q
في العراق، وحتى مع وجود الانتخابات التي يختار الشعب فيها ممثليه الذين ينتجون حكومة وطنية، لم تختف مظاهر الفساد بعد أن رسخت التجربة الجديدة

حدد علماء الاجتماع الفساد بانتهاك القواعد المتعلقة بالسلوك القويم، هذا الانتهاك في حالة حصوله بأشكال متعددة؛ سيؤدي إلى حالة تتفسخ فيها كل القيم والأعراف والأخلاقيات؛ بسبب غياب الاتزان والاستقامة للشخص الذي ينتهك هذه القواعد، أو الشخص الذي يخرق القوانين - الموظف مثلاً - ويستبدلها بآليات عائلية أو عشائرية أو حزبية جاعلاً من الموقع الوظيفي مطية يركبها لأجل المتاجرة الفاسدة وهي (رابحة) بالنسبة له ولنمط تفكيره على مستوى الأفق الزمني المرحلي . ومن الطبيعي أن تكون هناك ردات فعل احتجاجية على هذا النمط السلبي من السلوك ستزيد من تعقيدات الوضع الاجتماعي حيث إشاعة الجريمة والتطرف الفكري وغياب المهنية والتلكؤ في أداء المهام الوظيفية وغيرها من أشكال تشويه البنية الأخلاقية، وزيادة الاحتقان المجتمعي.

إن تنامي أشكال الفساد وخاصة في البلدان التي تصنف أنها من البلدان النامية؛ سيرتبط جذرياً بمجالات أساسية في حياة الإنسان، وتؤثر بشكل كبير على مجريات حياته محدثة حالة من التصادم بين قيمه وبين الواقع المرير الذي يعيشه، والذي يرى فيه مصادرة لكرامته وحقوقه الانسانية.

وحتى مع اتخاذ الفساد اشكالاً اقتصادية واجتماعية وأخلاقية؛ فإن الشكل السياسي منه يبقى الأشد فاعليةً؛ كونه يمثل البوابة الرئيسة والمشرعة لدخول أشكاله الأخرى في الجسد الاجتماعي؛ ربما لأنه يرتبط بشكل أو بآخر بمفهوم مركزية الدولة وتكريس سلطتها حتى وإن اتخذ التكريس شكلاً مؤسساتياً تسيطر عليه الأحزاب القريبة من السلطة أو أحزاب السلطة ذاتها، بحيث تكون مسؤولة عن كل شيء يتعلق بتنمية المجتمع وكأنها هي الوحيدة التي تملك بيدها مفاتيح صناعة المستقبل، وبالتالي ستتولد حالة من الاحتقان لدى أفراد المجتمع، الأمر الذي قد يؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار، بل قد يحدث نتائج أكثر سلبية تتمثل بازدهار الفساد المعاكس أو الفساد الموازي، فيكون الفساد السياسي بذلك سُلَّماً تنازلياً لأشكال أخرى منه.

شكلت ظاهرة الفساد المالي والإداري أيقونة مخيفة تشي بتصدع أو ربما انهيار منظومات القيم الأخلاقية والمجتمعية حتى رغم تباينه واختلافه من مكان لآخر، لكنه يتحد اتجاه مصادرة الاستحقاقات الإنسانية حين ينشئ له مافيات فئوية وحزبية تفتح المجال أمام تنافس غير مشروع قبل أن يتحول إلى ثقافة وسلوك ينتشران كالنار في الهشيم ويجعل الحديث عنه وعن آثاره ضرباً من الترف النقدي والتنظيري مالم ترافق عملية الكتابة والبحث جهود حقيقية تشخص المسببات وتعمل على وضع الحلول والمعالجات لاستئصاله.

وفي كل المراحل الزمنية كان الفساد سبباً لنشاط الحركات المعارضة سياسياً أو نشوط الحركات الاحتجاجية التي تأخذ طابع التمرد المدعوم على مستوى القطعات العسكرية ضد الحكومات التي شيدت أمجادها وامبراطورياتها على حساب استحقاقات الأفراد ؛ لذلك نلحظ أن أن هذه الحكومات تلجأ دائماً إلى تحصين نفسها عبر الإيغال بنهب الخيرات مستبقة بذلك أية حركات احتجاجية قد تطيح بها فيكون فسادها - عند هذه النقطة – مضاعفاً.

والكثير من الدراسات المختصة أولت الفساد اهتماماً كبيراً وناقشته من الجوانب القانونية والاقتصادية والسياسية أجمعت على أنه ظاهرة مستمرة لايكاد يخلو مجتمع أو نظام من وجودها وآثارها .

ولعل أهم مراحل تطور الفساد هو الخلط بين القيم الأخلاقية والأنظمة السياسية بحيث تسود النظرة على كل من يخالف هذه الأنظمة بأنه خارج على السائد الاجتماعي المتبع، وقد أسس لهذا الخلط بعض الاتجاهات الدينية المنحرفة عن المسار الصحيح.

في العراق، وحتى مع وجود الانتخابات التي يختار الشعب فيها ممثليه الذين ينتجون حكومة وطنية، لم تختف مظاهر الفساد بعد أن رسخت التجربة الجديدة مبدأ المحاصصة البغيض بذريعة تمثيل مكونات الشعب المتعددة بإدارة البلاد، وراح السياسيون الممثلون لهذه المكونات العرقية والعرقية والمذهبية يتسابقون في نهب خيرات البلد وبأساليب متعددة متحصنين بالمثل الشعبي الدارج ( شيّلني واشيلك ) بعد أن غاب الدور الرقابي البرلماني وتلاشى في دخان الصراعات على المصالح والنفوذ، وهيمنة زعماء الكتل والأحزاب الصاعدة بالآليات التي خاطت لهم القميص الديمقراطي الفضفاض.

تبدو مضامين الديموقراطية مهددة بالإفراغ من محتواها الحقيقي في حال استمرت مكونات الفساد السياسي في التفاعل والتكاثر منتجة الفوضى واليأس من أية عملية إصلاحية طالما استمر المنهج البيروقراطي المكرّس للسلطة والمركزية التي تعتمد على قليلي أو معدومي الخبرة والمعرفة في قضايا الإدارة، وهنا الطامة الكبرى الممثلة بصعود الطفيليات إلى مواقع اتخاذ القرار الإداري مُغَلِّبة المصالح الفئوية والحزبية على حساب المنهج الصحيح.

وهنا لابد من فعل يوازي البيروقراطية، ويقف في مواجهة التكريس السلبي للسلطة، وقد يتجسد هذا الفعل بمنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الثقافية والفكرية المستقلة، باعتبارها شريكاً استراتيجياً للسلطة السياسية، ومن خلالها يقوم المواطنون بتأدية أدوارهم المعرفية والثقافية والاقتصادية والرياضية، وغيرها من الفعاليات المرتبطة بحياة المجتمع اليومية؛ بهدف تعزيز الحالة الديموقراطية، وتكريس الحريات المدنية على أنواعها.

يبدو هذا المنحى وأمام الواقع المرير للبلدان النامية خيالياً ورومانسياً جداً، فحتى المنظمات المدنية، والمؤسسات صارت بيد الأحزاب، وهذا يعني أن بيروقراطيةً مقنَّعة وجدت لها مساحة لتكون ظِلّاً للبيروقراطية الأصلية.

اضف تعليق