هناك إيقاع للكون، لا يسمعه إلاّ مرهفو الحسّ، وللقلوب ألحان يتردد صداها اثر ضربة لأوتار خفية وعميقة، هي نغمات تترنّم وقد تكون؛ جميلة كقيثارة الحياة وأُغرودة عرس، مؤلمة كصفير وعويل رياح السموم، حماسية كرصاص وطبول الحرب، ورخيمة كصوت نايٍ حزين.
هو صوت العاطفة في كل إنسان ذو قلبٍ يخفق باضطراب، وهي تلك العاطفة التي ترافق بعض الأشخاص وتلازمهم كظلّهم ولم تكن بالنسبة لهم ضيفا عابراً، وهي ليست صوتا واحدا، فحيث تُعزف تتشكل سمفونية: الحب، الإيثار، الألم، الشفقة، الحماس، التضحية، القداسة، الحزن، السعادة، والإبداع.
وكان لنا وقفة (عاطفية واعية) مع ألحان وألوان مختلفة ومتعددة ومتمثلّة في أشخاص لهم تجربة مع جلبة المشاعر العاطفية وكان لها دور مؤثِّر في حياتهم وعملهم.
داؤك منك دواؤك فيك
"يقول أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (ع): داءك منك دواؤك فيك". استهلّت (فرقان كريم/ أُم) كلامها بهذا الحديث وأردفت قائلة: هكذا هي العاطفة عند المرأة بشكل عام والأم بشكل خاص، فهي وحدها من تستطيع ضبط ايقاع العاطفة لديها، وتناغم بينها وبين صوت العقل عندها أو عند زوجها، ويجب ان تعرف متى تفتح عين قلبها لتعطي الدواء لابنها المريض في منتصف الليل، ومتى تغلقها وتلجم صوتها إن حاولت الدفاع عنه في موقف خاطئ، وغلبة العاطفة بشكل عام هو سمة للمرأة والأم كما غلبة العقل سمة عند الرجل، لذلك فمهمة الزوج تأتي هنا، فالله عزّ وجل وكَّل كلا الجنسين بمهمّة قد لا يطيقها الاخر.
وتضيف: بطء النبض في القلب يُمرض الانسان او يميته وكذلك تسارع النبضات يفعل ذلك، فالعاطفة عندي كزوجة وأم؛ هِبة ونقطة قوة عليّ تقديرها وأُحسِن استخدامها بتوازن، وهي عامل مهم في تكوين شخصية ابنائي وتنشئتهم، وهي نقطة مهمّة في التربية لأنها مؤثّرة أكثر من العقلانية وخاصة في مرحلة الطفولة، وإن رأيتَ بيتاً لا لون فيه فاعلم أنه بدون امرأة، وإن صادفتَ فردا لا نبض فيه فاعلم أنه عاش بدون أم؛ بدون حب وحنان ودفء، فالمرأة هي نبض الحياة ولحنها وإيقاعها الجميل.
أما رأي (ازهار/ طبيبة أطفال في مستشفى الأورام)، فجاء على الشكل التالي: العاطفة عقدة لم يتسنّ لي حلّها بعد، فقد أتعبتني وأضنتني، ولذلك لم أفلح في تقبّل عملي في اول عهدي بالمهنة، لأني ومنذ بواكير حياتي أملك عاطفة متوّقدة تملأ جوانب نفسي، ومع ذلك اخترتُ أن أدرس وأمارس ما أُحبه وأجيده وهو الطب، والذي يتطلب جرأة وشجاعة لا تناسب طبيعتي، فمن الصعب أن تتعامل مع أطفال ترنو اليهم بعطف وتتعلّق بهم والموت والوجع يحدّق كل يوم في وجوههم.
وتوصلتُ الى قناعة وهي ضرورة فصل وعزل العاطفة في العمل لأقوم بوظيفتي على أتمّ وجه، فمهنتي تتطلب دقّة والتفكير العقلي يتراجع مقابل المشاعر، وقد درسنا حقيقة سيكولوجية وهي ان الانسان حين يكون منفعلاً تتعطل مراكز التفكير الخاصة بالحلول الممكنة لمعالجة وتقييم الحالة.
وتسترسل قائلة: قد يرى البعض أنني أبدلت عيني التي تفيض دمعاً بعيون قاسية ك (ميدوزا) يتحجّر كل من ينظر اليها، لكنّ الحقيقة أنها لا تزال نقطة ضعفي ونقيضها مجرد قناع واصطناع، أنا في المشفى ابدو من الخارج متماسكة كجبل ولكنه في الحقيقة هو جليدي ولم يقدّ من الصخر كما عند بعض زملائي في المهنة؛ فأنا أذوب شطآنا عندما أكون وحيدة في بيتي، ومع كل ذلك فلازلتُ اعتقد أن الطب مهنة انسانية، تتطلب العاطفة فأبتعد عن الماديّة وأراعي مشاعر ونفسية المريض، فلولاها لما كان للشفقة مكان في قلبي، فبعض الاطباء قد تحوّلوا لآلة لا تستمع ولا تحفل ولا تكترث لصفير العواصف في نفس المريض.
أمضى السيوف أرقّها حدّاً!
"العاطفة كرصاصة تسبب للمقاتل نزيفا تودي بمهامه إن لم ينتزعها ويربط الجرح بضماد مقدّس"، يبدأ (محمد/ جندي) كلامه عن تأثير العاطفة في سوح الوغى ويكمل قائلا: "قد تنغرز هذه الرصاصة عميقا، وكلما تحركت أوجعت ضحيتها أكثر، قد يتركها فينهزم (نفسيا)، وقد تعطيه حرارة فيلتقطها ويطلقها على العدو.
ربما يدر بخلد الكثير ان الجندي سيقاتل بقوة اكبر عندما يملك قلبا باردا لا يحفل بما حوله، ولكن اغلب المرابطين في ثغور الوطن لهم نفوس تزخر بمشاعر مختلفة ويعيشون حالة فوضى في العواطف المتباينة، فهم يملكون قلوب كزبر الحديد في مواجهة العدو، ولهم قلوب تنفجر بكاء كالأطفال في أجواء عاطفية كالحنين والاشتياق لأحبّائهم، ولتستعيد التوازن النفسي ولتنتصر؛ عليكَ ان تنتقي من مخزن العواطف ما يقوّيك وليس ما يكسرك.. وهنا يأتي دور توظيف العاطفة في المكان الصحيح.
ويردف قائلا: "بالتأكيد من الصعب أن تكون إنسانا عاطفيا وأنت تقاتل في الجبهات ستضعَف وتُضعف رفاقك وستفقد القدرة على التخطيط، ولكن إذا أتيت برفيق لقلبك، وربطتَ عاطفتك بقيمة مقدسة وهي حب الوطن والدين والمقدسات وإن كان لديك نموذج إلهي يمثّل هذه القيم العليا أجمل تمثيل، كأوجه الوجهاء عند الله؛ محمد وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، ستضحي بالغالي والنفيس من أجلهم، فحين يسكن حب أولئك الأطهار قلبك ستقوى عقيدتك وستسيطر على انفعالاتك وستصبح بلا شك بقوّة السماء.
ولذلك للتعبئة العاطفية أهمية كما (العسكرية والمعرفية)، فهناك اجواء عاطفية تزيد المقاتلين قوّة وبسالة لأنها ترتبط بالايمان والدين وهي مبادئ تُضاف لحبهم لوطنهم (فحب الوطن من الايمان)، فالعاطفة ضعف إن لم يكن الايمان في جوهرها، ولذلك للأناشيد والاشعار الحماسية دور مهم في هذا الجانب، وللخطاب الحسيني العاشورائي اهمية توّظف عندنا، وإن انتميت الى هذه المدرسة، ستكون العاطفة متوقدة متوهجة لديك مع الوعي لأهدافها كافّة، وستجمع شتات عواطفك وتضعها في قالب إيماني، وستمضي بعزيمة وحماس أقوى".
وقد تتجلّى العاطفة في حروف وقوافي ينظمّها ويخطّها اليراع في كلمات وسطور تعزف أجمل الألحان، فلولا العاطفة لما انثالت من فم الشعراء قصائد صمّاء ومن الكتّاب روايات باهرة خلّدتهم وكتبهم، فمن تلك العاطفة اوتوا موهبة الكتابة الابداعية، فألبسوا عواطفهم أجمل ثوب، ووجدوا منافذ للتعبير عما يعتمل في أعماقهم فأسعفتهم الكلمات وكانت وفيّة في حينن وخذلتهم في حين اخر.
وقد شاركنا (علي السندي/ شاعر) برأيه حول تأثير العاطفة في أشعاره: "الناس لن تتذكر كلمات القصيدة بعد انتهاء الشاعر منها ولكن لن ينسوا الشعور الذي سوف يزرعه في قلوبهم ويتركه في أحاسيسهم".
ويضيف: "ان الانسان يتأثر عادة بما يجري حوله من أحداث أو مواقف تمر بباله أو ربما من كلام يسمعه وهذا الامر يترتب عليه ردة فعل تلامس مشاعره سلبا او ايجابا، وكذلك الشاعر ولكن مع فارق أنه ربما يكون أكثر حساسية للموقف وأكثر تأثرا من غيره من الناس مما يعني اختلاف نوع وحجم ردة فعله التي أحيانا يبالغ بها لشدة تأثره العاطفي.
وقد ينتج عن الموقف الواحد عدة مشاعر متناقضة لدى الشاعر وهذا مثال على هذا التناقض: يحزن الشاعر لما يجري في وطنه من حروب فيبكي ويتأثر ويصف حاله وحال وطنه بقصيدة صادقة يكتبها بكل إحساسه وهو بقمة الحزن، وبعد انتهاء القصيدة يشعر بالراحة لقدرته على التعبير عن هذا الشعور ويتطور الشعور ليصبح شعور بالسعادة والفرح عندما يلقي الشاعر قصيدته على الجمهور لينعم بالتصفيق والثناء فتغمره البهجة.
والشاعر يحتاج الى صدق كبير وايمان بما يكتب لكي يصل الشعور للمتلقي، وهنا يحتاج الى عناصر غير العاطفة قد يضيفها بخبرته اللغوية بشكل عفوي وتنتج قصيدة موفقة في كل المجالات، وأهم ما أريد ذكره هو ان الشاعر الذكي هو من يجيد التحكم بمشاعر المتلقي فيضحكه تارة ويبكيه تارة أخرى ويدهشه تارة أخرى.
ومن الضروري ايضا ان نحدد شريحة المستمعين لنفهم ردة الفعل لديهم، فالناس من غير الشعراء سيكونون من أول المتأثرين عاطفيا بمضمون أو موضوع القصيدة أو ما تحمله من مشاعر صادقة سواء كانت حزن أو فرح.. ذم أو مدح.
أما مجتمع الشعراء أنفسهم فهم يتأثرون بمستوى أقل من غيرهم لأنهم يبحثون عن الدهشة الشعرية في الصور وتركيب الأبيات والمعاني وعن التجديد في كلمات الشاعر وقلما يتأثرون ويتفاعلون مع عاطفة النص إلا ربما من عايش نفس القضية ونفس الهم ونفس الشعور.
وهكذا وكما لرذاذ المطر موسيقا عندما يسقط على أرض قاحلة، للعواطف ايضا (نوتات)، إن أمطرت بقوة، ستفيض الارض سيلا فتُميت الزرع، وإن نزلت بقَدَر ستروي بقطراتها ظمأً فتُحيي الارض وستنجبس من قاعها طائفة من الزهور الطيبة وبألوان مختلفة.
اضف تعليق