q

هناك خيوط لا مرئية تربط القارئ بكاتبه المفضّل، ومن تلك الخيوط تُبنى علاقة على أساس عدة أركان، منها: قدسية الرسالة، سمفونية الكلمات وكنوز الخيال التي توظفّها اللغة، رابطة المشاعر المشتركة كالحب والحزن والسعادة، وأخيرا شخصية الكاتب أو حياته الشخصية بتعبير أدق، واحيانا حين يهتزّ الخيط الاخير يُهدّم البناء ليكتشف القارئ انه أمام بيت عنكبوت والذي هو من أوهن البيوت!.

في البداية، حديثنا لن يكون عن اولئك المقاتلين بأقدس الاسلحة والذين يقصدهم الحديث الشريف (مداد العلماء افضل من دماء الشهداء)، ولا عن اولئك الذين يلعبون بحبائل الشيطان الخبيثة والذين يملأهم الشر الخالص، بل عن اولئك الذين يتأرجحون بين هاتين الفئتين، وهم موضع الشاهد وبيت القصيد لما نريد البحث عنه.

فقد يُطرب القارئ أحيانا ويُسحر بموسيقى النص وعليه يخلق من صاحب تلك الكلمات أسطورة أقرب الى المثالية، ثم يبددها بعد ذلك من وراء موقف ما او كلمة عابرة او رد فعل خاطئ او خبر يسيء الى الكاتب، ليردد ذاك الحالم بأسف معزوفة خيبة الامل عن محبوبه الذي اكتشف انه "كان صرحاً من خيال فهوى"!.

وهذا يأتي غالباً بعد ان ينسى حامل القلم او يتناسى احدى الوصايا او النصائح الذهبية الموجهة اليه وهي: (ايها الكاتب ما تكتب مكتوب عليك.. فاجعل المكتوب خيراً فهو مردود عليك). وينسى ايضا ان (عثرة القدم أسلم من عثرة القلم).

وليس الكاتب فقط من ينسى هنا _وسبحان من لا ينسى_ بل القارئ أيضا ينسى أو يتغاضى عن قواعد العلاقة والتعامل السليم مع من يخوض غمار الكتابة ومنها حقيقة جليّة وهي أنه امام إنسان مثله تماماً، قد يتخبّط بين متاهات الحياة ويقع في المشاكل، يمر بلحظات غضب وقد يفشل في علاقته مع زوجهِ او في تربية ابنه او ابنته وقد لا ينجح بدراسته او عمله، وقد لا يعرف كيف يتصرّف وماذا يقرر ويطلب المشورة ويفتقر المرشد وهو ذاته الذي أتحفنا يوماً بكلماته المعسولة وأخرجنا من مآزق وأزمات نفسية وعائلية واقتصادية... و(أكل رأسنا) بأهمية احترام الحقوق وتأدية الواجبات وبحّت حنجرته وهو يدعو الى مكارم الاخلاق!.

لتعلو امارات الحيرة وجه القارئ وينظر شزراً الى الكاتب ويقول: لمَ تقولون مالا تفعلون؟! وتنتشر هذه الاحكام بين الناس بسرعة النار في نشارة الخشب، والى نتيجة مؤداها أنّ كلمات الكاتب ما هي إلا (نفاق، كلام جرائد، تصفيط حكي، والكلام ببلاش...)، لتهتز أخيراً ثقة القارئ بكل ما خطّت يمين كاتبه المفضّل والموهوب والمبدع.

حسناً، قد يقول قائل، لا جديد في هذا المشهد، وقد ألفه المشاهد والمتتبع على سواء، اذن ماذا بقيَ لنقوله غير أن الكاتب بشرٌ مثلنا وغير معصوم وهذا ديدن حياتهم والكمال لله ولنسامح زلّاته ونعذر هفواته ونبرر له ونقدم الحجج وغير ذلك..

تكمن هنا اهمية بل ضرورة وجود ركن رئيس يساند حجر الأساس في العلاقة مع الكاتب وهذا الركن لا يأتي بعد عملية القراءة كما يحدث لنا غالباً وبعد تكوين صورة وهمية صنعناها عن شخصية حامل القلم بعد أن أبهرنا بكلماته وحكمه يوماً ما، بل يأتي قبل الشروع بقراءة أي نص (نثري، سردي، شعري، صحفي، علمي،...) وقبل الحكم على مثالية صاحبه وهذا الركن وهذه القاعدة تعتمد بالاساس علينا وهي ببساطة: لا تصدّق كل ما يكتبه الكاتب!. فقد يكذب احيانا عمداً او عن غير عمد، كذبة بيضاء او صفراء.

فهي تعتمد اولاً واخيراً على الوضوح والسلامة في الرؤية وعلى أهمية وضع (نظارة فكرية) قبل السفر والغوص في عالم القراءة وهذه العوينات تساعدنا في إصلاح اي التباس قد يقع لنا، فقد نعاني احيانا من مشاكل في الإبصار من حيث لا نعلم كـ مد بصر او قصر نظر أو حتى حَوَل أبعدنا الله عن كل ذلك.

وهناك مقولة من ذهب لأمير البلاغة والكلام علي بن ابي طالب (عليه السلام) يختصر فيها صحائف جدال ويطوي مراحل علينا من عملية البحث والتنقيب عن السبب في اي اشكال يقع في نظرتنا عن القدوة او النموذج وماذا نصدّق منه وكم هي النسبة في إعطائه العذر بعد ان اتبعناه وصدقناه عن حب أو جهل، وقالها صلوات الله عليه كي لا نغتر دائما بسمعة وشهرة أي شخصية، وهي مقولته المشهورة في حرب الجمل: (إن الحق والباطل لا يُعرفان.. إعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله).

لذلك اختصّ الله أنبياءه وأوصياءه بمسألة العصمة، ولاسيما في قضية الرسالة، وفي هذا المبحث العقائدي تظهر أهمية الايمان بالعصمة المطلقة للانبياء والأئمة والمصلحة في ان لا نقبلها على غيرهم. وهذا الموضوع أثار جدلاً منذ سالف الازمان وهناك تشبيه ومقاربة لطيفة قام بها أحد العلماء في هذه المسألة، فضرب لنا مثلاً ليقرّب أهمية الايمان بالعصمة، وكأن رجلا استلم رسالة من أخيه تحوي بين طياتها الكثير من الاخبار والمبادئ والافكار الكبيرة والصغيرة، المهمة والاقل اهمية، ثمّ يأتي أحد ما ويُخبر الرجل بأنّ هناك في سطر أو سطرين، في أول الرسالة او وسطها او اخرها ربما، التباس او شبهة ما، كلمة مزيّفة، خبر كاذب،حكم غير صحيح وووو.. وهكذا يشكُّ الرجل بكل الرسالة، من أولها الى اخرها، لأنه لا يعلم موطن الخطأ بالتحديد!.

فيقول احد العلماء بما معناه: (إذا رأوا من المعصوم السهو في شيء وامكن عندهم وقوعه منه قاسوا عليه بقية الاشياء فلم يثقوا بأقواله وافعاله حتى في أمور الدين)..

(وعامة الناس لا تدرك الفرق العقلي بين السهو في امور الدين والسهو في غيرها وانما يدرك ذلك الخاصة).

وعودة الى بدء وعن موضوعنا الشائك، عندما يطرح الكاتب قضايا وجودية أو جوهرية ويتبناها وتكون بذلك رسالته علينا هنا أن نعلم أن حاملي الرسالات السماوية هم فقط المعصومين وهم فقط من لا نقبل الشك على كل ما يأمرون به أو ينهون عنه لأنهم منصَّبين من الله.

ولا ننسى أن الكاتب تحكمه مصالح شخصية، ففي السياسة مثلاً (لا صديق دائم ولا عدو دائم بل مصالح دائمة) ونظريات العلم ايضا تظهر كل يوم بحلّة جديدة تناقض أخرياتها، وقد يملك الكاتب نظرة أحادية، أو متعصبة لمجتمعه او ثقافته او طائفته.

ثمّ إن لكل كاتب رسالة وهدف وطريق وشروط ووسائل، وعليه تختلف الغاية من عملية الكتابة من كاتب الى اخر، وقد يصرّح حيناً بتوجهاته وقد يخفيها بين كلماته احياناً اخرى، وقد ينطبق على اولئك كلمات الكاتبة غادة السمّان: (الخطأ الذي يقع انهم يفتشون عني داخل بطلاتي!) وفي مكان اخر تقول: (انا في كل قصة كتبتها، وإن كنت لم اكتب بعد القصة التي هي انا كلها)، وهناك من يكتب ليعتلف، _عذراً لقساوة الكلمة_ فيكتب ذلك المسكين ما يطلبه الجمهور، وحسب السوق يصوغ البضاعة، فأحد الكتّاب صرّح بذلك بأسى وقال: (الكتابة أكثر المهن بؤساً لكسب الرزق باستثناء مصارعة التماسيح!).. وهناك من يرى الكتابة بالنسبة له: كـ "تأمل وصراع وليست من أجل تسلية الجمهور"، واخرون يرونها "اقتراب واغتراب" ولا تنتهي قائمة الاحتمالات للهدف من وراء اشعال الاصابع لتكون النتيجة نورا او حريقا! ليعمل البعض بقول الكاتب: فلتعمّ الفوضى، وليكتب الجميع.

وعليه تصيب الكاتب وعكة عندما يرى ان لا جدوى من الكتابة، أو حقيقة مؤلمة وهي أن لا قرّاء في هذا الزمن الاعوج، وهناك انتكاسة أكبر تصيبه عندما يسمع كلمات من جمهوره العريض وهي: طبّق نصائحك على نفسك أولاً!.

لذلك من الجيد في بعض الاوقات وبعض الحالات ولكي لا يُحبَط الكاتب أن نركّز على الرسالة ونتناسى الرسول، واحيانا اخرى ليس من الجيد ان نقول ان ناقل الكفر ليس بكافر، ومن المستحسن ان نقبل كلمات الكاتب بغض النظر عن حياته وقد تكون حساباتنا في الغالب خاطئة، وان لا نسقط في وحل التفاصيل السخيفة ومنها الانتقادات وحشر انوفنا في حياة الكتّاب وتتبع زلاتهم، ألسنا أُمرنا أن نأخذ الحكمة من افواه المنافقين والمجانين، فلنأخذ الجيد من الكلمات ولندع الكاتب بهمّه.

وقد يكون من الجميل ان تلتقي بكاتبك، وقد يكون الاجمل أن تبقى المسافات بعيدة، ففي الحقيقة قد تفصلك عنه بحار وقارات، فلا تقتحم مملكته لأنك قد ترى كنوزاً مخفية، وقد تجد بيته في كثير من الحالات فارغا وخاويا من كل المشاعر السخيّة التي قرأناها عن لسانه، فذلك الذي عبّد لك طرقا ومنحك مفاتيحا ومرّ عليك بمدن الاحلام، وأمطركَ بقطرات الحب، هو نفسه غاطس في حرمانه وقد يكون بحاجة الى قطرة مطر يتيمة.

والأجمل من كل أولئك هو الذي ميّز بين الذي يمكث في الأرض وبين ما يذهب جفاء، وإن كان متواضع الإمكانيات فكلماته ستخترق القلوب حتماً بصدقه وإخلاصه لتسكن بين ثنايا الفؤاد لأن القلم بالنسبة له رداء جميل ما زاد صاحبه إلا سموّاً وجمالاً. ولذلك قالوا: ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا.

اضف تعليق