من عجائب العلاقات الدولية في الشرق الاوسط ان تتشابك فيها المصالح حد شن الحلفاء حربا على بعضهم، وفي الوقت نفسه ان ينشؤون حلفا مشتركا لمحاربة عدو خارجي، كما يحصل بين الدول العربية والخليجية تحديدا. وفي اليمن مثال واضح في الصراع بين الحلفاء فيما بينهم والاعداء في ان واحد.
في سوريا يزداد الامر تعقيدا مع زيادة عدد الفاعلين الخارجيين وضعف القوى الوطنية او غيابها تماما، فانقسمت البلاد الى ولاءات متعددة اغلبها تدين للخارج، لكنها لا تقوم على صراع ثنائي بين خصمين او حتى ثلاثة، انما هي دوامة من الصراع على مستويات متعددة تتسم باقصى درجات التعقيد.
تركيا العضو في حلف شمال الاطلسي والتي تعد ثاني قوة فيه بعد الولايات المتحدة، تجد انها من اكثر المتضررين من الحرب الدائرة في سوريا، وفي البداية اتبعت استراتيجية قائمة على اسقاط الرئيس السوري بشار الاسد، وعلى هذا الاساس، حاربت كل من يناصر الاسد، واسقطت مقاتلة روسية على الحدود وقتلت طيارها، وما تبعها من ازمة كبيرة كادت ان تؤدي الى حرب كبرى.
مرت السنوات وانقلبت موازين القوى وحتى التحالفات معها، ولدت قوى جديدة وانهارت اخرى، وفي ظل التطورات السريعة وجدت تركيا من الضرورة بمكان ان تغير استراتيجيتها، لتنقلب على حليفها الامريكي السابق، على اثر الانقلاب الفاشل ضد اردوغان.
مؤتمرات استانا التي عقدت برعاية روسية تركية ايرانية اسهمت في تهدئة الكثير من جبهات القتال في سوريا، وبعد ان تم ركن داعش في رفوف التاريخ الاجرامي، وضعفت الى غير رجعة، بدأ الصراع الاكبر بين القوى الدولية لتقاسم مناطق النفوذ واعادة التموضع.
نهاية داعش بالنسبة لتركيا تعني ولادة دولة كردية بحكم الواقع نتيجة الدعم الامريكي الكبير، واذا كانت انقرة قد اجبرت على الاعتراف بالهزيمة امام بشار الاسد الدعوم من روسيا وايران؛ فانها لا يمكن ان تستسلم امام دولة كردية تهدد وجودها الى الابد.
أطلقت تركيا مساء السبت 20 يناير/ كانون الثاني عملية عسكرية ضد المقاتلين الأكراد في مدينة عفرين بريف حلب شمالي سوريا، وأسمتها "عملية غصن الزيتون"، نقلت صحيفة "Yeni Safak" عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن أنقرة لن تتراجع عن نيتها في المضي بعمليتها في عفرين السورية حتى النهاية.
ومن غرائب الازمة السورية ان تقف كل من ايران وروسيا بجانب تركيا التي يفترض انها حليفة للمعسكر الغربي الذي يحاول تعزيز نفوذه على حساب الحلف الروسي، الا ان الانتقادات جاءت من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لكنَّ الدول الثلاث غير مستعدة حتى الآن لمطالبة شريكتهم في حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالانسحاب.
وسائل الاعلام طرحت العديد من الرؤى حول ما يجري في سوريا، واغلبها تصب في خانة الضياع الغربي في سوريا، فمشكلته تكمن في أنَّه لا يمكنه، مع اقتراب الحرب في سوريا من نهايتها، تحمُّل فقدان الدعم الدبلوماسي التركي، لأنَّ أنقرة هي القوة المقابلة الأساسية للسلام الذي ترغب روسيا في فرضه.
كارثة لواشنطن
موقع هافينغتون بوست يرى ان العملية التركية قد تدفع بها للتوصل إلى اتفاقٍ مع دمشق وموسكو. ومن شأن ذلك أن يُشكِّل كارثةً للولايات المتحدة، بعد أسبوعٍ فقط من تأكيد وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، التزام إدارة ترامب بالحل السياسي في سوريا، الذي يتضمَّن في النهاية إزاحة بشار الأسد والميليشيات التي تقودها إيران.
ويقول دبلوماسيون غربيون إنَّ لديهم بعض الرهانات على الأرض: تهديد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بسحب أموال إعادة الإعمار، والتعهُّد بإبقاء 2000 جندي أميركي داخل سوريا إلى أجل غير مسمى، والالتزام المُشوَّش بعض الشيء بمساعدة الأكراد لتشكيل قوة حدودية شمالي سوريا. وقد حذَّر الوزراء البريطانيون أيضاً مِراراً من أنَّ السلام الذي تفرضه روسيا ويترك الأسد ببساطة في الحكم، لن يكون مُستهجَناً أخلاقياً وحسب، بل وغير مستقر كذلك.
لكنَّ قيمة كل أوراق الضغط تلك تتضاءل كثيراً إن افتقدت إلى دعم تركيا، البلد الذي لَطالما دعم المعارضة السورية في الحرب المستمرة منذ 7 سنوات.
وإذا ما انحازت تركيا بدلاً من ذلك إلى جانب موسكو، فستكون روسيا قادرةً على المضي قدماً بتسويتها السياسية من أجل سوريا، التي ستُطلَق في مؤتمر الحوار الوطني السوري، وهو الحدث الذي ترعاه أيضاً تركيا وإيران، ومن المُقرَّر عقدُه بمنتجع سوتشي، المُطِلّ على البحر الأسود، في 29 و30 يناير/كانون الثاني الجاري.
ماذا يخشى الغرب؟
يخشى الغربُ من اعتبار فلاديمير بوتين سوتشي بديلاً عن مباحثات السلام التي تقودها الأمم المتحدة، واعتبارها كذلك تأكيداً لسطوة روسيا في أرجاء الشرق الأوسط. وقد تكون أيضاً وسيلة للتصديق على اتفاقٍ يترك الأسد في السلطة، إلى جانب إدخال بعض التغييرات البسيطة على الدستور السوري.
وفي محاولةٍ للحفاظ على أولوية عملية الأمم المتحدة والخروج بنتيجةٍ سياسية طويلة الأجل تحظى بقبولٍ واسع، سيعقد مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، ستافان دي ميستورا، جلستي مباحثاتٍ مع كلا الطرفين في سوتشي، الأولى ستنعقد في 25-26 يناير/كانون الثاني.
وقد أجَّلت موسكو مؤتمر سوتشي أكثر من مرة، أساساً بسبب اعتراض تركيا على توجيه أي دعوة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) وجناحه المسلح، وحدات حماية الشعب الكردية (YPG). وترى تركيا أنَّ وحدات حماية الشعب الكردية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحزب العمال الكردستاني داخل تركيا.
تقارب بين روسيا وتركيا
لكنَّ أحداث الأيام القليلة الماضية، بحسب ما يقول موقع "هافينغتون بوست" تشير إلى أنَّ تركيا وروسيا قد تكونان قريبتين من التوصُّل إلى اتفاق. فقد توجَّه مسؤولون عسكريون أتراك إلى موسكو قبيل الهجوم التركي، من أجل الحصول على ضماناتٍ بعدم مهاجمة سلاح الجو الروسي داخل سوريا للوحدات التركية. ثُمَّ أعلنت موسكو، الإثنين 22 يناير/كانون الثاني، أنَّ مُمثِّلي الأكراد ستجري دعوتهم إلى سوتشي، دون الإفصاح عن هُوية المُمثِّلين بالتحديد.
ويمكن تمييز الخطوط العريضة للاتفاق، الذي تدعم فيه تركيا عملية السلام الروسية، وتقبل موسكو ضمناً بالتحرك التركي لإضعاف السوريين الأكراد على حدودها.
بإمكان الولايات المتحدة الجدال بأنَّها تساهلت مع التوسُّعات الإقليمية الكردية شمالي سوريا، خصوصاً غربي نهر الفرات، فقط لأنَّه كانت هناك حاجة للميليشيات الكردية ضمن قوات سوريا الديمقراطية لهزيمة داعش، لكن الآن بعد الانتصار في تلك المعركة، فإنَّ أولوية الولايات المتحدة هي وقف السقوط الحر في علاقاتها مع تركيا. وإن كان ذلك يعني موطئ قدمٍ تركياً مؤقتاً في الأرض الخليط، المُسمَّاة سوريا، فليكن.
اضف تعليق