ما هو السبب الذي يدفع هؤلاء إلى اقتراف مثل هذه السلوكات الشاذة، سواء الراعي الذي يمزق نعليه ليصبح بعد ذلك حافي القدمين أو بعض مرتادي الشبكات الاجتماعية الذين يمزقون الوشائج الاجتماعية ويدمرون الصداقات ويزرعون البغض والكراهية؟ يمكن تفسير ذلك بغياب هدف أو رسالة واضحة في حياة هؤلاء...
يقول المثل الريفي إن راعي الغنم عندما لا يجد ما يفعل يمزق نعليه! لعل هذا هو حال عدد كبير من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي اليوم، الذين عوض ما يستثمروا هذا الفضاء الرقمي المهم فيما هو إيجابي لهم وللمجتمع، فإنهم يستعملونه لنشر غسيلهم سواء الشخصي أو العائلي، وتتبع سوءات الآخرين، وفضح المستور، ومن ثم تمزيق العلاقات والوشائج الاجتماعية.
إن الفرق بين هؤلاء وراعي الغنم هو أن الراعي لا يعتدي في فعلته الشاذة هذه إلا على نفسه، ربما عن لاوعي منه، فهو لا يلحق بذلك الضرر بغيره! بينما ضرر بعض مستعملي الشبكات الاجتماعية يمس غيرهم عادة مع سبق الإصرار، وبشكل متعمد.
تميز ميغان فان مير بين ستة أنماط من مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي، أولها The Lurker وهو يتابعك بصمت على الفيسبوك والإنستغرام على سبيل المثال، ولا يحب أن يشارك منشوراتك أبدا. وتشير الدراسات إلى أن غالبية مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يتربصون. والنمط الثاني يطلق عليه The Liker، أي المعجب الذي يتفاعل مع تدويناتك بشكل منتظم، لكن ليس معجبا مخلصا، لأنه لا يفعل أكثر من الضغط على زر الإعجاب. أما النمط الثالث فهو صائد الفرص The Bargain Hunter، لاسيما فيما يتعلق بالصفحات التجارية، حيث يبحث دوما عن فرص التخفيض والهدايا إلى حد الإزعاج!
ثم هناك المستخدم المشتكي The Complainant، وهو النمط الرابع الذي يصعب التعامل معه، ويستحيل تحويله إلى صديق مخلص، لذلك يُنصح بالتعامل معه بهدوء، وعدم فتح نقاشات طويلة معه. في حين يعتبر النمط الخامس النقيض للنمط الأول الصامت، فهو يشجع الكل The All-Sharing Fan، ويتفاعل مع كل ما يُنشر، ويعيد نشر كل شيء، إلى درجة أنه قد يغيض بعض الأصدقاء الافتراضيين.
وفي الأخير، هناك المتابع المخلص The Loyal Follower، الذي يعبر عن ولاء كبير لك، ويعتبر أفضل متابع يمكن أن يتمناه كل واحد، لأنه معجب حقيقي بما تنشر، ويحب مشاركة ذلك مع أصدقائه بطريقة صحيحة وبنّاءة، سواء عبر الإعجاب أو التعليق أو مشاركة المحتوى.
في الحقيقة، حاولنا أن نبحث عن النمط الذي يناسب المستخدم الشاذ الذي أشرنا إليه آنفا في معرض المقارنة مع راعي الغنم، فلاحظنا أن لا أحدا من أنواع المستخدمين الستة أعلاه يوافق طبيعته! لا ندري، ربما لا يوجد هذا النوع في المجتمعات الغربية التي وضع هذا التصنيف على أساسها، أو أن الباحثة تجنبت الحديث عن هذا النوع من المتابعين السلبيين الذي لا يستحق أن يُذكر. ومهما يكن السبب، فلا مناص من إضافة نمط سابع من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، وما أكثرهم في فضائنا الرقمي! ويمكن أن نطلق عليه المتابع المعتدي أو الشاذ (ليس جنسيا، بل أخلاقيا!)، ونسميه بالإنجليزية مجازا The Transgressor، الذي يتجاوز القوانين والحدود المتعارف عليها.
ويحيل هذا النمط المعتدي من مستخدمي الشبكات الاجتماعية على ما يطلق عليه في تصنيف آخر The Troll، الذي يعني ذلك القزم الذي يتجاوز حدود اللباقة والمعارضة الإيجابية ليبث خطاب الكراهية، أو The Spammer الذي يزعج الآخرين برسائله وتعليقاته المبتذلة زاعما أنها على مستوى عال من الجودة.
عود على بدء، تُرى ما هو السبب الذي يدفع هؤلاء إلى اقتراف مثل هذه السلوكات الشاذة، سواء الراعي الذي يمزق نعليه ليصبح بعد ذلك حافي القدمين أو بعض مرتادي الشبكات الاجتماعية الذين يمزقون الوشائج الاجتماعية ويدمرون الصداقات ويزرعون البغض والكراهية؟
لعله يمكن تفسير ذلك بغياب هدف أو رسالة واضحة في حياة هؤلاء. ونكتفي هنا بمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي فقط دون العودة إلى راعي الغنم، لكونه لا يضر إلا نفسه، في حالة ما إذا نحن أوّلنا ذلك المثل الريفي بشكل حرفي، وهذا قد لا يستقيم، لأن القائل استعار الراعي لإيصال معنى أو حكمة حول من لا شغل له يملأ به فراغه، ولا هدف له في الحياة يسعى حثيثا إلى تحقيقه.
عندما نتأمل طبيعة مستخدمي بعض الشبكات الاجتماعية، لاسيما الفيسبوك والإنستغرام والتيك توك نجد أن شقا كبيرا منهم جاء إلى هذا العالم الافتراضي بالصدفة أو عبر محاكاة بعض الأصدقاء وأفراد العائلة، فمنهم من لا يتقن لغة التواصل بشكل سليم، حتى في إطار المجموعة الضيقة من الأصدقاء التي ينتمي إليها، ومنهم من يعاني من الأمية الرقمية، ومنهم من تنعدم لديه الرؤية ويغيب عنده الهدف من الانخراط في العالم السيبراني.
إذا كان النوع الأول يستطيع أن يتفاعل مع من هم في مستواه اللغوي والمعرفي (هدف التواصل)، والنوع الثاني يمكن أن يتخلص من أميته الرقمية عبر الاكتشاف والاعتياد (هدف التعلم)، فإن النوع الثالث يخوض تجربة العالم الافتراضي هائما على نفسه، وتائها عبر الصفحات، تماما كالذي يركب القطار دون أن يعرف أين هو ذاهب! أو الذي يتجه إلى السوق دون أن يدري لماذا! وينطبق على هذه الفئة قول الشاعر إيليا أبو ماضي:
جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ /// وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ
وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ //// كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي لَستُ أَدري
هذه اللا أدرية والتيه والحيرة التي يعيشها بعض الناس في الواقع، نراها كيف انتقلت إلى العالم الافتراضي، حيث تسود مجموعة من التدوينات والمنشورات الغريبة التي لا روح فيها ولا حياة ولا معنى، وتُستنسخ الصور والأشرطة والأفكار حتى أصبح بعض المستخدمين كالآلات الناسخة لكل شيء، ويُنشر الغسيل الشخصي والعائلي إلى درجة أن البعض لم يبق له إلا أن ينقل للعالم حتى ما يقوم به في الفضاءات الخصوصية، وتشتعل المعارك التي لا تخلو من الشتم والسب والتهديد، وهكذا دواليك. وقد أفضى غياب الرؤية لدى بعض المستخدمين إلى نشوء عادات سلبية كإزعاج الآخرين بالرسائل التافهة والتعليقات المنحطة، وتجاوز حدود الأخلاق، والاعتداء على حرية الغير، وزرع الكراهية، وغيرها.
وهكذا انعكس واقع الناس على الشبكات الاجتماعية، فتم نقل ما يحصل في المقاهي والحمامات الشعبية إلى الفضاء الأزرق، فأصبحت الصفحات والمجموعات مرصوصة مثل المقاهي في شوارعنا، حيث يجتمع بعض الناس لقتل الوقت بآخر الأخبار المحلية والوطنية والدولية وفضائح السياسة والإعلام والجنس التي لا تخلو من النميمة الخفية أو العلنية. كما نقل بعض النسوة واقع الحمامات الشعبية إلى عالم اليوتيوب والفيسبوك والتيك توك عبر روتيني اليومي والتعري والرقص الفاضح.
من يدري لعل راعي الغنم نفسه اكتشف أو سوف يكتشف قريبا شبكات التواصل الاجتماعي، فيُمتّع أعيننا على الأقل بصور الأغنام والماعز والوحيش وبمشاهد الجبال والسفوح والأنهار على إيقاع الناي وثغاء الخراف، حتى نتخلص من خطاب التسيب والكراهية والتفاهة الذي ما انفك يحاصرنا اليوم في كل بقعة من العالم الافتراضي.
اضف تعليق