظم يهدد المجتمع مع اختلاف في الظروف والخلفيات. فإذا كان الإرهاب باسم الدين يسعى إلى نشر العقيدة وبسط السلطة، فإن إرهاب المافيا يسعى إلى بناء إمبراطورية المال والتوغل في الدولة العميقة، ومن ثم التحكم في مختلف دواليب الدولة، كما صنعت مافيا صقيلية المعروفة باسم كوزا نوسترا التي ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر، وتصنع اليوم العشرات من شبكات المافيا الدولية في شتى أصقاع العالم.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى إحصائيات رسمية لحجم الجرائم التي تم ارتكابها سنة 2013 في بلجيكا، التي لا يتجاوز عدد سكانها إحدى عشر مليون نسمة، غير أنها شهدت وقوع جرائم متنوعة ومتعددة تقدر بعشرات الآلاف. حسب الشرطة الفدرالية البلجيكية تم سنة 2013 تسجيل أزيد من 320 ألف جريمة وسرقة (+75 ألف اقتحام منازل، + 66 ألف سرقة من داخل أو بالسيارات، + 44 ألف تحطيم سيارات، + 40 ألف سرقة جيوب، + 33 ألف سرقة دراجات هوائية، + 22 ألف سرقة محلات تجارية، + 18 ألف سرقة بالسلاح، + 10 ألف سرقة سيارات، إلخ). ألا يمكن اعتبار التهديد الميداني العارم الذي يشكله هذا الزخم من الجرائم اليومية للمجتمع إرهابا ملموسا ومؤكدا بالأدلة والأرقام الرسمية؟ غير أن صناع القرار عادة ما يتجاهلون هذه الحقائق "الإرهابية" اليومية التي فشلوا في طرح مقاربة تربوية وسوسيو-ثقافية ناجعة لها، وينشغلون بالإرهاب الافتراضي الذي أصبح يشكل ورقة ناجحة لا سيما أثناء قدوم المواسم الانتخابية.
ولعل الطريقة المأساوية التي سقطت أو أسقطت بها طائرة الخطوط الألمانية Germanwings تشكل أفظع أصناف الإرهاب البشري، التي لم يقدمها الإعلام الغربي على أنها عمل إرهابي شنيع، وإنما على أنها "حادثة غامضة" حصلت (ربما) جراء انتحار الطيار المساعد، كما تشير الفرضيات الأولى للخبراء الذين قاموا بفحص العلبة السوداء للطائرة.
أثناء قراءتي لبعض ما كتبته الصحافة الغربية في هذا الصدد استرعى انتباهي حجم الانتحارات التي نفذها ربابنة بعض الطائرات أثناء العقود الأخيرة، هذا ناهيك عن الطائرات الكثيرة التي اختفت بشكل غريب، مما يثير العديد من الشكوك لدى خبراء ومفتشي الطيران. ذكر الصحافي الهولندي هانس ستيكيتي في مقالة له نشرتها جريدة NRC اليومية حالات انتحار كثيرة قام بها بعض الربابنة، أودت بحياة مئات المسافرين الأبرياء. ولعل ملابسات تحطم طائرة كانت تربط سيريلانكا بجكارتا وسينغافورة سنة 1997 لا تختلف كثيرا عما جرى للطائرة الألمانية مؤخرا. فعندما غادر مساعد الطيار المقصورة، ترك قائد الطائرة وحيدا الذي كان يعاني من مشاكل نفسية دفعته إلى تحويل الطائرة نحو الأسفل، فترتب عن ذلك مقتل 104 مسافر! غير أن الفرق هنا أن الفاعل ليس قائد الطائرة وإنما مساعده الشاب أندرياس لوبيتز البالغ من العمر 27 عاما. ويمكن الاطلاع على حالات انتحارية مشابهة في لمحة عامة أنجزتها شبكة السلامة للطيران (ASN).
إن الكتابة حول كارثة تحطم طائرة الخطوط الألمانية كان في الحقيقة جراء تأمل عميق في هذه النازلة الغريبة، التي تناسلت حولها فرضيات عجيبة في وسائل الإعلام الغربي، إذ عوض ما تشجب هذه الجريمة الدنيئة ضد الإنسانية التي راح ضحيتها حوالي 150 مواطن من جنسيات متنوعة، منهم 15 تلميذا يدرسون في المرحلة الثانوية، فهي تنكب على البحث في بعض التفاصيل الشخصية لمرتكب الجريمة قصد تفسير أو بالأحرى "تبرير" فعلته الشنعاء، حيث هناك من يعلل ذلك بأزمة نفسية كان يمر بها الطيار الذي كان يخضع لعلاج طبيب نفساني، وهناك من يرى أن الطيار استلهم الاختفاء الغامض للطائرة الماليزية السنة الماضية، وهناك من يقر بأن الطيار كان يعرف جيدا المنطقة التي تحطمت فيها الطائرة بجبال الألب الفرنسية، حيث نظم نادي الطيران الذي ينتمي إليه رحلات شارك فيها شخصيا. لذلك من الأرجح، كما تستنتج جريدة AD الهولندية، أن أندرياس لوبيتز اختار بوعي تام هذا المكان الذي يعرفه جيدا.
وهكذا ينجح الإعلام كالعادة في صرف الرأي العام الغربي عن حقيقة أن ما وقع جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس، إلى جزئيات تخص الحالة الشخصية للطيار، كأننا أمام رواية أدبية جامحة تجعل منه بطلا ينتقم لنفسه من أزمته السيكولوجية وغربته الوجودية وضياعه الإلحادي، لا أمام كارثة إنسانية ذهب ضحيتها العشرات من الأبرياء الذين قدمهم الجاني قربانا لغروره الشيطاني! ألا يشكل هذا ذروة الإرهاب المادي والنفسي؟ ألا تكشف الطريقة التي يغطي بها الإعلام مثل هذه النازلة عن ازدواجية غريبة؟ ألا يعتبر هذا ضحك مخز على ذقون المواطنين من قبل مسؤولي شركة الخطوط الذين كانوا على علم بأزمة الطيار، ومع ذلك سمحوا له بقيادة الطائرة إلى الجحيم؟ ألا تهدد هذه الحماقات التي تنتاب بعض الطيارين المتهورين سلامة الملاحة الجوية؟
مثل هذه الأسئلة اللاهبة وغيرها تكاد تنعدم لدى الإعلام الغربي في تعاطيه مع هذه الكارثة، غير أنه عندما يتعلق الأمر بشخص مسلم سرعان ما يتم ربط ذلك بالدين الإسلامي، وتقديمه على أنه يشكل خطرا على الحضارة الغربية وتهديدا لطمأنينة المجتمعات الغربية، فينطلق الإعلاميون المؤدلجون والباحثون المسيسون في التنظير لظاهرة الإرهاب على أنها إسلامية في الأصل، وعلى أن المسلمين إرهابيون بالسليقة والطبيعة! ولعل كارثة تحطيم الطائرة الألمانية من قبل طيارها المتهور تعتبر دليلا قاطعا على أن الإرهاب لا هوية له، وأن التعاطي الأمني الغربي سوف يظل عاجزا عن تفكيك هذه الظاهرة المستعصية، ما دام يركز على المقاربة الأمنية على حساب ما هو تربوي وأخلاقي واجتماعي من جهة، ويختزل الإرهاب في العامل الديني (الإسلامي) دون غيره من عوامل الجريمة المنظمة من جهة ثانية.
اضف تعليق