q

وصل الدين العام الآن إلى مستوى مرتفع غير مسبوق، ويمكن أن يحبط التعافي الاقتصادي الهش. ولتحقيق خفض كبير في مستوى الدين سيتعين أن تكون سياسات المالية العامة داعمة للنشاط الاقتصادي، وأن تسهل إعادة هيكلة دين القطاع الخاص وتنقية الميزانيات العمومية المصرفية من القروض المتعثرة.

وقد استمر ارتفاع الدين العالمي عقب الأزمة المالية العالمية، حتى بلغ 225% من إجمالي الناتج المحلي العالمي مع نهاية 2015، وتشكل التزامات القطاع الخاص حوالي الثلثين، أو قرابة 100 تريليون دولار أمريكي. وبالرغم من أن البلدان ليست جميعا في نفس المرحلة من دورة الدين، فإن مجرد حجم الدين العالمي ينشئ مخاطر تتعلق بخفض غير مسبوق لنسب الرفع المالي – أي تخفيض مستويات الدين – من شأنه الوقوف عائقا أمام النمو على مستوى العالم.

تفاوت في مشهد الدين

من الملاحظ ارتفاع الدين الخاص في الاقتصادات المتقدمة وعدد قليل من اقتصادات الأسواق الصاعدة ذات الأهمية النظامية، ولكن الاتجاهات العامة تتسم بالتفاوت الشديد منذ عام 2008:

في الاقتصادات المتقدمة، مركز الأزمة، كان الحد من نسب الرفع المالي غير متوازن، كما استمر تصاعد الدين الخاص في كثير من الحالات. كذلك ارتفعت مستويات الدين العام، فيما يرجع جزئيا إلى تحمل التزامات القطاع الخاص من خلال إنقاذ البنوك، وأدت إتاحة التمويل في مختلف أنحاء العالم إلى طفرة في الائتمان المقدم للقطاع الخاص في بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة، ومن أبرزها الصين، وفي البلدان منخفضة الدخل، ارتفعت مستويات الدين العام والخاص بفضل زيادة توافر الخدمات المالية واتساع نطاق إتاحتها، بالإضافة إلى تحسن فرص النفاذ إلى السوق، وإن كانت نسب الدين إلى إجمالي الناتج المحلي لا تزال منخفضة بوجه عام.

كل شيء يصب في النمو

يسير خفض نسب الرفع المالي بوتيرة بطيئة حتى الآن في الاقتصادات المتقدمة المثقلة بالديون، وهو ما يرجع في معظمه إلى البيئة الحالية التي تتسم بانخفاض معدلات النمو والتضخم. ويمكن أن يؤدي خفض نسب الرفع المالي إلى تفاقم الأمور بوضع عقبة أخرى أمام النشاط الاقتصادي. وقد تتسبب نسب الدين المرتفعة في إبطاء وتيرة التعافي الاقتصادي لعدد من الأسباب.

أولا، يؤدي ارتفاع مستويات الدين الخاص إلى تعزيز احتمالية الأزمات المالية، وهو ما يقترن في العادة بتباطؤ اقتصادي أعمق وأطول استمرارية من التباطؤ الذي يصاحب حالات الركود المعتادة. ولا تقتصر المخاطر على الدين الخاص، لأن دخول الأزمة المالية بنسب دين عام مرتفعة يفاقم الآثار المترتبة عليها، وهو ما يحدث في الأسواق الصاعدة أكثر من الاقتصادات المتقدمة.

ثانيا، يمكن أن تؤدي مستويات الدين المفرطة إلى فرض عبء على نمو الاقتصاد حتى في غياب الأزمات المالية، حيث ينتهي الأمر بالمقترضين المثقلين بالديون إلى خفض الاستثمار والاستهلاك.

مكملات لرافعة المالية العامة وروافع السياسات الأخرى

وتشير الأدلة إلى ضرورة استعادة النمو القوي والعودة إلى مستويات تضخم عادية حتى يتسنى إحداث خفض ملموس في نسب الرفع المالي. فما الذي يمكن عمله في عالم تخضع فيه حركة السياسات لقيود تفرضها إما محدودية الموارد أو عدم قدرة روافع السياسات (مثل أسعار الفائدة) على اتخاذ خطوات إضافية؟ على صعيد المالية العامة، يمكن أن تكون التدخلات الموجهة مثل البرامج التي ترعاها الحكومة للمساعدة في إعادة هيكلة الدين الخاص والدعم الحكومي لإعادة هيكلة القطاع المالي بالغة الفعالية في الحد من خسائر الناتج التي ترتبط عموما بخفض نسب الرفع المالي في القطاع الخاص. وينظر تقرير الراصد المالي في عدة دراسات حالة استخدمت فيها هذه التدابير، مؤكدا على ما يكتسبه تصميمها من أهمية لضمان النجاح.

وتشير عمليات المحاكاة إلى أن هذه الأنواع من التدخل، إذا أُحسِن تصميمها، يمكن أن يكون تأثيرها أقوى من عمليات التنشيط المالي المعتادة، وخاصة عندما تكون جوانب الضعف في البنوك ناشئة عن انعدام الكفاءة في توزيع الائتمان من جانب الأسر والشركات ذات الملاءة المالية. ولا شك أن هذه التدابير ينبغي دعمها بأطر قوية للإعسار والإفلاس كما ينبغي أن تسترشد بمبادئ قوية للحوكمة حتى يمكن الحد من الانتهاكات وحماية الأموال العامة، ولكن سياسة المالية العامة لا تستطيع حل مشكلة الدين بمفردها. فنظرا لضيق حيز الحركة أمام السياسات، حسبما أشرنا آنفا، من الضروري الاستفادة من كل أوجه التضافر بين أدوات السياسة المختلفة – النقدية والمالية والهيكلية – لتحقيق استفادة أكبر من التدخلات المالية.

منع التراكم المفرط للدين الخاص

يذكر السيد فيتور غاسبار، مدير إدارة شؤون المالية العامة في الصندوق إنه "من المهم وضع تدابير تحول دون تراكم الدين بصورة مفرطة"، وخاصة في الأسواق الصاعدة حيث زاد الرفع المالي في القطاع الخاص بمعدل سريع على مدار السنوات القليلة الماضية. وتطرح ثلاث توصيات أساسية:

- أن تضمن السياسات الرقابية والتنظيمية مراقبة مستويات الدين الخاص وبقاءها في حدود يمكن تحملها.

- أن تكون سياسة المالية العامة مضادة للاتجاهات الدورية في فترات الصعود وأن تنشئ هوامش أمان للوقاية من تأثير فترات الهبوط.

-أن تُلغى بالتدريج ما تتضمنه السياسة الضريبية من حوافز مشجعة على الدين للحد من تراكم الرفع المالي بصورة مفرطة.

وقد علمتنا الأزمة المالية العالمية أنه من السهل للغاية التهوين من حجم المخاطر المصاحبة للدين الخاص المفرط أثناء فترات الصعود الدوري، كما أوضحت تكلفة البطء الشديد في التحرك لمواجهة الأزمات المالية. ويمكن أن تساهم سياسة المالية العامة بأكثر من مساهمتها الحالية في استعادة النمو الاسمي، وتيسير التكيف الاقتصادي اللازم عقب الأزمة، وتعزيز صلابة الاقتصاد في مواجهة الاضطرابات المستقبلية. غير أنها لا تستطيع القيام بذلك وحدها؛ إنما يجب أن تدعمها سياسات مكملة ضمن أطر موثوقة.

اضف تعليق